المسألة الكرديّة: الاستخدام... والخذلان
28-01-2019

 

 1

ظهرت الملامحُ الأولى للمسألة الكرديّة مع بدء نشوء الدولة الحديثة في الدول الأربع ( تركيّة، إيران، العراق، سوريا) التي وُجد فيها الأكرادُ منذ عشرينيّات القرن العشرين. وكان اندلاعُها أوّلًا في تركيا (1925، 1930، 1937، 1984)، ثم إيران (1946، 1979، 2004)، والعراق (1961، 1974، 1991، 2003)، وأخيرًا سوريا (2004، 2012)، تعبيرًا زمنيًّا يعكس قوّةَ المسألة الكرديّة في تركيا، حيث الوجودُ الكرديّ الأكبر، على الرغم من مرور نصف قرن بين سحقِ أتاتورك لتمرّد ديرسيم (1937) وبداية تمرّد حزب العمّال الكردستانيّ (1984).

وقد كان التدرّج الزمانيّ لظهور المسألة الكرديّة يعكس نِسبَ قوّتها في الدول الأربع. فقد كانت إيران (عام 1946) هي الثانية، من حيث هذا الظهور، بعد تركيا، وذلك مع تأسيس جمهوريّة مهاباد الكرديّة بدعم سوفياتيّ؛ ثم كان تمرّدُ الشيخ عزّالدين حسيني في آذار 1979 على الخمينيّ أقوى تمرّد داخليّ شهدتْه، حتى الآن، إيران ما بعد 11 شباط 1979. أمّا في العراق فقد ظهرت المسألةُ الكرديّة مع تمرّد الملّا مصطفى البرزاني عام 1961. وأمّا في سوريا فقد أعلنت المسألةُ الكرديّة عن نفسها في آذار 2004 مع أحداث مدينة القامشليّ.

بمقدور الديموغرافيا أن تتكلّم هنا: فالأكراد في تركيا 20% من مجمل سكّانها، و 15% في العراق، و7% في إيران، و7% في سوريا. غير أنّ قوّة المسألة الكرديّة ــــ الإيرانيّة تأتي، على الأرجح، من كونها مركّبةً، إذ يعاني الأكرادُ هناك اضطهادًا من شقّين: قوميّ (فارسيّ ــــ كرديّ)، ومذهبيّ (شيعيّ ــــ سنّيّ)، في حين تعطيهم الجغرافيا قوّةً من حيث تركّزهم في منطقةٍ واحدة. وهذا، في حالة سوريا، ما يُضعف الأكراد، إذ هم في حالة توزّع جغرافيّ هناك، ولا يشكّلون أغلبيّةً في أيٍّ من المحافظات السوريّة، بما فيها محافظةُ الحسكة، حتى إن احتسبْنا المحرومين من الجنسيّة السوريّة (مع ذريّتهم) في إحصاء العام 1962.

المفارقة هنا أنّ ظهور المسألة الكرديّة جاء بلافتات مختلفة، إسلاميّة أو قوميّة أو يساريّة. ففي تركيا جاء مع تمرّد الشيخ سعيد بيران (آذار 1925) تحت شعار "إعادة نظام الخلافة الإسلاميّة،" الذي كان أتاتورك قد ألغاه قبل سنة؛ وكانت القاعدة الاجتماعيّة لذلك التمرد كرديّةَ الطابع، وذلك في مواجهة مؤسِّس القوميّة التركيّة الحديثة التي ارتبطتْ معه بنزعة التغريب؛ وفي تمرّدات محافظة آغري سنة 1930، وفي منطقة ديرسيم (لاحقًا محافظة تونجلي) سنة 1937، كانت القوميّةُ الكرديّة في مواجهة صريحة مع أتاتورك. وأمّا في تمرّد 15 آب 1984 فقد خلط عبد الله أوجالان القوميّةَ الكرديّةَ بالماركسيّة، ثم عاد مع سجنه عامَ 1999 لكي يقدّم كُرديّتَه من خلال نظريّة "الأمّة الديمقراطيّة." وأمّا في العراق، فقد كان الحزبُ الشيوعيّ العراقيّ أقوى في الوسط الكرديّ من الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ، حتى بداية تمرّد زعيم هذا الحزب، الملّا البرزانيّ، في أيلول 1961. وأمّا في سوريا، فقد كان الحزب الشيوعيّ السوريّ أقوى تنظيم سياسيّ في الوسط الكرديّ السوريّ حتى ثمانينيّات القرن العشرين، ثم جاءت الأحزاب الكرديّة القوميّة المحليّة لكي تحلّ محلّه هناك.

 

2

يعبِّر ظهورُ المسألة الكرديّة في البلدان الأربعة عن مشكلة حقيقيّة في هذه البلدان، وهي: شعورُ أبناء قوميّة (أو إثنية)، أقليّةٍ من الناحية العدديًة، بأنّهم في حالة نقص أو لامساواة في الحقوق السياسيّة ــــ الثقافية، قياسًا إلى المواطنين الآخرين من أبناء الأكثريّة القوميّة. ولقد شعر الأكرادُ في البلدان الأربعة بأنّ الهويّة القوميّة فيها لا تُعبّر عنهم، بل تعبّر فقط عن الأكثريّة القوميّة.عندما قدّم الخميني، بعد وصوله إلى السلطة في 11 شباط 1979، "الإسلامَ" هويّةً جامعة للشعوب الإيرانيّة، بخلاف القوميّة الشوفينيّة الفارسيّة عند الشاه، كان التمرّدُ الكرديّ أوّلَ جوابٍ ضدّه. وكانت الطلقةُ مزدوجة، كرديّة ــــ سنيّة: إذ كانت موجّهةً ضدّ رجل دين شيعيّ، من أصل فارسيّ، من قِبل شيخ كرديّ سنّيّ كان (حتى 11 شباط 1979) مشاركًا بفعّاليّة مع الخميني في جهد الإطاحة بنظام الشاه.

بعضُ الأكراد يطرح أمام حالة "اللامساواة" طرقًا لحلّ هذه المسألة: الانفصال وتشكيل دولة كرديّة في البلدان الأربعة أو في إحداها؛ الحكم الذاتيّ؛ الفيدراليّة؛ الأمّة الديمقراطيّة (حيث الديمقراطيّةُ هي الرابطُ بين قوميّات البلد، وذلك في اتحاد طوعيّ عابر للقوميّات والإثنيّات). لكنْ في أوساط الأكثريّات القوميّة في البلدان الأربعة، قلّةٌ مَن تقْبل بتلك الطروحات الكرديّة. وقد لوحظ في سوريا، عند طرح مشروع الفيدراليّة في آذار 2016، وجودُ إجماع ضدّ هذا المشروع من قِبل السلطة السوريّة وفصيلَي المعارضة السوريّة الرئيسيْن: "الائتلاف" و"هيئة التنسيق." ولم تكن هناك أيُّ قوّة سياسيّة سوريّة مُعتبرة مؤيِّدة لهذا المشروع، باستثناء القوى والشخصيّات التي جمعها حوله الفرعُ السوريّ لحزب العمّال الكردستانيّ، أيْ حزبُ الاتحاد الديمقراطيّ، في الاجتماع الذي انبثق عنه (مجلس سوريّا الديمقراطيّة) في 10/12/2015 في مدينة المالكيّة، ردًّا على استثناء هذا الحزب (بتوافق أميركيّ تركيّ) من الدعوة إلى مؤتمر الرياض لقوى المعارضة السوريّة (8 ــــ 10 كانون الأوّل 2015).[1]

على الصعيدين الدوليّ والإقليميّ، لم يتجاوز التعاملُ مع "المسألة الكرديّة" حدودَ استخدامها للضغط على هذه العاصمة أو تلك من أجل قضايا تتجاوز الأكراد، مثل:

ــــ استخدام تمرّد الملّا البرزانيّ في أيلول 1961 للضغط من أجل إسقاط حكم عبد الكريم قاسم، وذلك بعد أن لامس قاسم المحرَّماتِ؛ أي الكويت وشركة نفط العراق؛[2]

ــــ استخدام البرزانيّ في تمرّد 1974 ــــ 1975 من أجل إجبار العراق على توقيع اتفاقيّة تقاسم مياه شطّ العرب مقابل تخلّي شاه إيران عن دعم الأكراد؛

ــــ استخدام السلطة السوريّة تمرُّدَ أوجلان من أجل الضغط على تركيا في مسألة مياه الفرات بين العامين 1984 و1998؛[3]

ــــ استخدام واشنطن حزبَيْ مسعود البرزانيّ وجلال الطالبانيّ للضغط في اتجاه تمهيد الطريق نحو إسقاط حكم صدّام حسين ما بعد حرب 1991؛

ــــ استخدام واشنطن حزبَ الاتحاد الديمقراطيّ، بدءًا من أيلول 2014 وحتى كانون الأول 2018، أوّلًا من أجل محاربة داعش، ثم من أجل أن يكون غطاءً محلّيًّا لقواعد أميركيّة عسكرية في سوريا، وأخيرًا من أجل الضغط على تركيا التي توتّرتْ علاقتُها بواشنطن منذ تخلّي الأخيرة عن زواجها القصير الأجل مع "الإخوان المسلمين" (بدءًا من انقلاب السيسي على مرسي في مصر في 3 يوليو 2013).

وهناك حالتان خاصّتان في مجال استخدام الأكراد الذي تحدّثنا عنه:

ــــ الأولى حالة ستالين عام 1946، عندما دعم قيامَ جمهوريّة انفصاليّة كرديّة في إيران، مستغلًّا وجودَ الجيش الأحمر هناك وفقًا لاتفاق عُقد أثناء الحرب العالميّة بين ستالين وتشرشل، ثم سحب الدعمَ السوفياتيّ عنها عندما قايض ستالين سكوتَ الغرب عن السيطرة السوفياتيّة على بولندة مقابل انسحاب القوّات السوفياتيّة من إيران.

ــــ الثانية دعمُ "إسرائيل" للملّا مصطفى البرزانيّ عند تمرّده (1961 ـــ 1970) منذ تشرين الثاني 1963 عبر السفارة الاسرائيليّة بباريس، ثم عبر رئيس الموساد مائير عميت (1963 ــــ 1968). وعلى الأرجح أن هذا الدعمَ الاسرائيليّ تجاوز بأهدافه إضعافَ بغداد في مواجهة الدولة العبريّة باتجاه تغيير خرائط دول المنطقة.

هنا، لم يراود القياداتِ الكرديّةَ المختلفة أيُّ وساوس من التعامل مع أيّ طرفٍ مهما كان، ما دام، في ظنّها، يمكن أن يساعد في تحقيق هدفها: من الملّا البرزاني، حتى "يساريّي" أعضاء حزب أوجالان (حزب PKK) وفروعه في سوريا أو إيران (هناك أدلّةٌ كثيرة على تعاون هذا الحزب، منذ بدء نشاطه العسكريّ عام 2004 ضدّ طهران، مع واشنطن وتل أبيب).[4] في المحصّلة الأخيرة كان هناك استخدامٌ للأكراد لا العكس: بدءًا من مهاباد 1946، ومرورًا بالملّا البرزانيّ في تمرّديْ 1961 ــــ 1970 و 1974 ــــ 1975، وانتهاءً بـ"طعنة الخنجر" التي وَصفتْ بها قوّاتُ سوريا الديمقراطيّة (ق.س.د) قرارَ دونالد ترامب المُتّخذ يوم 19/12/2018 بالانسحاب العسكريّ الأميركيّ من سوريا.

 

لم يراود القياداتِ الكرديّةَ المختلفة أيُّ وساوس من التعامل مع أيّ طرفٍ مهما كان

3

منذ فشل استفتاء 25 أيلول 2017، الذي دعا إليه مسعود البرزاني من أجل "تقرير مصير" شمال العراق، وما تبعه في الشهر التالي من فقدان الأكراد السيطرةَ على مدينة كركوك (التي أسماها مسعود "قدسَ الأكراد" على خطى "قدس اليهود" عند أصدقاء والده)، بدأ انحسارُ المدّ الكرديّ الذي عمّ البلدانَ الأربعة. وكان المدُّ الكرديّ قد أتى بقوّةِ دفْع خارجيّ، هو الغزوُ الأميركيّ للعراق عام 2003، وتُرجم أوّلًا في إربيل والسليمانيّة، ثمّ في القامشلي (12 آذار 2004)، وبعدها في بدء العمل العسكريّ لحزب PJAK في إيران عام 2004، وأخيرًا في عودة قوّة حزب العمّال الكردستانيّ منذ العام 2005 في تركيا بعد ستّ سنوات من اعتقال أوجالان.

في سوريا، بين العامين 2011 و2018، استطاع أتباعُ أوجالان السوريّون، عبر استغلال الدعم الأميركيّ، تحصيلَ قوّة في مسار الأزمة السوريّة فاقت الحجمَ الديموغرافيّ للأكراد السوريّين ــ ــ وهو أمر ملموس الآن بعد قرار ترامب الانسحاب، إذ من الواضح الآن أنّ هؤلاء الذين أدخلوا سوريا والسوريين في صراع تركيّ  ــــ تركيّ (باعتبار النازحين الكرد هم من الأتراك أصلًا) قد أصبحوا ضحيّةً للعبة قوًى دوليّةٍ وإقليميّةٍ لا يستطيعون فيها رفعَ رأسهم فوق الماء.

 

ربّما تكون عمليّةُ بدء انحسار المدّ الكرديّ منصّةً ملائمةً من أجل حلّ "المسألة الكرديّة،" إنْ لم يكن في البلدان الأربعة، فعلى الأقلّ في العراق وسوريا، حيث ارتطمت القوى الكرديّةُ الرئيسةُ بالحائط. المؤكَّد أنّ مشروع علي الكيماويّ[5] ليس مطروحًا عند العرب، ولكنّ الاستعانة بالغريب على أهل الدار لم يعد ممكنًا التسامحُ به أيضًا. من الواضح أنْ "لا خرائط جديدةً" في الشرق الأوسط عند أصحاب القرار الدوليّ، كما كان الأمر في فترة 1916 ــــ 1918، وإلّا لنجح استفتاءُ 25 أيلول 2017، ولتحوّل إلى أمرٍ واقعٍ بنتائجه، بدلًا من ترك الغربيين (الأميركان والأوروبيّين) مسعود البرزاني يتجرّع كأسَ الخذلان مثلما حصل لوالده يوم 6 آذار 1975 عند توقيع شاه إيران وصدّام حسين "اتفاقيّةَ الجزائر."

اللاذقيّة


[1] يجب التسجيل، هنا، أنّ هيثم منّاع  استقال من رئاسة المجلس احتجاجًا على إعلان مشروع الفيدراليّة.

[2] في إشارة إلى الأزمة العراقيّة ــــ الكويتيّة عام 1961 أثناء فترة حكم عبد الكريم قاسم، الذي طالب بضمّ الكويت بعد أن أعلنت استقلالَها عن بريطانيا. وقد انتهت الأزمة بمقتل قاسم بُعيْد انقلاب عسكريّ في 8 فبراير 1963. (الآداب).

[3] عقب حرب الخليج الثانية، أبدى الجانبُ التركيّ تشدّدًا مع الاطراف السوريّة والعراقيّة في ما يخصّ مسألة المياه، وذلك خلال اجتماعات اللجان الفنّيّة المشتركة عاميْ 1992 ــ 1993. فقد حاول الجانبُ التركيّ التركيزَ على المشاكل الفنيّة وموضوع استخدام أحدث الطرق لمياه نهر الفرات. وفي المقابل، حاولتْ سوريا الحصولَ على أقلّ تقدير لاستمرار تصريف مياه الفرات بمعدّل 500 متر مكعّب في الثانية لمشاريعها المائيّة. وقد تفاقمت الأزمة بين عامي 1992 و1998، حتى وصلت السياسات بين البلدين إلى حافة إعلان الحرب. (الآداب)

[4] ملاحظة: http://www.arraiyoalhor.com/index.php/Welcome/article/711

في الرابط التالي وفي مراجع أخرى يمكن الاستناد لموضوع اتصالات عضوي المكتب السياسي في حزب البارتي جلال الطالباني وابراهيم أحمد بالسفلرة الاسرائيلية بباريس عام1963.في العام التالي انشقّ الاثنان عن البرزاني في تلك الزيارة كانا يمثلان البرزاني.

[5] لقب علي حسن المجيد، وزير الدفاع في نظام الرئيس صدّام حسين، بسبب اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماويّة في حلبجة ضدّ الأكراد. (الآداب)

محمد سيد رصاص

كاتب وباحث سوريّ. من مؤلّفاته: انهيار الماركسيّة السوفياتيّة، ما بعد موسكو، المعرفة والسياسة في الفكر الإسلاميّ، الإخوان المسلمون وإيران. كما ترجم كتاب إيريك فروم: مفهوم الإنسان عند ماركس.