جغرافيا
15-04-2021

 

 

كان والدي بمقاييسي لغزًا: فعندما يغضب، يقطِّب حاجبيْه، فيتقاربان، حتى يبدو وجهُه وكأنّه ساحةٌ لعاصفةٍ حُبستْ بين قمّة جبليْن؛ أمّا عندما يبتسم، فقد كانت ابتسامتُه تبدو أشبهَ بنافذةٍ مضيئةٍ فُتحتْ دفّتاها على قمم الغيم المحتشدة بينهما.

كان والدي بطلي؛ فلطالما تخيّلتُه شخصًا مهمًّا لا يَعقد الصفقاتِ إلّا مع مَن يأتيه بسلعٍ ثمينةٍ من أراضٍ وبحيراتٍ وينابيعَ بعيدة.

وعلى ضوء النافذة المضيئة تلك، سِرتُ ووالدي في مساراتٍ عدّة.

***

كنتُ في الخامسة عندما قادنا في سيّارة الفولز البيضاء، التي اقترضها من صاحب عمله، لنذهبَ في رحلةٍ عائليّةٍ إلى مدينة جنين.

كان يومًا من أيّام العيد. الجوّ ربيع، ووالداي على وفاق، وكلُّ شيء على ما يرام.

على الطريق السريع، وقبيْل الوصول إلى مدخل المدينة، انعطف والدي فجأةً نحو طريقٍ فرعيّةٍ مرتفعة، وقاد السيّارةَ مسرعًا حتى بلغ الشجرةَ الوحيدةَ التي كانت عند نهايتها. ترجّل، ثمّ استدار نحو الباب الآخر، حيث مقعدُ والدتي، وفتحه.

وقف بكامل قامته الطويلة على عتبته. رفع قامتَه أكثر. وأشار بساعده بعيدًا:

- هذه حيفا!

احمرَّ وجهُه. قطَّب حاجبيْه، واعتصر وجنتيْه، مغالبًا الدمعَ في عينيه. ثم عاد مسرعًا إلى مقعده، وعاود قيادةَ السيّارة على الطريق التي جاء منها.

قلتُ لنفسي: "لا بُدَّ من أنّ حيفا شيء عزيزٌ يستحقّ دمعَ والدي، ويستحقّ وقفتَه المفاجئة."

كانت رائحةُ الهواء مثقلةً بالربيع. وعندما واصلت السيّارةُ مسارَها، أحسستُ برائحةٍ غامضةٍ تأتي من مكانٍ بعيد. تخيّلتُ أنّها رائحةُ البحر، وأحببتُ البحرَ قبل أن أراه.

***

قال والدي إنّه زار حيفا بعد انتهاء حرب 1967 مباشرةً، وزار البيتَ الذي كان يقطن فيه مع والدتي وخلّفا فيه أوّلَ طفليْهما. وذكر أنّه وجد سيّدةً يوغسلافيّةً تسكنه، وحاججها بأنّه يعرف البيتَ جيّدًا، وأنّ في أسفل السجّادة في قعر الدار بئرًا. وأزاح السجّادة: "أتريْن؟" فردّت السيّدةُ اليهوديّة: "هذا بيتُكَ أنتَ أيضًا. تستطيع القدومَ متى شئت!"

كان والدي يبتهج حينما يلتقي يهوديًّا - رأيتُ ذلك من التجّار الذين أتوْا إلى متجره بعد حرب 1967 مباشرةً - فيتبادل معهم بعضَ المفردات العبريّة التي يعرفها. فأسألُ نفسي: "كيف لوالدي أن يتجاذبَ أطرافَ الحديث مع يهوديّ ويبتهج لرؤيته؟" لكنْ، كما ينحسر موجُ البحر عن الشاطئ، كان الابتهاجُ ينحسر عن قسمات وجه والدي المتعبة رويدًا رويدًا، فيقطِّب حاجبيْه، ويقول موجِّهًا سبّابتَه إلى اليهوديّ:

- لا بدّ من أن يعود الحقُّ إلى أهله!

فيما بعد، عرفتُ أنّ ابتهاجَ والدي باليهود الذين كان يلتقيهم كان ينمُّ عن اشتياقه إلى حيفا وإلى نشأته هناك.

ذاتَ مرّةٍ أسرّ لي بأوّل مرّةٍ شعر فيها بالخوف. كان ذلك حينما ضربتْه شظيّةُ قنبلةٍ في إحدى معارك الحرب الثانية، أثناء تنقّله من شارعٍ إلى آخرَ في حيفا. وكان يتذّكر عيد البوريم (أو المساخر) اليهوديّ، فيشرح بمرحٍ كيف كان اليهودُ يهرجون ويمرحون وهم يضعون الأقنعةَ على وجوههم. وحين كان يشاهد أفلامَ ليلى مراد بشغفٍ على شاشة التلفزيون، كان يفاجئنا بقوله: "لقد كانت لها أفلامٌ أخرى، ليلى بنت الفقراء، وليلى بنت الأغنياء." ويبتسم مواصلًا قولَه: "لقد عُرضتْ هذه الأفلامُ جميعُها في حيفا، وشاهدتُها جميعَها هناك!"

كان والدي يبتهج أيضًا عندما يلتقي صديقَه أبا سمير. وكان ابتهاجُه يطول حتى أتخيّلَه شخصًا آخر: بلا حاجبيْن مقطِّبيْن أو غيومٍ محتشدةٍ بينهما. وكنتُ أسمع الكبارَ يقولون: "إنّهم يعرفون بعضهم بعضًا من أيّام حيفا!"

***

وفي مسارٍ آخر، استأجر والدي سيّارةَ تكسي طوال النهار كي نذهب جميعًا – أنا وأشقّائي وأخواتي - في رحلة باللون الأسود والأبيض إلى حيفا نفسها، وإلى عكّا، والناصرة.

لا أعرف يومها لماذا ظلّ والدي معكّرَ الصفو، حزينًا، وبقي حاجباه مقطّبيْن طوال الرحلة، وكان أشبهَ بأستاذٍ صارمٍ يُشْرف على تلاميذَ يودُّ لهم أن يُنهوا واجبَهم المدرسيّ في الوقت المحدَّد.

هذه المرّة، كان الجوُّ شتاءً. وحين بلغنا حيفا، قادنا والدي إلى أرضٍ في ساحةٍ منبسطة. كان المكان يعبق برائحة القراص، التي اختلطتْ برائحة الهواء الرطب القادم من البحر.

نباتُ القراص كان يقف طويلًا، غزيرًا ، شديدَ الاخضرار.

إذًا، كانت حيفا كما تخيّلتُها: خضراءَ، يانعةً، خصبةَ، دافئة.

وتمنّيتُ أن تغزّ خرافشُ ورق القراص جلدي كي يذوبَ الصمتُ الذي سادنا جميعًا، إذ وقفنا على بعدِ مجموعةٍ من البيوت الواقعة على الجهة الأخرى من الأرض الخضراء تلك. وكنّا أشقّائي وأخواتي وأنا – أمام والدي، وخلفه، وعن شماله، ويمينه.

أشار والدي بساعده بعيدًا. ومرّةً أخرى احمرَّ وجهُه بعد أن وقف وهو يدير ظهرَه إلى تلك الديار. ومرّةً أخرى، حين ودّ أن يمنع نفسَه من البكاء، أطبق شفتيْه، وتوتّرتْ عضلاتُ وجهه، وغاصت رقبتُه بين كتفيْه. ثم قال وهو يشير إلى أحد البيوت:

- هذا هو بيتنا، البيت الذي كنّا نسكنه. ولكنّنا لن ندخله.

عند الظهيرة، تناولنا الغداءَ على رصيف خليج عكّا. كان لونُ الشواء يشبه لونَ عكّا: خليطًا من الأبيض والأسود والرماديّ.

عند العصر، كنّا في بيت أبو جريس في الناصرة. ما إنْ فتح البابَ لحشدنا الصغير، حتى باغتنا في غرفة الجلوس فضاءٌ أبيضُ متألّق. كم أحببتُ أبا جريس، وابنتَه الهادئةَ الطويلةَ المبتسمة التي استقبلتنا بكلّ أدب. وكم أحببتُ بيته الذي بدا لي ناصرةً صغيرة. وظلّت الناصرة بالنسبة إليّ فضاءً أبيضَ متألّقًا كالفضاء الذي باغتنا في بيت أبو جريس.

***

بين رصيف الخليج في فضاء عكّا الرماديّ، وفضاءِ الناصرة المضيء في بيت أبو جريس، كنّا - والدي وأشقّائي وأخواتي وأنا - لوحةً سرياليّةً كتلك التي تعلّق في متاحفَ عريقة، ويتأصّل اللونُ والرائحةُ فيها ويتعمّق كلّما ابتعدنا عنها.

لا بدّ أنّها موسيقى الهواجس، موسيقى الأسماء - الناصرة، حيفا، عكّا،... وموسيقى الجغرافيا، امتدادها، سهولها، رائحتها العبقة، تلك التي غَرّرتْ بحواسّي، وجعلتني أرى تلك الرحلةَ أشبهَ بمُكاشفةٍ، بحديقةٍ في حلم، لا تأتي إليكَ مرارًا، ولكنّها لا تبارحك أبدًا.

فلسطين المحتلة

 

 

 

فريال خليفة

باحثة مستقلّة. ناشطة مجتمعيّة. وكاتبة. تخصّصتْ في مجاليْ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط ودرست في جامعات فلسطينيّة مختلفة.