أحلامُ آخرِ الليل
04-10-2017

 

القطار رقم 9 يعدو في صخب، عابرًا أرضًا خضراءَ لا تزال مبلَّلةً بعد شتوة الليل المنصرم. الصباح سيُسفر عن وجهه بعد ساعة، فيما حسن لا يزال عاجزًا عن النوم، وسيجافيه بالتأكيد على هذا المقعد الرثّ.

بعد شرودٍ طويل اكتشف أنّه جالسٌ بمفرده، وأنّ شركاءه في المقصورة نزلوا تباعًا في محطّاتٍ متفرّقة، بينما كانت جوقاتٌ استعراضيّة تجول في رأسه مؤدِّيةً أدوارًا متناقضة.

أسند رأسَه إلى النافذة التي كانت تغطّيها ستارةٌ مخمليّةٌ خمريّة. وما هي إلّا دقائق حتى اعتراه ذبولٌ مفاجئ، فارتخت مفاصلُه، وتباعد حاجباه، وانسدل جفناه.

 

داخل الحلم، الشابّ ليس وحده.

فتاة أصفهانيّة، عذبة الملامح، تجلس قبالته، بهدوءٍ بالغ. "هي نفسُها التي التقيتُها في المحطّة قبل الانطلاق،" حدّث نفسَه. لقد رآها حين كانت تخاطب شابًّا يرافقها بغضب، اعتقدَ أنّه خطيبها، وأنّ شجارًا أخيرًا وقع بينهما قبل أن يفترقا بلا وداع. أحسَّ بأنّ عليه مواساتَها، لكنّه كان أجبنَ من أن ينظر إليها. وبينما كان مطأطئًا رأسَه يفكِّر  في المَخرج، داهمه النوم، فأسلم رأسَه إلى النافذة.

 

 داخل الحلم، لا تزال معه.

قبل أن يرفع عينيْه عنها استنتج أنّها أبهى أصفهانيّةٍ رآها في حياته. كان نورُ مصابيح الشوارع منسابًا من فتقٍ صغيرٍ في الستارة على وجهها الغضّ، الذي بدا باهرًا كحقلٍ مغمورٍ بالسنابل، تغذّيه عينان رقراقتان أشبهُ ببركتيْن صغيرتيْن أنبتَ الشجنُ على ضفافهما طحالبَ سوداءَ لزجة. تخيّلَ رقّة صوتها، وشكلَ ضحكتها. وخلص إلى أنّ فمًا ورديًّا، كفمها، قادرٌ على منح أيّ قول عبثيّ شكلًا من الحكمة.

أسند رأسَه إلى النافذة من جديد. وقبل أن يجد جملةً مناسبةً يفتتح بها الحديث، أتته سكرةُ النوم.

 

داخل الحلم، كلامُها ثمرةٌ صيفيّة.

ــــ من أين أنت أيّها السيّد؟

ــــ من بغداد، وقد أتيتُ للزيارة، قال بلغة فارسيّة سليمة.

ــــ أحبّ بغداد، لكنْ للأسف لم أزرها بعد.

سكتتْ قليلًا ثم أردفتْ:

ــــ أرغب في زيارتها قريبًا.

ــــ عظيم عظيم، كرّر أكثر من مرّة. نزورها معا إنْ شئتِ، قال ضاحكًا.

ابتسمتْ، فانكشف صفٌّ متراصٌّ من الأسنان البيضاء والسويّة.

هكذا انقطع خيطُ الكلام. لم يجد ما يضيفه إلى هذا الحوار القصير، الذي إنْ لم تكن له غايةٌ إلّا الكشف عن هذه الأسنان الماسيّة لكانت غايةً راجحة. قلَّب في رأسه طُرقًا قد تنفع في خلق حوارٍ لا ينتهي بهذه السرعة، لكنّ أيًا منها لم يرقْه. ثم انتهى به التفكير إلى نوم مباغت.

 

داخل الحلم، الحلم يغلي كالسماوَر.

ــــ إذن تعلِّمين الرسم؟

ــــ صحيح، في إحدى المدرس الحكوميّة.

ــــ جميل! خبْرتي قليلة في الرسم، لكنّ ذائقتي جيّدة.

ــــ يستطيع المرء ادّعاءَ ما يشاء، قالت بأداءٍ مسرحيٍّ رتيب.

ــــ تمامًا، خصوصًا إنْ لم نرَ  أيًّا من رسومه.

خبّأتْ ضحكتَها خلف كفّها، فأخذ قلبُه يهتزّ. وقبل أن تخمد الضحكةُ في وجهها، أخرجتْ لوحةً صغيرةً من محفظةٍ جلديّةٍ سوداء كانت تضعها إلى جانبها.

 ــــ أنظرْ! قالت، قبل أن تسلّمه بطاقة معايدةٍ صغيرة.

كانت البطاقة بيضاء مستطيلة، يحمل غلافُها قلبًا أحمرَ صغيرًا، وعبارةً مكتوبةً بالإنكليزيّة: "عيد ميلاد سعيد."

ــــ افتحْها!

أخذ يفتحها ويغلقها سريعًا، على سبيل المناكدة،قبل أن يفتحَها للمرّة الأخيرة وينظر.

ــــ رائعة! قال مبتهجًا.

ــــ أهداني إيّاها أحدُ طلاّبي في عيد ميلادي. لقد ضخَّم حاجبيَّ بعضَ الشيء، لكنّها عمومًا تشبهني كثيرًا. صحيح؟

ــــ أكيد، هتف بثقة.

أخذ يدقّق في وجهها المحمولِ فوق يديه، فوجده هذه المرّة لا يقبل القسمة: يُرى كلًّا أو لا يُرى.

لكنْ، مَن يدري كيف استطاع النومَ ووجههُا يقظٌ بين يديه؟

 

داخل الحلم، أو خارجه.

ــــ هيه أنت! استيقظْ! لقد وصلنا، خاطبه أحدُ عمّال المصلحة.

فتح حسن عينيْه دهشًا. أبعد رأسَه عن النافذة، فأحسّ بألم في رقبته. كانت البطاقة مغلقةً بين ركبتيْه، و الأصفهانيّةُ غادرت المقصورة.

حمل حقيبته وأسرع الخطى نحو البهو الخارجيّ.

قبيل بلوغه الدرجَ المؤدّي إلى خارج المحطّة، صادفها جالسةً على مقعد حجريّ إلى جوار عجوزٍ كابٍ. اقترب منها بتؤدة، إذ كان متوجّسًا من محادثتها من جديد. لكنّ فكرةً عظيمةً لاحت له فملأته جرأةً. اقترب منها وهو يقول:

ــــ سيّدتي، لقد نسيتِ بطاقتكِ معي.

ثم مدّ يده إلى جيب سترته.

ــــ لم أنسَ شيئًا. أرجوك، ابتعدْ عني.

ــــ لكنْ لماذا...؟

قاطعتْه بعصبيّة بالغة:

ــــ أنت لست أكثر من حلم مرّ في حياتي ورحل، هل تفهم؟!

رمقها بنظرةٍ منكسرة، ثم أدار لها ظهره، وأخذ يمشي مشيةً جنائزيّة.

كان الجوّ باردًا وفارغًا تمامًا، وكانت البطاقة لا تزال في يده. أما ساعة المحطّة الكبيرة فكانت تشير إلى الرابعة.

ها إنّ الصبح قد أسفر عن وجهه أخيرًا.

بيروت

محمد مهدي عيسى

كاتب وطالب جامعيّ لبنانيّ.