*حوار خاص للآداب، ترجمة سماح إدريس
التقيتُ سليم فؤاد زرو، المديرَ التنفيذيّ لمؤسّسة "النداء الفلسطينيّ الموحّد" (واشنطن)، في أغرب الظروف. فقد سبق لهذه المؤسّسة أن نشرتْ دعوةً إلى جمع الأموال من أجل دعم صديقي نورالدين عمْرو، الذي دمّرت السلطاتُ الإسرائيليّةُ بيتَه في القدس تدميرًا جزئيًّا في 31 آذار 2015. ولمّا كنتُ ناقدةً متكرّرةً لما يُسمّى "المساعدات الدوليّة،" فقد سررتُ لحصولي على هذه الفرصة النادرة لتوجيه الشكر إلى هذه المؤسّسة، ولأشهدَ على روعة الإنسان والقائدِ الميدانيّ الذي دعمتْه. ردّ سليم على رسالتي، وكان قد قرأ ما كتبتُه [عن "المساعدات الدوليّة"]،(1) ورغب في لقائي أثناء رحلته المقبلة إلى فلسطين. وعلى بساطةِ خطوةِ سليم هذه، فقد ميّز نفسَه من مانحين لا "يملكون ما يكفي من الوقت" للتواصل مع الناس، وإنّما يَعتبرون الخدماتِ الإنسانيّة محضَ سلسلةٍ من "المعاملات" [الماليّة] بدلًا من أن تكون شبكةً من العلاقات البشريّة.
في حزيران كتبتُ إلى سليم من جديد، لكنّ رسالتي لم تكن لتهنئته هذه المرة؛ فنور الدين لم يتلقّ المساعدة الماديّة الموعودة، بل جَرَت أيضًا نقاشاتٌ غريبةٌ تتعلّق بالإنفاق، وخشيتُ أن نكون إزاء النموذج القديم ـ وأعني استخدامَ المانحين للمأساة الفلسطينيّة من أجل جمع المِنح الماليّةِ، ملْحِقين، أثناء عمليّة التنفيذ، الأذى بالكرامة الفلسطينيّة والفاعليّة الذاتيّة الفلسطينيّة. وبعد استئذان نورالدين، أعلمتُ سليم بهواجسي تلك، فانخرطنا في نقاِشٍ عميقٍ وصريحٍ (أنظرْ أدناه) بغية تحليل مشتركٍ لتجربته كمانحٍ فلسطينيّ.
|
سليم فؤاد زرو |
نورا: ثمة اختلافٌ [عن الطريقة "الغربيّة"] في طريقة حديثك عن "مساعدة" الفلسطينيين، لكنّ طبيعة هذا الاختلاف ليست واضحة بالنسبة إليّ. أهناك طريقة "عربيّة" في المنْح مختلفةٌ عن الطريقة "الغربيّة،" أو أفضلُ منها؟ أثمّة طريقةٌ في المنْح فلسطينيّةٌ حصرًا؟
سليم: يسرّني أن أسمعَ أنّكِ شعرتِ بأنّنا نحاول أن نكون مختلفين عن منظّمات "المساعدة" التقليديّة. نعم، إنّ كثيرًا من المانحين العرب يستنسخون أساليبَ المانحين الأجانب؛ والسبب هو أنّ "هذا النوعَ من المساعدات" مفهومٌ أجنبيّ، شكلٌ من أشكال الاستعمار، طريقةٌ للسيطرة على السكّان الأصليّين عن طريق خلق روح التبعيّة بدلًا من الاستقلاليّة. فحين تعمد المؤسّساتُ العربيّةُ إلى تقديم "المساعدة،" فإنّها تنظر إلى الخارج بحثًا عن نماذج؛ غير أنّ طريقة "المساعدة" هذه قد لا تنفع أحيانًا.
(الجدير ذكرُه أنّ المانحين ليسوا وحدهم الذين اعتادوا مقاربة موضوع المساعدات مقاربةً بيروقراطيّةً مستندةً إلى استراتيجيّة المنظّمات المانحة؛ بل اعتادها "متلقّو" هذه المساعدات أيضًا. فقد أخبرني سليم أنّه لاحظ، أثناء رحلته الأخيرة إلى فلسطين، أنّ بعض الشركاء الفلسطينيين كانوا يشعرون بالضيق لأنّ "مؤسّسة النداء الفلسطينيّ الموحّد" لا تتّبع استراتيجيّةَ تمويلٍ واضحةً وجاهزةً سلفًا إزاء المؤسّسات المحلّيّة. فأخبرهم سليم، كما أخبرني، بأنّ الإيفاءَ بحاجات السكّان المحلّيّين يعني أن نستجيبَ لهم، لا أن نوجِّههم بناءً على سياساتٍ رُسِمتْ من وراء ظهورهم).
نورا: للوهلة الأولى يبدو ذلك مستحبًّا، وخصوصًا قولك إنّ من واجب المنظّمات المحلّيّة أن تعبّر تمامًا عمّا تحتاجُ إليه. لكنّ الحاجات هائلة، ولا تنتهي، ولا علاقة لها إلى حدّ ما باستراتيجيّة المنظّمات المانحة. أفلن يكون الحديثُ عمّن يَرسم قراراتِ التمويل أكثرَ أهميّةً من الحديث عمّن يحدّد الحاجات؟
سليم: إنّ ما نفعله هو، بالطبع، نقطة جماعيّة في بحرٍ شاسع. فلأوضّحْ أنّ علينا ـ مع شريكنا المحلّيّ ـ أن نقرّر كيف نستجيبُ للحاجات الملحّة والمهمّة، وأن نحدّد الأولويّات ضمن القيود المادّيّة وغيرها. نحن ندرك أنّ استجابتنا ستكون ناقصة إنْ أخذنا في الاعتبار الحاجاتِ الملحّةَ من دون أن تكون لدينا برامجُ ذاتُ رؤيةٍ بعيدةِ الأمد لمساعدة الأفراد والمجتمعات وتمكينهم من التعامل مع أوضاعٍ شبيهةٍ في المستقبل أو تمكينهم من تجنّبها عن طريق بناء الكفاءات المحلّيّة.
|
بيت نور الدين عمرو الذي هدمته قوات الاحتلال الإسرائيلية. |
نورا: هذا هو المأزق التقليديّ الذي يواجه الفاعلين الإنسانيين المهتمّين بالاستجابة للحاجات الطارئة على الرغم من علمهم بوجود المزيد والمزيد من هذه الحاجات. ويبدو أنّك راضٍ إلى حدٍّ معقولٍ عن مقاربة "مؤسّسة النداء": فلديكم مشاريعُ كبيرةٌ وطويلةُ الأمد تشيّد البنى التحتيّة والطاقاتِ اللازمة، شأن مركزكم في رام الله لجراحة الشفة الأرنبيّة والحلق المفتوح والجماجم والوجوه؛ لكنّ لديكم أيضًا مشاريعَ صغيرةً "طارئة" تنفّذ لمرّةٍ واحدة، مثل مساعدة نور الدين الذي احتاج إلى إعادة بناء منزله.
سليم: نعم، هذا صحيح.
لكنْ في حالة نورالدين لم تأتِ مساعدةُ "مؤسّسة النداء" بالسهولة والسرعة اللتيْن كانت المؤسّسة تقصدُهما، وذلك ـــ كما قال سليم ـــ لاعتباراتٍ لوجيستيّة وقانونيّة سبّبتْ كثيرًا من سوء الفهم والتأخير. وحين سافر سليم من الولايات المتحدة وزار نور الدين في آب لم يستغرق الأمرُ أكثرَ من دقيقة لكي يكتشف كلٌّ من الرجلين صدقيّة الطرف الآخر، وفي الدقيقة التالية اتّفقا على آليّةٍ لإنفاق المال ترضي الطرفيْن.
فيما بعد أخبرني سليم أنّ مقاربة حالة نور الدين أصعبُ، مثلًا، من حالةٍ يُطلب فيها إلى "مؤسّسة النداء" شراءُ ألعاب في حضانة أطفال؛ ففي الحالة الأولى "تتضخّم التحدّياتُ بسبب حساسيّة المسألة وحجم المشروع" لأنّ إعادةَ بناء بيته، وكيفيّةُ هذه الإعادة، مسألتان خاضعتان للقانون الإسرائيليّ وللسياسة الإسرائيليّة)
نورا: كلّ شيءٍ سياسيٌّ بالنسبة إلى الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال. وهذا يدفعني إلى التساؤل: لماذا تلتزمون بالقيود بدلًا من أن تستهدفوها؟ لماذا تخضعون لمحدِّداتٍ معوِّقةٍ وغيرِ شرعيّةٍ وغيرِ معقولة حين تقوّض من قدرتكم على القيام بما تقولون إنّكم تقومون به ـــ أي الاستجابة بسرعةٍ للحاجات كما يحدّدها السكّانُ المحلّيّون؟
سليم: لنور الدين الحقُّ الكاملُ في أن يحصل على التمويل الذي أمّنّاه له، وأن يحصلَ عليه في الوقت المناسب، لكي يستطيع القيامَ بما يحتاج إلى القيام به. لكنّ علينا أيضًا مسؤوليةً تجاه عشرات الأفراد المتبرّعين الأسخياء الذين أسهموا معنا في تأمين المِنحة لنور الدين. وهذه المسؤوليّة تعرَّف، قانونيًّا، ضمن دورنا كمنظمةٍ غير ربحيّة في الولايات المتحدة؛ أمّا أخلاقيًّا فنحن مجبرون على تخصيص الأموال للهدف الذي جُمعتْ من أجله. والحقّ أنّ الوفاء بهذه المتطلّبات يستلزم أحيانًا إجراءاتٍ قانونيّة ولوجستيّة قد نفضّل العملَ من دون التقيّد بها، إلّا أن وضعنا القانونيّ كمؤسّسة مسجّلة يرتّب علينا العملَ من خلال هذه المعطيات.
نورا: مانحون آخرون، من غير الفلسطينيين، يتحدّثون مرارًا عن "الأحكام" من أجل تفسير الهوّة بين فلسفتهم وتطبيقهم. فمثلًا قد تقول منظمةٌ غيرُ حكوميّة إنّها لن تدفع لبناء بيتك إنْ لم تستحصلْ على رخصة "إعادة بناءٍ" من الإسرائيليين لأنّ التزامات تلك المنظّمة حيال المانحين تعني أنّها لا تستطيع "إضاعة" مالها على بناءِ ما يرجَّح أن يدمَّرَ من جديد. وهذا أمرٌ منطقيّ إنْ نحن اكتفينا بمقاربة الأمر من وجهة نظر "فعّالية الصرف." بمَ تختلف "مؤسّسةُ النداء" عن ذلك؟
سليم: حين نتحدّث عن كفاح الفلسطينيين وصمودهم فهذا كلُّه من الأمور السياسيّة. لكنْ هناك بعدٌ إنسانيّ أيضًا، وهوالأولويّة بالنسبة إلينا. فحين يدمَّر بيتٌ، تتعرّض العائلاتُ للعنف، ويصاب الأطفالُ برضوضٍ نفسيّة. نحن في "مؤسّسة النداء" نركّز على الأبعاد الإنسانيّة، غير أنّنا لا ننسى قطّ أنّ المشكلة الإنسانيّة سببُها وضعٌ سياسيّ. على سبيل المثال، في عالمٍ مثاليّ، لن نحتاج إلى الكلام على حاجات أطفال غزّة في مجال الصحّة النفسيّة لأنّ هؤلاء الأطفال في الواقع ليسوا بحاجةٍ إلى العلاج بل إلى الحريّة؛ وفي عالم مثاليّ أيضًا ستكون الحياةُ أسهل، وسيتمتع الأطفالُ بالحريّة. لكنّ أطفال غزّة، في واقع اليوم، يحتاجون إلى دعم صحّتهم النفسيّة نتيجة للظروف المتواصلة التي يتعرّضون لها، لذا تعمل المؤسّسة دائبةً على توفير ذلك.
نورا: إذا كان المانحون سيدفعون تكاليفَ خدمات الصحّة النفسيّة في غزّة، فهل يهمّ إذا كان المانحُ فلسطينيًّا أمْ لا؟
كثير من المانحين العرب يستنسخون أساليبَ المانحين الأجانب؛ والسبب هو أنّ "هذا النوعَ من المساعدات" مفهومٌ أجنبيّ، شكلٌ من أشكال الاستعمار، طريقةٌ للسيطرة على السكّان الأصليّين عن طريق خلق روح التبعيّة بدلًا من الاستقلاليّة |
سليم: لا بدّ من أن نميّز هنا بين المانحين والمتبرّعين. للمؤسّسة، التي تعمل منذ سبعة وثلاثين عامًا، ما يزيد على خمسة وعشرين ألف متبرّع في جميع أنحاء العالم، ومن مختلف الأعراق والجنسيّات والديانات. إنّ مؤسّسي "النداء" فلسطينيّون ـ أميركيّون، ومجلسَ أمنائنا كذلك، ومديرَنا فلسطينيّ، ونحن نعتبر أنفسَنا منظّمة محلّيّة لا جهةً مانحة.
هناك فرقٌ بين منظّمات كـ "مؤسّسة النداء،" تعتمد في تمويلها بالدرجة الرئيسة على تبرّعاتٍ خيريّةٍ من أفراد مؤمنين برسالة مؤسّستنا، ومنظماتٍ أخرى تُعتبر جهاتٍ مانحة. فالمنظّمات الدوليّة والجهات المانحة ذاتُ سياساتٍ ومصالحَ قد تنسجم مع مصالح الشعب الفلسطينيّ؛ أمّا سياسة "مؤسّسة النداء" فتتلخّص في تحديد الحاجات المشروعة والمهمّة في المجتمع الفلسطينيّ، وتخصيص الأموال له من مجموع المتبرّعين الـ 25 ألفًا الذين لدينا، وبعضُهم يسهمون بدولاريْن فقط أو بـ 6 أو بـ 100 شهريًّا، لكنّ مستوى التزامهم عالٍ جدًّا. هؤلاء لا يحدّدون السياسات، ولكنْ عند القول إنّ "المؤسّسة" تمنحهم الولاء، فإنّ المقصود هو أنّ هذا الولاء نابعٌ من تقديرنا لالتزامهم دعمَ أهداف المؤسّسة في خدمة الشعب الفلسطينيّ.
نورا: وهل يتسرّب هذا المستوى العالي من الخضوع لمحاسبة المانحين إلى ممارسةٍ تشبه النزعة الخيريّة المدفوعة لإرضائهم؟
سليم: سيحدث هذا إذا أملى المانحون الحاجاتِ التي يودّون تمويلَها. أما في حالتنا فإنّ المتبرّعين يستجيبون إلى حاجةٍ حدّدها السكّانُ المحليّون؛ المتبرّعون هنا لا يَرسمون سياسةً لأيّ تدخّل.
(أتساءل: هل "مؤسّسة النداء" نموذجٌ على العمل الخيريّ التضامنيّ؟ هذا ما يبدو عليه الأمرُ حين يقول سليم: "على نور الدين أن يُمتدحَ لمثابرته، وعلينا أن نناصرَه. وكيف لا نناصرُه؟". لكنْ، من جهةٍ أخرى، يبدو أنّ "مؤسّسة النداء،" على الرغم من نيّاتها الحسنة، مقيّدة فعلًا بعراقيلَ بيروقراطيّةٍ شبيهةٍ بتلك التي تواجه كلَّ الفاعلين الذين يزعمون أنّهم "غيرُ مسيّسين" في فلسطين. وأغادر نقاشي مع سليم متسائلةً: ما معنى أن "نساعد الفلسطينيين" إنْ لم يكن من أجل تحصيل حقوقهم السياسيّة؟ ما معنى أن نكون "فاعلين إنسانيّين،" فلسطينيّين أو غير فلسطينيّين، في خضمّ أزمة سياسيّة؟! لحسن الحظّ أنّ حديثنا لم ينتهِ. فسليم زرو مخلصٌ في التزامه التطويرَ المستمرّ، حتى حين يعني ذلك تعريضَ "مؤسّسة النداء" للنقد. يقول: "إن هؤلاء المتمسّكين بأفكارهم وتهدّدهم الاقتراحاتُ والتساؤلاتُ، إنّما أشبهُ ما يكونون أمواتًا من الناحية الفكريّة." إنّ "مؤسّسة النداء الفلسطينيّ" ليست ميّتة بالتأكيد، وسواءٌ بلغتْ مرتبة "المانح المتضامن" المتميّزة أمْ لم تبلغها بعد، فإنّها بالتأكيد تسهم في النقاش المفيد في معنى "المنح التضامنيّ.")
(1) راجع الآداب، خريف 2012، ص 6.