وجبةُ آخر أيّام الأسبوع
09-07-2016

 

تمدّدتْ على الكنبة لتأخذ قسطًا من الراحة. كانت قد أنهت جلَّ أعمالها المنزليّة اليوميّة. غسلت الصحونَ، ومسحتْ أرضيّةَ الدار، وأعادت غسلَ قمصان زوجها التي لم تنظَّفْ في الغسلة السابقة. لم يتبقّ من العمل إلّا أيسره: إعدادُ الطعام.

كان طبخُها يعجب الجميع يوم كانت تعدُّه للأقارب الوافدين إلى دار أهلها. ولكَمْ فرحتْ حين كانت خالتُها صفيّة تثْني على براعتها في إعداد حساء الأرزّ المطبوخ بمرق الدجاج. كان هذا الحساء هو حساءها المفضّل ضمن قائمةٍ طويلةٍ من الوصفات العديدة التي كانت تحفظها. لكنْ، قبل أيّام من زفافها، أضحى الطبخُ في نظرها عمليّةً معقّدةً تذكّرها بحصّة الكيمياء والمختبر. كانت وصايا أمّها تتوالد في أذنها على الدوام:

"مفتاحُ الرجل لقمة... أكثري من المرق في الطبخ، فالرجال يحبّون الدهن... إيّاكِ أن تقع شعرةٌ في صحن زوجك... الشعر فوق الرأس زينة، وفي الصحن قذارة..."

كانت في معظمها وصايا جديدة، إلّا أنّها بثّت في قلب "عفاف" الخوفَ من القيام بأيّ خطوةٍ غيرِ محسوبة قد تُفقدها عريسَها أثناء الطبخ.

جافاها النومُ الساعة كما ليلة أمس. هي الآن على الكنبة ذاتها، تراقب عقربَ الساعة الأحمرَ، السائرَ باتّزان. ساعتان ويدقّ زوجُها البابَ عائدًا من عمله. العقرب المتأرجح بين الأرقام أعادها إلى الوراء فجأةً، عند الساعة الثالثة من بعد ظهر يومٍ شتويٍّ هذا العام. كانت جالسة تحت مظلّة قرميديّة في فناء ملعب المدرسة بانتظار والدها، حين سمعتْ صديقة لها تحادث أخرى بكلامٍ بدا لها مثيرًا للاهتمام. كانت تقول لها بصوت خافت: "الأسبوع الأوّل بعد الزفاف هو الأجمل في عمر الفتاة. إنْ أسَرَتْ قلبَه ذلك الأسبوعَ فستأسره العمرَ كلّه."

في المطبخ، وقفتْ عفاف تقطّع أوراقَ الخسّ وحبّاتِ البندورة. ستُعدّ السلَطة التي يحبّها زوجُها، إلى جانب الطبق الرئيس: البندورة على شكل مكعّباتٍ متساوية، والخسّ على شكل مستطيلاتٍ دقيقة. ما أشدَّ ما يذكّرها هذا بالهندسة التي عشقتْها! منذ صغرها كانت الأولى في صفّها في الرياضيّات الهندسيّة. ستنتظر إلى أن تستطيع أن تقنع زوجَها بالسماح لها بدخول الجامعة. أمّها همستْ لها يوم كانت متردّدة في قبوله زوجًا: "سنتان ويكون القرارُ لك، سيَقْبل حينها. سيَقْبل".

"الغداء جاهز،" نادت بصوتها اللطيف زوجَها الذي وصل لتوّه، ودخل إلى غرفة النوم كي يبدّل ملابسه.

ـــــــ سآتي بعد قليل. ستبدأ نشرةُ الأخبار بعد دقيقة واحدة.

ــــــــ ـسيبرد الأكل.

ــــــــ آكله باردًا، لا عليكِ. كلي أنت ولا تنتظري أحدًا.

كان متابعًا شرسًا للسياسة، رغم أنّه لا ينتمي إلى أيّ حزب في البلد. عفاف لم تكن كذلك؛ كانت تمقت السياسة وأهلَها، ولم تكن لتفقه منها شيئًا رغم نشأتها في بيت حزبيّ. لكنّ ولعَ زوجها بالسياسة دفعها إلى متابعة الأحداث السياسيّة بشكلٍ أكبر، خصوصًا حين اكتشفتْ أنّ فهم بعض كلام زوجها يحتاج إلى الإحاطة ببعض القضايا السياسيّة. وعلى سبيل المثال، فإنّه علّق منذ يومين على اقتراحها بزيارة أهلها بالقول: "أعدكِ بذلك في القريب العاجل، وأحلفُ لك بشرف وزير الماليّة أنّ ذلك سيكون في الغد."

وقتها، راجعتْ تاريخَ وزير المالية، فأُحبطت.

الآن هي جالسة مع زوجها على طاولة السفرة. رجل أربعينيّ وسيم سحرتْ عيناه الخضراوان أمّها، فيما أقنعتْ طلاوةُ لسانه باقي أفراد عائلتها بأنّه العريس المناسب. ألم تر هي ذلك أيضًا؟ لا يهمّ. الحبّ يأتي بعد الزواج، ربّما. هكذا قيل لها.

تنظر إليه الآن، فيما هو شارد في مكانٍ ما. توقّعتْ أن يكون خيالُه محلّقًا في محلّ البقالة حيث يعمل. وحين قطعتْ ذبابةٌ شرودَه، باشرا بتناول الطعام بهدوء كما هي العادة. لم يكن ليرقها الهدوء، لكنّها تخاف من التحدّث بما قد لا يكون مناسبًا.

أنهى طعامه. سألته بتودّد: هل أعجبك الطعام؟

ـــــــــ مقبول، لا بأس به.

لقد خسرتْ آخرَ جولاتها. انتهى الأسبوعُ الأوّل.

بيروت

محمد مهدي عيسى

كاتب وطالب جامعيّ لبنانيّ.