عن العبث: معاقبة الثورة... والخير
31-07-2016

 

أغسطس 2015

أقف أمام شبّاك التقديم للدراسات العليا. معي أوراقُ التقديم الكاملة لعُمر. يُسمح قانونًا للطلبة المسجونين باستكمال دراستهم الجامعيّة، لكنّ الجامعة تتعسّف في قبول أوراقهم لأنّ إجراءات التقديم تستوجب حضورهم. فضّلتْ والدةُ عمر ألّا أذكر موضوع السجن. وقفتُ أمام الموظّف، وأعطيته الورق. سأل عن الطالب وعن شهادة العمل. قلت له إنّه مسافر وخشي أن يفوته موعدُ التقديم، فجئت بدلًا منه. كما أنّه لا يعمل حاليًّا. ردّ الموظّف الملفّ لي، وقال إنّه لن يستطيع مساعدتي.

مرّ أسبوع قبل أن أذهب مرّةً أخرى، وإلى موظّفة هذه المرّة. سألتني عن الطالب، فكرّرتُ حجّة السفر. سألتني عن شهادة العمل فأعطيتها شهادة خبرة من تاريخ قديم. سألتْ عن التاريخ. قلتُ لها إنّني لا أعلم تفاصيل الملفّ، وإنّني ابنة خالته، وجئت فقط لألحق بموعد التقديم. قلّبت الملفّ مرّة أخرى، ثمّ سألتني: "بتقولي إنّه مسافر؟" أومأتُ بالإيجاب. فوضعتْ شهادة الجيش أمام عينيّ بختمها البنفسجي الذي يقول"لا يُسمح لصاحبها بالسفر." تداركتُ: "مسافر جوّه مصر، شغله في الأقصُر." لم يبدُ أنّها صدّقتني. قالت "ملفّه معقرب" (تعبير مصريّ عن الأمر الصعب أو غير المفهوم). ضحكتُ في براءة، وقلت: "مع إنّه ابن حلال." نظرتْ في عينيّ، وقالت: "وهي البلد دي بتاعة ولاد الحلال؟!" لم أعرف بما أرد. وقّعَتْ أنّها استلمت الملفّ، وناولتني الإيصال وهي تقول: "ولا انتي رأيك إيه؟" فابتسمتُ وشكرتُها.

إلى الخزينة، حيث دفعتُ مصروفات السنة الجامعيّة الأولى. على العمود الرخاميّ أمام تلك الخزينة علّقتْ إدارةُ الجامعة لائحةً توضح حقّها في إلغاء قيد أيّ طالب يَثبت عدمُ صحّة بياناته. عدتُ إلى البيت، فصوّرتُ إيصالَ المصروفات وبعثتُ به إلى كلّ الأصدقاء الذين كانوا قد قرروا أن يقدّموا تسجيلَ عمر هديّةً إليه. أهلُ عمر مقتدرون ماديًّا، لكنّنا ــــ مجموعةَ الأصدقاء ــــ لم نشأ أن نزعجَهم بإجراءات التقديم؛ يكفي ما يتحمّلونه من متابعة القضية ومن زيارته أسبوعيًّا في سجنه البعيد.

من آنٍ إلى آخر، أذهب إلى الجامعة لأشتري له الكتب الدراسيّة. في السجن، انتقل عمر إلى عنبر الطلبة. حالة العنبر أفضل نسبيًّا من العنابر العاديّة؛ على الأقل لا ينزل فيه إلّا الطلبة، لا المسجونون الجنائيون؛ كما يُسمح بإدخال الكتب بالدخول.

بدأ الفصل الدراسيّ في أكتوبر. يُسمح للطالب بدخول الجامعة عند إبراز إيصال المصروفات حتّى شهر يناير. في يناير، تُطبع البطاقاتُ الجامعيّة، ويتعيّن على الطلّاب استلامُها لحضور الامتحانات النهائيّة بها.

 

يناير 2016

أقف أمام موظّف شؤون طلبة الدراسات العليا في الجامعة. أرتدي فستانًا أنيقًا، وخاتمًا ذهبيًّا لففتُه حول خنصري الأيمن ليبدو كالدبلة. أبتسمُ في هدوء، وأعطيه إيصالَ المصروفات لأحصل على بطاقة عمر. يبحث عن رقم البطاقة، يستخرجها ثمّ ينظر إليّ بدهشة: "الكارنيه ده مش ليكي؟" أحافظُ على ابتسامتي وأردّ: "لخطيبي." يعيد البطاقة إلى مكتبه: "لازم هو اللي يستلمها." أقول إنّه ينتهي من عمله متأخّرًا، بعد أن يكون الشبّاك قد أُغلق. يشير الموظّف إلى الإعلان المعلّق على العمود ورائي، ممهورًا بتوقيع وكيل الكلّيّة، وهو ينصّ على عدم السماح لأيّ شخص بالتعامل مع إدارة الجامعة سوى الطالب ذاته. ويضيف الموظّف: "لو جبتِ استثناء من وكيل الكلّيّة، أدّيهولك."

سريعًا إلى وكيل الكلّيّة. "في اجتماع." أعود إلى الموظّف. يرفض. أصعد مرّةً أخرى إلى سكيرتيرة وكيل الكلّيّة. ترفض. أقول لها متحدّيةً: "ابقوا مدّوا ساعات شغلكم عشان يقدر يجيلكم بعد شغله." تردّ في سماجة: "هو اللي محتاجنا مش إحنا. يبقى ياخدْ إجازه من شغله."

خلَتْ جعبتي من الحِيَل. أفكّر في العودة إلى الموظّف. أجد في طريقي إليه مجموعةً من عاملات النظافة. أتساءل من يأسي إنْ كان بإمكانهنّ مساعدتي. أقول لهنّ: "خطيبي..." وأشرح بتعب حقيقيّ. تربّت إحداهنّ على كتفي: "استنيني هنا يا حبيبتي." تأخذ الإيصال. تعود بعد أقلّ من دقائق ثلاث والبطاقةُ الجامعيّة في يدها. تضحك وتقول: "ده حتّى مخلانيش أمضي على استلامها!" أشكرُها بصدق، وأعطيها ما فيه النصيب. وأهاتف والدةَ عمر مبشّرةً.

مايو 2016

لكي يُسمح للطالب السجين بحضور الامتحانات، لا بدّ من استخراج نسختين من إثبات قيده من الجامعة، ونسختين من جدول الامتحانات: الأولى تذهب إلى إدارة السجون التي ترتّب عقدَ لجنة امتحانات في سجن قريب من الجامعة، وتذهب النسخة الثانية إلى سجن الطالب حتّى تُرتّب له "ترحيلة" إلى السجن الآخر.

أذهبُ إلى الجامعة متوجّسةً. أبحث عن عاملات النظافة ليسهّلن عليّ الأمر فلا أجدهنّ؛ فقد تحوّلتْ غالبيّةُ ردهات الكلّيّة إلى لجان امتحانات يُحظّر المرورُ فيها. أتوجّه مرغمةً إلى شبّاك شؤون الطلّاب. يطالعني وجهُ السيّدة التي قبلتْ ملفّ عمر قبل أشهر. أتفاءل. أشرح لها طلبي. تسألني مستنكرةً: "ليه نسختين من كلّ ورقة؟" أخبرُها بأنّهم طلبوا ذلك في محلّ العمل. تستغرب. تقول لي إنّ الجدول وحده بديلٌ عن إثبات القيد. أصمّم. تقول "على راحتك." وأفهم فيما بعد أنّ استخراج الورقة الواحدة يكلّف خمسين جنيهًا، يعني مائتيْ جنيه للورقات الأربع. ولا تشترط الكلّيّة، لحسن الحظّ، أن يدفعها الطالبُ بنفسه.

آخذ الأوراقَ المطلوبة. أمشي في شارع طويل ينتهي بمجموعة من المكتبات التي تبيع "الملخّصات." أبحث بينها عن ملخّصات موادّ تخصّص عمر الدراسيّة، وهو تخصّصٌ لا يُقبِل عليه الطلّاب، ولا ملّخصات له. أوصي إحدى صديقاتي المقيّدات في الجامعة بأن تحاول تدبير الأمر. أتوجّه إلى بيت والدة عمر لأعطيها الجدول وإثبات القيد.

بعد أيام، تبعث لي صديقتي برقم أحد أساتذة الدبلومة التي يدْرسها عمر. أقول له إنّني أنا الطالبة في الدبلومة، وإنّ ظروفَ عملي لم تسمح لي بالحضور. يعطيني رقم مريم، و"هي حتعمل اللازم." مريم كانت أولى دفْعتها في هذا التخصّص سنة 2010. تقول لي إنّها ستكلّم الأساتذة، ثمّ "تعمل اللازم." تسألني عن طبيعة عملي التي لم تسمح لي بالحضور. "أعمل في جمعيّة أهليّة،" أردّ. فتبعث لي برسالة طويلة تحوي خبرتها علّني أجد لها عملًا في الجمعيّة.

لا أجد عملًا لمريم، ولا هي تجد المحاضرات. تخبرني والدة عمر بيأس أنّ عمر قد رُحِّل إلى سجن بعيد، وأنّه "داخل الإيراد أسبوعين." الإيراد محطّة يمرّ فيها السجين في كلّ مرّة ينتقل فيها إلى سجنٍ جديد: غرفة لا تتجاوز أمتارًا قليلة، يُحشر فيها عشراتُ الواردين الجدد، لينتظروا من إدارة السجن أن توقّع كشفًا طبّيًّا عليهم. يقضي السجناءُ أسبوعين في الإيراد، وتُمنع عنهم الزيارة خلالهما. حجمُ غرفة الإيراد لا يَسمح لكلّ السجناء بالنوم في الوقت نفسه؛ فينام البعض، بينما يبقى الآخرون واقفين في انتظار دورهم.

أعرف أنّ أخبار عمر ستنقطع لفترة، وأدعو الله أنّ يتمّ ترحيلُه إلى السجن الآخر، محلّ لجنة الامتحان، في موعد الامتحان.

 

يونيو 2016

تحدّدتْ جلسةُ محاكمة عمر والمتّهمين معه في أوّل أيّام امتحاناته! ودّ عمر أن يعتذر عن عدم حضور الجلسة، فرفض المأمورُ لأنّ القاضي يريد أن يرى المتّهمين كلّهم يومَ الجلسة حتّى يتسنّى له الاستماعُ إليهم.

تُعقد الجلسةُ في معهد أمناء الشرطة. تنتظر أمُّ عمر هناك لترى ابنها ولتتابع سير القضيّة. حضر القاضي، لكنّه أجّل الجلسة. الوحيد الذي لم يحضر كان عمر؛ رفض السجنُ ترحيلَه إلى قاعة المحكمة أو إلى لجنة الامتحان على حدّ سواء!

في موعد الامتحان الثاني، تأخّر نقلُ عمر نصف ساعة عن موعد بداية اللجنة. مدّة الامتحان ثلاث ساعات. دخل اللجنة، كتب اسمَه على ورقة الامتحان، وقبل أن يبدأ في الإجابة، سحب المراقب الورقة منه لأنّ: "الجوّ حرّ... وأنا عايز أروّح." قاوم عمر. طلب من المراقب أن ينتظر، فرفض الأخير. طلب عمر أن يقدّم اعتذارًا عن المادّة حتّى لا تُصحَّح ورقته ويُحسبَ عليه الرسوبُ. رفض المراقبُ أيضًا، لأنّ عمر قد حضر أمامه بالفعل!

في الامتحان الرابع تكرّر الأمرُ ذاتُه.

***

أفكّر في الفلوس التي جمعناها، نحن أصحابه، لتأمين دراسته. أفكّر في مشاوير الجامعة، وفي الطاقة التي بدّدتُها في الكذب؛ في عاملات النظافة، ومريم، وموظّفي شؤون الطلبة. كيف لا يصل كلُّ هذا إلى أيّة نتيجة؟

هذه الدولة لا تكتفي بمعاقبة الثورة، بل تعاقب الخيرَ أيضًا. تعاقب فعلَ التضامن، أيًّا كان.

الجملة الأخيرة لا تحمل أيّ مجاز.

القاهرة

نسمة سالم

كاتبة مصريّة