سجن ليمان
04-05-2016

 

لم أدرِ أنّ صوتي كان هامسًا حتّى طلب منّي العسكريُّ الجالسُ خلف المكتب أن أرفعه. كرّرتُ ما قلت:

"عايزة أسجّل اسمي للزيارة."

على شفتيه طيفُ ابتسامة، وعيناه تلتفتان إلى الشارع، بينما يسأل بغير اكتراث: "سياسي ولّا جنائي؟"

لا بدّ من أنّه كان يعرف الجواب.

 "سياسي،" أجبت بصوت خفيض.

"الساعة 10."

نظرتُ إلى ساعتي: بقي عشر دقائق للموعد. طلبتْ منّي والدة عمر أن أحجز للزيارة إنْ وصلتُ قبلها. وصلتُ قبل موعدي بساعة. لم أكن أعرف الطريق إلى السجن، ولا كنت أعرف أين سأركن سيارتي. أذكر أنّها حكت لي عن حادثة تهشّم زجاج سيّارتهم وسرقة محتوياتها أمام سجن وادي النطرون. لم أكن أزور عمر اليوم في وادي النطرون؛ فقد تمّ نقله إلى "ليمان طرّه" أثناء أدائه امتحاناتِ الفصل الدراسيّ الأول، و لم يعد بعدها إلى وادي النطرون لحسن الحظ.

تأخّرتْ زيارتي لعمر نحو عام. لم يطلب منّي الزيارة، ولا دار الأمرُ في خاطري حتّى طلبتْ منّي أمُّه ذلك. في البداية خفتُ من تسجيل اسمي في كشف الزائرين لأحد المتّهمين في واحدة من أخطر القضايا ضدّ النظام. ثمّ خفتُ بعد ذلك من أن أزور عمر مرّةً ثمّ أنقطعَ عن ذلك. خفت أن يتوقّعني ولا أجيء. ثمّ عرفتُ مصادفةً أنّ "زوروني كلّ سنة مرّة حرام تنسوني بالمرّة" قد غنّاها سيد درويش للسجناء. فعدلتُ عن خوفي الأوّل والثاني، واستأذنتُ عمر في أن أزوره. أبلغتُ أمّه باستعدادي للزيارة حين وصلتْني موافقتُه. خفت من التفتيش داخل السجن قبل الزيارة. قالت أمّه إنّ الحارسة لن تترك سنتمترًا في جسدي من دون أن تلمسه. سألت: "أيّهما أفضل للتفتيش؟ الفستان أمِ البنطلون؟" ثمّ تذكّرت أنّ أم عمر وأخواته يرتدين العباءات باستمرار، فاخترتُ أن أرتدي رداءً فضفاضًا أنا الأخرى. واخترتُ صندلًا بنّيًّا مكشوفًا "عشان حتقلّعك الجزمة وتشيل فرشتها، وتتأكّد إنّك مش حاطّه فيها حاجة!"

كان هناك طابور صغير أمام بوّابة السجن. سألتُ السيّدة الأخيرة عن مكان تسجيل اسمي، فأشارت إلى الرصيف المقابل، حيث كانت هناك كراسٍ حمراءُ بلاستيكيّة، وعائلة تتناول فطورها. سألت البنت التي ترتدي نقابًا أخضر عن المكان (كانت عيناها خضراوين كذلك). أشارت إلى الساحة، وأخبرتني أن أسأل عن عمّ صلاح، "هو حيسجّل اسمك."

لم يبدُ أنّ الشرطيّ الجالس خلف المكتب هو العمّ صلاح؛ فقد توقّعتُ أن يكون عمّ صلاح أكبر. كانت الساحة ساحةً بالفعل: فناءً متوسّطًا متربًا. في أوّله مكتبٌ صغير للشرطيّ الجالس في العراء يدوّن أسماءَ الزائرين، تليه صفوفٌ من دكك الانتظار، أغلبُها بلا أخشاب، مجرّدُ إطارٍ من الحديد الخالي. وكان الناس يتزاحمون على هذه الدكك القليلة التي لم تزل تقوم بوظيفتها. آثرتُ أن أتمشّى جيئةً وذهابًا. أشارت ساعةُ يدي إلى العاشرة. أكملتُ خطاي إلى المكتب، فقال العسكريّ وهو يضحك "الساعة عشرة على ساعتك، لكن ساعة الكشف لسّه مجتش عشرة." فابتسمتُ.

مرّت دقيقتان، ثمّ سمعته يقول بصوت عالٍ "يلّا." اصطفّت النساءُ المنتظراتُ أمامه في طابور قصير. كنتُ الثالثة في الطابور، إلى أن زاحمتني سيّدةٌ مسنّة. استحييتُ أن أردّها، فأوسعتُ لها قليلًا. للمكان كلّه رائحةٌ تشبه رائحةَ المستشفيات التي كنت أعملُ فيها فور تخرّجي. حينها، لم أكن أعرف أنّ للفقر رائحةً؛ كنت أظنّ أنّها رائحة المرض، أو رائحة الضمادات، أو الدم.

حين وصل دوري، رفض الشرطيّ أن يسجّل اسمي في الكشف لأنّ الدخول لأقارب الدرجة الأولى فقط. كنتُ أعرف القانون؛ كما أنّ عمر سبق أن نبّهني إلى أنّ زائرًا واحدًا من بين كلّ عشرة زائرين ينجح في الدخول عليه. قالت لي أمّه: "إن شاء الله العسكريّ يرضى يسجّل اسمك؛ ولو مرضيش، ندّيله خمسه جنيه وهو يرضى." قلت لها إنّي لا أتخيّل كيف أمدّ يدي إلى حقيبتي وأخرجُ منها النقود وأعطيها له أمام الخلق. ضحكتْ وقالت: "لأ، ما انتي حتدّيه بطاقتك وفي ضهرها الخمسه جنيه." كنتُ أجبَنَ من ذلك.

أنتظر أمّ عمر أن تأتي، بينما يُسجّل الشرطيُّ أسماءَ الآخرين في الكشف. يطوف شحّاذٌ في المكان. يمرّ بيني وبين الشرطيّ، ويدعو بصوته الواهن: "ربّنا يخرجهولك بالسلامة، ويخلصنا م الحاكم الظالم." أتفاجأ، وأنظرُ نحو الشرطيّ لأرى إنْ كان قد سمع. يبدو منهمكًا في عمله. يعيد الشحّاذُ دعاءه، من دون أن يخفض صوته. للحظة يبدو المشهدُ غرائبيًّا: كأنّ هناك اتفاقًا ضمنيًّا لترك هذا الرجل "يسترزق" ولو بدعاءٍ ضدّ النظام.

من خارج الساحة رأيت أمّ عمر تقترب، تتبعها ابنتُها التي تحمل حقيبتين ثقيلتين. سارعتُ إلى استقبالهما وحملِ حقيبةٍ عن آية. كان عمر قد كتب لي عن ثِقل شنَط الزيارة، وحكت لي أمُّه أنّها تُحضِّر طعامًا لعشرة أفراد "عشان هُمّا مقسّمين نفسهم لمجموعات من عشرة، لو واحد مجتلوش زيارة في أسبوع، ياكل مع زمايله." كانت الشنط من الخيش الخشن، وكان الأهالي يحملون حاجيّاتهم في حقائب مماثلة حتّى تحتمل الوزن في داخلها.

استأذنتْ أمُّ عمر الشرطيَّ في دخولي. قالت إنّني ابنةُ خالته، وإنّها مريضة ولن تقدر على حمل الحقائب وحدها. سمح لي، لكنّه قال: "المهم الظابط يسمح." لم نكن نعرف إنْ كان الضابط سيسمح أمْ لا، بل علينا الانتظار حتّى الواحدة والنصف ظهرًا، حين يُفتَح بابُ السجن للزيارة؛ عندها قد أدخل أو قد أُمنع.

استأذنتْ آية للحاق بعملها. جلستُ إلى جانب والدة عمر على الدكّة الخشبيّة. أمسكتْ كفّيّ بين يديها ودلكتهما برفق. قالت: "إيديكي ساقعة ووشّك أصفر، خايفة كده ليه؟" فضحكتُ. قالت: "حتفضحي نفسك بنفسك. عادي، إنتي مبتعمليش حاجة غلط!"

قضينا الساعاتِ الثلاث في الحكايات: تحكي لي عن مغامرتها مع الحرّاس، وأحكي لها كيف استخرجتُ كارنيه الجامعة لابنها، فتحكي كيف استخرجتْ له شهادة الإعفاء من التجنيد. نضحك. لا تنتهي حيلُها، ولا تنتهي الهويّات التي أُلصقها بنفسي كي أقضي أمورَه في الجامعة. تمازحني: "خدي هرّبي الجواب ده في شنطتك." أقول "لو قفشوه حَقول إنّه بتاع خالتي." فتضحك وتقول: "حيقولولك تعالي يا روح خالتك!"

تتركني وتذهب لشراء بعض الفاكهة. أشعر بيديَّ دافئتين، وبقلبي مطمئنًّا. حولي أسمع صيحاتِ الأطفال "خلاويص،" مستفيدين من الساحة ووقت الانتظار متّسعًا للعب. أبتسم.

فجأةً، ظهر شرطيّ آخر وهتف بشيءٍ ما، فقام الناسُ على الفور وتجمّعوا عند الباب. وقفتُ وحملتُ الحقيبتين الثقيلتين. عبرنا الطريقَ إلى الجهة الأخرى ودخلنا من بوّابة السجن. كانت البوّابة تفضي إلى ممرّ ضيّقٍ محاطٍ بالحديد كأنّه قفص. سبقتني والدةُ عمر إلى العسكريّ؛ قالت له مرّةً أخرى إنّني ابنةُ خالته. "لازم ناخد إذن م الظابط." أخذ بطاقتي وذهب. وقفتُ مستسلمةً مع حملي الثقيل. هممتُ بقول شيء ما ليقطع الصمت، فأمرتني أمّ عمر بأن أردّد "فجعلنا من بين أيديهم سدًّا." نظرتُ إلى الجدار المموّه، وكرّرتُ الآية.

عاد العسكريّ. نظر إليّ بجدّيّة. "مش حينفع تدخلي." لم أكن أنوي المجادلة. هممتُ بوضع الحقيبتيْن على الأرض، فضحك وناولني البطاقة، وقال: "اتفضّلي، الظابط سمح." ضحكتُ بدوري. كنت سعيدة.

النفق الحديديّ أفضى إلى بوّابةٍ حديديّةٍ أخرى. كانت مغلقة. اصطففنا أمامها. فوق البوّابة لافتةٌ من الحجر، كُتِب عليها: "تمّ تشييدُ هذا الليمان بتشغيل المدنيين،" وجملةٌ أخرى تفيد أنّ أوّل مَن تولّى إدارةَ الليمان هو رينيه كارتون دي فيار، وتاريخٌ يشير إلى فترة الاحتلال الإنجليزيّ لمصر. لم أفهم ماذا تعني عبارة "بتشغيل المدنيين." أيكون السجناء هم مَن بنوا السجنَ لسجناء آخرين من بعدهم؟!

البوّابة الحديديّة أفضت إلى بوّابةٍ إلكترونيّة. نضع حقائبنا الثقيلة داخل الجهاز. يسألوننا "جايبين صابون؟" نهزّ رؤوسنا إيجابًا. "استأذنوا الظابط." تذهب أمّ عمر لتستأذن الضابط، بينما أمضي إلى حجرة التفتيش.

داخل الحجرة امرأتان ترتديان الأسود. تدخل النساءُ بجلابيبهنّ السوداء أيضا. تمرّر الحارسةُ يديها على الجسد. تُنزل بيدها عند التقاء الفخذين، ثم ترفع العباءةَ قليلًا، فتبدو لي أرديةُ البيت البسيطة الملوّنة والبالية. تفتح الحقيبة لترى ما فيها.

كانت إحدى الحارسات تفتّش طفلةً قبلي. الطفلة في حدود العاشرة. ترتدي بنطلونَ جينز نسيتْ أن تغلق أزراره، وبلوزةً صفراءَ ضيقة. فتّشتْها بالطريقة ذاتها، ثمّ رفعت البلوزة ومرّت بيدها حول خصر الفتاة الممتلئ. ضحكت الفتاة في حرج، وقالت كأنّها تكلّم نفسها: "مفيش حاجة معايا."

وقفتُ أمام الحارسة ورفعتُ ساعديَّ، كما أفعل حين أكون في المطار. مرّت على جسدي بسرعة ومن دون مهانة. فتحتْ حقيبتي. كانت خالية إلّا من البطاقة، ومفتاح السيّارة، ومائتين من الجنيهات. نظرتْ في عينيّ، وسألتني: "مش حتصبّحي علينا؟ عايزة تصبّحي علينا؟" فلم أدرِ بما أردّ. لم أستطع النظر إليها. أخذتُ حقيبتي وخرجتُ من الغرفة بسرعة.

أمام الغرفة طاولاتٌ طويلة، يقف الحرّاسُ على الناحية الأخرى منها. نضع شنط الزيارة، فيفتحونها ويفتّشون محتوياتِها بدقّة. إلى اليسار، كانت أمُّ عمر تنحني على الأرض لتلتقط منديلًا. جاءت نحوي. قالت إنّها رفضتْ أن تعطي الحارسةَ نقودًا، فصادرتْ كيسَ المناديل في شنطتها وسلّمته إلى الضابط. قرأ الضابط ما كتبناه من رسائل على ورق المناديل، فلم يجد فيها ما يستحقّ القلق. رماها على الأرض ونصح والدةَ عمر بأن تكتب على ورقٍ عاديّ في المرّة المقبلة. الحارس على الناحية المقابلة يجد مصباحًا كهربائيًّا في شنطة الزيارة. نذهب مجدّدًا إلى الضابط، فيوافق على إدخالها. نأخذ ملزمةَ الدراسة إلى الضابط ليطالع محتوياتها، فيوافق. نعود. يفتح الحارسُ علبَ الطعام. يشمّها. يعلن: "الأكل حِمِض."

الرائحة هنا ثقيلة. علب الطعام كثيرة. يفتحونها، فتختلط الروائح. بعض الأطعمة لا يُسمح بدخولها، إمّا لكونها "رفاهيةً زائدة" أو لكونها تصلح لتخبئة شيءٍ ممنوعٍ فيها. عرفتُ من أمّ عمر أنّ أهالي المسجونين السياسيين ربما يخبّئون الجوابات في الأطعمة، أما الجنائيون فبعضهم يخبّئ الحشيش داخل الحمام المحشوّ على سبيل المثال.

نعيد تعبئة محتويات الحقيبتين في كيسين بلاستيكييْن كبيريْن. نترك حقائبَ الخيش إلى جانب البوّابة لأنّ دخولها ممنوع. نمضي مع أكياسنا نحو القاعة. أشعر بدقّات قلبي تتسارع. يهيّأ إليّ أنّني حين أدلفُ إلى القاعة سأبحث عن وجه عمر الذي أراه لأوّل مرة. أصعد الدرجة الوحيدة إلى القاعة، فأجدها فارغةً إلّا من الزائرين.

يأتي السجناء بعدما ينتهي تفتيشُ كلّ الحقائب.

في الداخل، الترابُ وأعقابُ السجائر والأكلُ الفاسد وقشرُ الموز في كلّ الجوانب. أحضرنا كيسيْن بلاستيكييْن خالييْن لنفرشهما على الدكّة الحجريّة المتّسخة. طال انتظارُنا. في القاعة ضجيجٌ عاديّ وانتظار. شيء هنا يشبه المطارات. شيء موقّت. الزمن هنا يمرّ على مراحل، ويُقسم على بوّاباتٍ وإجراءات. وهناك أيضًا الاستسلامُ للنظام: قلّة الحيلة والخوفُ من الاشتباه. ضجيجٌ يشبه فتحَ بوّاباتِ الصالة لركوب الطائرة. أتلفّت. أرى أوّل سجين يرتدي الأبيض.

أظلّ جالسةً. يحجب الرؤيةَ عنّي أحيانًا اثنان يتعانقان. يتحرّكان، فأرى عمرَ للمرّة الأولى.

يرتدي السترةَ الزرقاء. يسند أمَّه إلى ذراعه. رأسه مائل قليلًا إليها ليسمعها، وعيناه تبحثان في الوجوه من حوله في بطء.

أقف. يحيّيني بابتسامةٍ كبيرةٍ خجلى. يُبقي مسافةً بيننا، ولا يناديني باسمي. نجلس. تبادلُه أمّه حديثًا هامسًا لا أحاول سماعَه. أجلس إلى يمينه، لا في مواجهته. ذقنه بنّية مشذّبة بعناية. أرى الشرايينَ الدقيقة الحمراء تبزغ على خدّه، فأحوّل عينيّ عنه.

تمضي أمُّه لتبتاع شيئًا من الكانتين. يلتفت إليّ نصفَ التفاتة، ويسألني عن أخبار أصدقائنا المشتركين. ألاحظ أنّه يضمّ جسَده بذراعيه وهو يتحدّث إليّ. أعرف أنّني الصديقة الأولى التي تزوره هنا.

يبدو مرحًا، يلقي الفكاهات. يحتضن أمَّه. أسأله عن الكتب التي يودّ قراءتها. "اختاري على ذوقك،" يجيبني. يفتح "بطرمانًا" صغيرًا فيه بعضُ أشكال الأوريجامي التي تعلّمها داخل السجن. يعطي أمَّه واحدة. في الحال، يقف عند رأسنا مُخبرٌ ليختبر الأوزّةَ الورقيّة التي صنعها عمر هديّةً لأمّه. يتأكّد من خلوّها من الشبهات. يقول له بلهجة الأخ الأكبر: "أيوه كده، عشان لمّا تخرج تبقى في إيدك حِرْفة." يثنّي عمر على كلامه وهو يعطيني أوزّةً أخرى. أراه يخبّئ في جناحها ورقةً مطويّة. أضع الورقة في حقيبتي بسرعة، وأبقي الأوزّةَ في كفّي.

يعود عمر إلى حديثه الهامس مع أمّه. أحدّق في الوجوه من حولي. أشعر بالاستهزاء من كلّ شيء. لا أدري إنْ كانت كلمة "الاستهزاء" هي المناسبة هنا، لكنّني أشعر بما كان ينتابني حين كنتُ أتعلّم في الجامعات الحكوميّة أو أعملُ في مستشفياتها، وهو أنّ الجميع هنا يمثّل دورًا:

العساكر الصغار يمثّلون أنّهم قبضةُ النظام، لكنّهم بائسون مثلك، وبحاجة إلى المال. ونحن نمثّل أنّنا الزائرون الذين يقومون بأفعال مقاومةٍ صغيرةٍ، كتهريب رسالةٍ أو روايةٍ أو علبةِ دواء. الطرفان يعرفان أنّه لا بدّ من دخول الرسالة والرواية والدواء، لكنّ هذا الأمر يجب أن يتمّ تمثيلًا، بكثيرٍ من ادّعاء الحيطة أو التعاطف، تمامًا مثل الشحّاذ الذي قابلتُه صباحًا: يقتضي عمله أن يتمنّى زوالَ الطاغية؛ وجودُ الطاغية يكفل له مصدرًا للرزق، لذلك يتركونه يقول ما يقول. أمّا هؤلاء الذين يتمنّون زوال الطاغية بصدق لأنّه يعطّل أعمارهم، فتبتلعهم الزنازينُ.

نعم، "الاستهزاء" هي الكلمة الصحيحة. أنا أشعر بالاستهزاء تجاه كلّ هذا.

***

تنتهي الزيارة. يصيح العسكريُّ بعنف: "يلّا يا ست." تستند أمّ عمر إلى ذراعي. يودّعها، وأودّعُه باسمةً: "أشوف وشّك بخير."

تودّعني أمُّه عند باب السجن، وتسألني "حتكرّريها تاني؟" فأحتضنُها ولا أردّ. ألتفتُ عائدةً إلى سيّارتي. وفور إغلاقي بابَها أفتح حقيبةَ يدي، وأقرأ رسالتَه المخبّأة على مهل.

القاهرة

نسمة سالم

كاتبة مصريّة