ألم الحرب
29-06-2018

 

يحدث أن نُفرغ ذاكرتَنا ونحن نكتبها على البياض بحبرٍ أسود. كنتُ أرى الأحرفَ كيف تتلوّى. ليس الوقتُ بطيئًا كما كنّا نعتقد، ولا النجومُ في متناول أيدينا المتعانقة، ولا الأملُ أفضلَ الأشياء كما تغنّيْنا ذات يوم، ولا الخَلاصُ قابَ خيبتيْن أو أدنى.

بعد ما قالته أمّي، لا أستطيع أن أعتبر أنّ الأيّام القادمة  قد تكون "مستقبلًا." أذكر حين قالت لي إنّ الحرب "حالة طبيعيّة للحياة، وأما السلام فوَمضة." أُمّي لا تكذب عليَّ، وأنا أصدِّقها في كلّ ما تقوله... وإنْ كانت تطلق تلك البِدَع التي تلّقتها عن جدّاتها، كوضع الثوم مثلًا على كتفِ مولودٍ جديد .

هل جرّبتَ يومًا أن تأكل، أن تتنفّس، أن تنامَ، كميِّت؟ هل جرّبتَ أن تعانق أشدَّ كوابيسك رهبةً؟ تلك العناقات لا تخلّف رائحةً على جلدكَ، وإنّما ثقبًا في جبهتكَ يُخلّد أثرَ رصاصةٍ اخترقتْ جدارَ أحلامك. لا عليك. سأكون أكثرَ تفاؤلًا هذه المرة وسأسألك إنْ جرّبتَ أن تستيقظ وفي رأسك رصاصةٌ حيّةٌ قد تقتلك في أيّة لحظة. لا أقصد الموت هنا. هذا ما يُطلق عليه: الخوف.

أفكّر مليًّا: ماذا عليّ أن أفعل في مواجهة الحرب القادمة؟ هل أُتقن لغات العالم حتّى أضمن هجرة مريحة؟ أمْ أتقلّد منصبًا سياسيًّا لأبقى على كرسيّ فضفاضِ ومريح أراقب منه الموتَ من بعيد؟
لا أعرف ما الذي يبقيكَ حيًّا بعد كلّ هذا، أو كيف تجهد كي تثبت لنفسك أنّك ما زلتَ حياً؟!  قد يكون السبب هو قلبك الذي يخزك حين يتقلّص، فيسطع وهجُ أمله مجدّدًا. وقد يكون اسمكَ الذي تخاف أن ينساه الجميع، فلا تكفّ عن تردداه بُغية التصالح مع فشلك. وربما يعود السبب إلى خطوات رقصتك التي أضعتَ إيقاعها. وربما هو استمناؤك الدائم كي تصل إلى نشوة البكاء.

وكما كلّ يومٍ، أقوم بتفقّد جسدي عندما أستيقظ، لأجد  عضوًا جديدًا أكثرَ تالفًا مع حالتي النفسيّة. لم تعُد أعضائي تقوم بوظائف روتينيّة، بل وظائف أكثرُها عاطفيّ. أملك يدَيْن: واحدة للتلويح، والأخرى لمسح الدّموع. وأذنيْن: واحدة صمّاء نجت من انفجار قويّ، وأخرى تميّز الأصواتَ بصعوبة. وقدمين لا تقويان على حملي، فأبقى معظم الوقت جالسًا أو أشحذ الهممَ لأسير بعض الخطوات قدمًا. لديّ لسان مشلول، وقلب متعب، لا يكفّان عن سؤالي: "من أنت؟"

أنا جثةٌ هامدة لروحٍ غابرةٍ تقطُن الكهوف. أنا الكلمة المكتومة التي تتنقل بين المُدن الخالية من الضمائر. أنا المقابر الموحشة الممتلئة بقلوبٍ ميتة، تسيرُ مشلولة الأطرافِ، مُغبرّة َالوجه، عمياءَ، خرساءَ، قطعوا لسانها كي لا تنطق.
أنا الأوطان التي نزعتْ صمامَ الأمان من الأفواه المُغلقة عمدًا، وانفجرتْ في وجهِ كُلّ مَن قتلها. أنا غصّةٌ عالقةٌ كشوكةٍ في حلقِ يتيمٍ معدمٍ، يُحملق في لُعبة جميلة من خلف زُجاجِ متجر الألعاب، تمنّى لو عانقها قبل نومه. أنا فُستان زفافٍ في خزانة راهبةٍ عاشقة، حُرّمَ عليها الزواج. أنا اللاشيء. أنا اللاأحد.

نحن الموتى ننسى الشوارعَ التي حملتْ تعبَنا وفرحَنا فيما نحن نحاول إعدامَ العاطفة من فوق شواهق أحزاننا كي ننجو. نحن الموتى ننام في قبورنا الباردة، ونتذكّر صوفَ الجدّات، وصوتَ الحطب المحترق في المدفأة شتاءً. سيمضي وقت طويل سدًى، بينما ستنساب أيّامُ حياتك من بين أصابعك كما لو أنك تداعب وجهَ الماء حتى تنسى اللمس.

في الحرب، بعد أن شيّعوه، عثرتْ أمُّه على قدمه المبتورة فوق سطح البيت. كانت تقول: "دعوني أسقِها؛ فربما تنبت فيها روحُ ابني."

لا مكان هنا لأشعّة الشمس و الورد. لا مكان للحياة أصلًا. طُردنا من كل شيء؛ فلعلّ وعسى ألّا نُطرد من رحمة الله.

 

                                                                                             بيروت

سومر العتر

كاتب ومدوِّن سوريّ مقيم في بيروت. له العديد من المقالات المنشورة في مواقع عربيّة ومحلّيّة. حائز شهادةً في الطبّ البيطريّ من جامعة الفرات.