أميركا اللاتينيّة: تكسّر الموجة اليساريّة الثالثة
24-02-2019

 

1

ثلاثُ موجاتٍ يساريّة حصلتْ في أميركا اللاتينيّة:

- الأولى بتأثير ثورة أكتوبر الروسيّة عام 1917، وقد أنشأتْ مدًّا شيوعيًّا قويًّا في الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا والتشيلي.

- الثانية في الستينيّات بتأثير الثورة الكوبيّة عام 1959 بقيادة فيديل كاسترو، وتكوّنتْ من حركات اليسار الجديد، وخاضت حربَ عصابات، على غرار تجربة كاسترو التي أسقطتْ نظامَ باتيستا الموالي لواشنطن. وقد رأينا تلك المنظّمات في فنزويلا والبيرو وبوليفيا، وفي حركات طلابيّة قويّة كما في المكسيك.

- الموجة اليساريّة الثالثة كانت في فنزويلّا مع هوغو تشافيز، الذي فاز بالانتخابات الرئاسيّة عام 1998؛ وفي البرازيل مع لولا داسيلفا، زعيمِ حزب العمّال الذي تولّى الرئاسة عام 2003. فبعد عدّة جولات انتخابيّة مع مرشّحين يمينيين للرئاسة البرازيليّة بالتسعينيّات، عكست الأصواتُ التي نالها داسيلفا الصعودَ القويّ لحزب العمّال.[*]

 

 2

تأسّس الحزبُ الشيوعيّ الأرجنتينيّ عام 1918 ليكون أوّلَ حزب شيوعيّ أميركيّ لاتينيّ ينشأ بعيْد ثورة أوكتوبر. وقد ظلّ الشيوعيّون هناك أقوياء حتى الحكم العسكريّ بين عاميْ 1976 و1983، ولم يستطع حكمُ خوان بيرون (1946 - 1955)، الذي قام بإصلاحات اجتماعيّة ولاقى تأييدًا قويًّا في الوسط العماليّ، أن يُنزل الشيوعيين من "عرش" اليسار الأرجنتيني. وقد شغل فيتوريا كودوفيا، أمينُ عام الحزب الشيوعيّ الأرجنتينيّ، منصبَ ممثّل الأمميّة الثالثة (الكومنترن) بين عاميْ 1919 و1943 في أميركا اللاتينيّة. لكنْ، خلال فترة حكم البيرونيين، مع  كارلوس منعم بين عاميْ 1989 و1999، ظهر ضعفُ الشيوعيين.

في فنزويلا ظلّ الحزب الشيوعيّ، منذ تأسيسه سنة 1931 وحتى انشقاقه عام 1971، الحزبَ اليساريّ الأقوى. وقد انقسمتْ قيادةُ الحزب تجاه دعم حركة حرب العصابات بقيادة دوغلاس برافو (وهو عضو في الحزب)، إلى أن حسمت الأمرَ في نيسان 1965 عندما قطعت الدعمَ عن برافو، المدعومِ من هافانا المختلفةِ مع موسكو. وهذا ما أسهم كثيرًا في انشقاق الحزب عام 1971.

تشيلي كانت حالةً خاصّة. فقد كان الحزب الشيوعي قويًّا منذ تأسيسه عام 1922 في الأوساط العمّاليّة والطلّابيّة وعند المثقفين، لكنه لم يكن في قوّة الحزب الاشتراكيّ المستند إلى الفئات الوسطى. قبيل سنة من ايصال سلفادور ألّيندي للرئاسة بتحالفه مع الشيوعيين سنة 1970، حصد الشيوعيّون في الانتخابات البرلمانيّة 16،6% من مجموع الأصوات.

أما المكسيك فقد تكون حالةً خاصّة أيضًا. إذ تزامن انتصارُ الثورة المكسيكيّة (1911 - 1917) على الديكتاتور بورفينيو دياز، والوصولُ إلى  دستور 6 شباط 1917، مع  حدوث ثورتيْ شباط وأوكتوبر الروسيّتين سنة 1917. وقد هيمن الحزبُ الثوريّ على الحياة السياسيّة المكسيكيّة منذ العام 1929، فقاد تأميمَ الشركات النفطيّة الأميركيّة والأوروبيّة وعمليّةَ الإصلاح الزراعيّ الواسع النطاق. لم يستطع الشيوعيّون المكسيكيّون منافسة الحزب الحاكم على زعامة اليسار المكسيكيّ، على الرغم من نفوذهم الواسع بين الطلبة والمثقفين حتى الستينيّات. وقد أظهر الحكمُ المكسيكيّ استقلاليّتَه عن واشنطن عندما رفض السيرَ مع  الإجراءات الاقتصاديّة والدبلوماسيّة العقابيّة الأميركيّة على كوبا منذ أوائل الستينيّات.

 

 

في فنزويلا انقسمت قيادة الحزب الشيوعيّ، في الستينيّات، تجاه دعم حركة حرب العصابات بقيادة دوغلاس برافو

 

3

كان انفجارُ الخلاف الصينيّ - السوفياتيّ في حزيران 1960 العلامةَ الأولى لبدء تراجع المدّ اليساريّ العالميّ الذي بدأ مع ثورة أوكتوبر 1917. كان هذا المدّ يتمظهر أساسًا من خلال أحزاب الحركة الشيوعيّة العالميّة. في الستينيّات كان المدّ اليساريّ، الذي أخذ شكلَ "اليسار الجديد" عبر أفكار هربرت ماركوز وريجيس دوبريه، يمضي بمعزلٍ عن  الشيوعيين، كما حصل في ثورة أيّار 1968 الطلّابيّة الفرنسيّة، وعلى حساب الأحزاب الشيوعيّة في أميركا اللاتينيّة. ولم يكن ذلك كلُّه من دون دلالة، إذ فشلت المفاوضاتُ التي حصلتْ في اليوم الأوّل من العام 1967 بين غيفارا وأمينِ عامّ الحزب الشيوعيّ البوليفيّ ماريو مونخه، الذي رفض تقديمَ الدعم لغيفارا في تجربته البوليفيّة لحرب العصابات (أيلول 1966 - تشرين الأول 1967).[1] وقد  كان الاختيارُ المفروض على الحزب الشيوعيّ البوليفيّ من أخطر ما واجهه من مشكلات، إذ عُدّ انخراطُه في الكفاح المسلّح خروجًا صريحًا على الاستراتيجيّة السوفياتيّة.[2] وقد ظلّ التباعدُ السوفياتيّ - الكوبيّ قائمًا حتى سنة 1975، وهو تباعدٌ كان قد بدأ بتأثير عدم الرضا الكوبيّ عن صفقة خروتشوف - كنيدي التي أنهت أزمةَ وجود الصواريخ السوفياتيّة في كوبا سنة 1962. دعمتْ كوبا تشي غيفارا في بوليفيا، ودوغلاس برافو في فنزويلا، وتجربةَ حرب العصابات في البيرو بقيادة هوغو بلانكو، في حين كان الاتحادُ السوفياتيّ والأحزابُ الشيوعيّة في أميركا اللاتينيّة ضدّ تجارب حرب العصابات هذه.[3]

هنا، عانت الأحزابُ الشيوعيّة في أميركا اللاتينيّة آثارَ الخلاف الصينيّ – السوفياتيّ. وكثيرٌ منها انشقّ إلى جناحيْن: أحدُهما مُوالٍ لموسكو، والثاني لبكين. وعانت هذه الأحزابُ أكثر بُعيد ظهور اليسار الجديد، الذي أفرز يسارًا ماركسيًّا مُختلفًا عن ماركسيّة أحزاب الكومنترن. كان الحزب الشيوعيّ في التشيلي استثناءً، إذ ظلّ في حالة نموّ، حتى انقلاب بينوشيه على أليندي في 11 أيلول 1973؛ وعندما سقطتْ تجربةُ اليسار التشيليّ بفعل انقلاب العسكر المدعوم من واشنطن، شهرَ اليسارُ الجديدُ سكاكينَه ضدّ الشيوعيين التشيليين، متّهمًا إيّاهم بـ"النزعة البرلمانيّة،" وبأنّهم لم يأخذوا في الاعتبار "دروسَ الثورات،" إذ كان "يجب تطهيرُ جهاز الدولة من قوى الثورة المضادّة."

كان فشلُ الموجة اليساريّة الثانية في أميركا اللاتينيّة في النصف الأوّل من السبعينيّات وبالًا على مجموع اليسار في أميركا اللاتينيّة. فقد دفعت الأحزابُ الشيوعيّة، وفصائلُ اليسار الجديد، ضرائبَ الفشل، لتبدأ موجةٌ يمينيّةٌ في أميركا اللاتينيّة منذ أواخر السبعينيّات، زادت قوّتُها مع الانهيار السوفياتيّ بين عاميْ 1989 و1999. ولقد دفع تراجعُ اليسار في أميركا اللاتينيّة واشنطن إلى التخلّي عن دعم أنظمة الحكم العسكريّة، بدءًا من الأرجنتين (1983) والبرازيل (1985) والتشيلي (1989).

 

4

مع وصول هوغو تشافيز إلى الرئاسة بعد انتخابات 1998 في فنزويلا، ووصول لولا داسيلفا إلى الرئاسة في البرازيل عام 2003، حصلتْ "موجةٌ يساريّة ثالثة" في أميركا اللاتينيّة. تشافيز، وهو ضابطٌ سابقٌ مسجون بسبب محاولةٍ انقلابيّةٍ فاشلة، قال إنّه يقود "ثورةً بوليفاريّة،" نسبةً إلى سيمون بوليفار، المحاربِ من أجل استقلال أميركا اللاتينيّة عن الإسبان في بداية القرن التاسع عشر. كان تشافيز يشبه جمال عبد الناصر، وهو معجبٌ به. عسكريٌّ معادٍ لواشنطن، يطمح  إلى فكّ التبعيّة، وإلى إصلاحات اجتماعيّة لصالح الفقراء والمهمَّشين ذوي الأصول الخلاسيّة (يشكل الخلاسيّون 70 بالمائة من نسبة الفقراء، والزنوج 7 بالمائة منهم)، في مواجهة البيض (ونسبتُهم 20 بالمئة، أغلبُهم أغنياء أو من الفئات الممسكة بالإدارة).[4] داسيلفا أيضًا نقابيّ عماليّ ذو منشأ اجتماعيّ فقير، استطاع أن يضع حزبَه (حزب العمّال) في مقدّمة المشهد السياسيّ خلال فترة قصيرة بعد تأسيسه سنة 1980؛ كما استطاع أن يضع برنامجًا من أجل "إدخال الأخلاق في السياسة" في بلدٍ ينخر إدارتَه الفسادُ، وأن يطرح برنامجًا اقتصاديًّا- اجتماعيًّا لصالح غالبيّة اجتماعيّة تعاني الفقر والتهميش.

 

قاد تشافيز ثورةً بوليفاريّة، نسبة إلى سيمون بوليفار، المحاربِ من أجل استقلال أميركا اللاتينيّة

 

نجح الاثنان في البدء. وترافقتْ تأميماتُ الشركات الأجنبيّة في فنزويلا مع ارتفاع أسعار النفط، ومع إصلاحات اجتماعيّة أفادت الفقراءَ الحضريين والريفيين. وهذا ما سمح بنشوء قاعدة اجتماعيّة كبيرة لحكم تشافيز. لكنّ هذا لم يستند إلى تطوير اقتصاد منتج، بل إلى توزيع الريع النفطيّ (كحال دول الخليج)، لتقديم خدمات الإسكان والصحّة والتعليم وتقديم المواد الغذائيّة والاستهلاكيّة بأسعار منخفضة، وهو ما ساهم في تخفيض معدّلات الفقر وزيادة الدخل. انقلبت الآية منذ العام 2012 مع بدء معدّلات التضخّم النقديّ في الارتفاع. وبعد عام من وفاة تشافيز وتولّي نيكولاس مادورو الرئاسة سنة 2013، جاء انخفاضُ أسعار النفط مسبِّبًا انهيارَ الاقتصاد الفنزويليّ ودخولَ البلاد في أزمة اقتصاديّة اجتماعيّة سياسيّة كبرى. منذ هبوط أسعار النفط في النصف الثاني من العام 2014، هبطت القدرة ُالشرائيّة بنسبة 80 بالمئة، والمستوردات بنسبة 25 بالمئة. وبين آذار 2011 وكانون ثاني 2018 نزل الحدُّ الأدنى للأجور من 250 دولارًا أميركيًّا إلى 50 دولارًا. في عهد مادورو زاد الفسادُ الحكوميّ ونشأتْ فئةٌ واسعةٌ من المستفيدين من حضور الدولة في الاقتصاد. استفاد هؤلاء من قدرتهم على الوصول إلى المراكز الرسميّة لصرف العملة. واستفادوا من شراء الدولار بالسعر الرسميّ كيما يبيعوه بفروق ضخمة في السوق السوداء. كذلك استفادوا من تحويل الدولار إلى أرصدة لهم في البنوك الأجنبيّة. الآن تحت ظلّ مادورو هناك موجةُ نزوح ضخمة للفنزويليين إلى خارج بلدهم (حيث المخازن التجاريّة الفارغة من السلع والأمن المضطرب)، هربًا من الفقر والاضطراب السياسيّ - الأمنيّ.[5]

في البرازيل نجح داسيلفا في إيصال البرازيل إلى مجموعة الدول العشر الأقوى اقتصاديًّا في العالم. كما نجح في تخفيف الفوارق الاقتصاديّة - الاجتماعيّة التي كانت شاسعةً في برازيل ما قبل العام 2003. لكنّه، وخليفتَه ديلما روسيف (2011 - 2016)، لم يستطيعا أن ينجوا من الاتهامات القضائيّة بالفساد؛ وهي اتهاماتٌ انتهت بلولا داسيلفا في السجن. وقد كان الفسادُ الأكبر في شركة النفط الحكوميّة (بتروبراس) التي أثبتت التحقيقاتُ القضائيّة أنّ السرقات من مداخيلها في عهد اليسار قد وصلتْ إلى 12 مليار دولار، في وقتٍ كانت روسيف مديرةَ تلك الشركة طوال عهد داسيلفا.[6]

 

5

يجلس الآن على كرسيّ الرئاسة البرازيليّة رئيسٌ يمينيّ متطرّف بعد أن فاز بالانتخابات. هناك احتضارٌ ظاهرُ المعالم لحكم مادورو في كراكاس. ومن الواضح أنّ الاقتصاد الفنزويليّ في حالة تردٍّ سريع، وذلك قبل أن يبدأ ترامب سنة 2017 حربَه الاقتصاديّة. وعليه، فليس الوضعُ الفنزويليّ الراهن ناتجًا من "الخارج،" بل من "الداخل." وهو ما يؤشّر إلى أنّ ما حصل في البرازيل، وما يجري الآن في فنزويلا، يمكن أن يُسجَّل على أنه فشلٌ وتكسّرٌ للموجة اليساريّة الثالثة في أميركا اللاتينيّة.

اللاذقيّة

 

[*] تأسّس حزبُ العمّال عام 1980 من اجتماع نقابات عمّاليّة مع أكاديميين ومثقّفين يساريين، لم يكونوا على وئام مع الحزب الشيوعيّ الذي حاز الحكمَ، واعتُبر بمثابة الممثل الرئيس لليسار البرازيليّ، إلى أن تولّى العسكرُ السلطة. وكان ما جمعهم هو موقفهم المناهض لليمين المتحالف مع الحكم العسكريّ بين عامَي 1964و1985.                                              

[1] ريكاردو روخو، تشي غيفارا: حياته وموته (بيروت: دارالطليعة، 1968)، ص 236 - 238.

[2] المرجع السابق، ص236.

[3] راجع الفصلين السابع والثامن من كتاب سافيريو تيتينو، تاريخ الثورة الكوبيّة (بيروت: دار الحقيقة،1971) للحصول على تفاصيل الخلاف الكوبيّ - السوفياتيّ.

[4] روزنامة العالم  1980 (نيويورك: نيوزبابر انتربرايز أسوسياشن، 1980)، ص593.

[5] كريس كارلسون، "الأزمة في فنزويلا ودروسها لليسار،"25/4/2018.

www.opendemocracy.net

[6] أنطونيو سامبايو، "كيف دمّر اليسارُ البرازيلي نفسه؟"13/5/2016

https://foreignpolicy.com

 

محمد سيد رصاص

كاتب وباحث سوريّ. من مؤلّفاته: انهيار الماركسيّة السوفياتيّة، ما بعد موسكو، المعرفة والسياسة في الفكر الإسلاميّ، الإخوان المسلمون وإيران. كما ترجم كتاب إيريك فروم: مفهوم الإنسان عند ماركس.