مدرّعتان
17-04-2016

 

تخيّرتُ زاويةً في ركن القاعة الأيمن لأجلسَ فيها. كنتُ قد انتهيتُ لتوّي من إلقاء محاضرتي عن "شعر الثورة." لم تكن محاضرةً تمامًا؛ كان الطلبة يقدّمون قراءاتهم لقصائدَ ثلاثٍ كُتِبتْ في مراحل مختلفة من الثورة، بدءًا من تنحّي مبارك وحتّى فضِّ اعتصامِ رابعة العدويّة. قبل ذلك بأيّام، دعا الطلبةُ أحدَ الشعراء، الذين سنقرأ أعمالهم، إلى حضور مناقشةِ القصائد، وإلى أمسيةٍ شعريّةٍ من بعدها، فوافق. رحّبتُ به بدايةً، ثمّ انزويتُ في ركن القاعة الأيمن حين بدأت الأمسيةُ بعد ساعات الدراسة. أردتُ أن أحتلّ أصغرَ مساحةٍ من فضاء قاعة المحاضرات حتّى ينسى الطلبةُ وجودي، ويتفاعلوا بحرّيّةٍ مع ضيفهم.

ركّزتُ بصري على الضيف وهو يقرأ أوّلَ قصيدةٍ في الأمسية. لم أكن قد قرأتُها من قبلُ، وعرفتُ أنّها حديثةُ الكتابة. كانت عن النظام العالميّ، ما فتح بابًا واسعًا للنقاش عن علاقة مصر بهذا النظام، وأولويّاتِ الثورة والثوّار، وما إذا كان على المصريين أن يحاولوا اللحاقَ بركب الرأسماليّة أمْ يبدأوا من حيث تنتهي الرأسماليّة حتّى لا يكرّروا أخطاءها.

كنتُ أصغي إلى النقاش، حين جلس بلال إلى جانبي. لم أنتبه إلى وجهه الخائف حتّى أراني الصورةَ التي نشرها أحدُ الطلبة على صفحة الفيسبوك الخاصّة بطلّاب الجامعة. كانت الصورة لمدرّعتين من مدرّعات الأمن المركزيّ تقفان عند بوّابة جامعتنا الآن، وكتب الطالب فوقها: "المدرّعتين دول بيعملوا إيه هنا؟!"

لا أكبُرُ الطلّابَ كثيرًا، بل بيني وبينهم عقد من الزمن وربّما أقلّ. وهذا يجعلنا أصدقاء إلى حدٍّ ما، لكنّه لا يجعلني أشجعَ منهم، أو قادرةً على حمايتهم. خِفتُ. حاولتُ أن أطمئِنَ بلالًا، لكنّني لم أستطع، فطلبتُ إليه أن نخرجَ من القاعة ونتقصّى الأمرَ بأنفسنا ــــ فأنا أعرفُ، من خبرة الثورة، أنّ الناس يبالغون أحيانًا.

لم تكن في صورة الفايسبوك مبالغةٌ؛ رأينا المدرّعتيْن بالفعل تقفان عند مدخل الجامعة!

نزعتُ عن صدري بطاقةَ التعريف الجامعيّ، ومشيتُ بتؤَدة باتّجاه مكتب أمن الجامعة. قلتُ للموظّف في الداخل إنّنا نعقد ندوةً شعريّة، وإنّ الطلبة قلقون من وجود المدرّعتيْن أمام الباب. سألتُه إنْ كانتا من أجلنا؟ فنفى الأمرَ بهزّاتٍ سريعةٍ متتابعةٍ من رأسه، وقال إنّهما تأتيان يوميًّا لتوقيع بعض الأوراق عند الضابط في الخارج، لكنّهما أتَتا اليوم أبكرَ من موعدهما المعتاد، ولذلك لاحظناهما.

تركنا المكتبَ، لكنّنا لم نكن مطمئنيْن. مشينا في الردهة المؤدّية إلى القاعة. تركتُ بلالًا يدخل ليستأنف الأمسية، طالبةً منه الاطمئنانَ، وأرفقتُ ذلك بابتسامةٍ شعرتُ وكأنّها تخدش وجهي لكي ترتسم عليه. أمسكتُ بهاتفي. حدّقت في الشاشة بضعَ ثوانٍ لا أدري بمن أتّصل: إذ لا يمكنني إبلاغُ عائلتي بالأمر؛ فأبي وأمّي لن يحتملا القلق، وأخي ترك البلد من زمن. اتّصلتُ بأعزّ صديقاتي، لكنّ هاتفها كان مغلقا. ثم أنقذني اتّصالُ صديق الجامعة القديم. لحسن الحظّ أنّه استمر في العمل في الصحافة، بينما تركتُها أنا. أبلغتُه بالوضع، وطلبتُ نصيحته: أنستمرّ في الندوة أمْ ننهيها؟ فنصحني بالاستمرار.

دلفتُ إلى القاعة. وقف أحدُ الطلبة ليغنّي إحدى قصائد الشاعر عن الشهداء. لم أقوَ على الاحتمال. كتبتُ ورقةً صغيرةُ إلى الشاعر أخبرُه فيها عن الوضع في الخارج، وأخيّرُه بين الاستمرار أو إنهاء الندوة. نظر إليَّ نظرةَ مَن لا يحار جوابًا. أشرتُ إليه بأن نستمرّ. لم يكن في ذلك شجاعةٌ منّي، لكنّي أظنّ أننّي لم أعرف ماذا ينبغي عليَّ فعله.

استمرّت الأمسية. خرجتُ مرّةً أخرى من القاعة، هذه المرّة للصلاة. حرصتُ على تركِ حقيبتي وحاسبي الشخصيّ في القاعة حتّى لا يظنّ الطلبةُ أنّي هربتُ. دخلتُ إلى دورة المياة لأتوضّأ. نظرتُ في المرآة وأنا أرفع الماءَ إلى وجهي: كان وجهي مُصفرًّا، ويداي ترتعشان.

مُصلّى الرجال مكشوف، خلفه مصلّى السيّدات. صلاةُ الجماعة في مُصلّى الرجال يؤمّها عسكريٌّ من الشرطة. أدلفُ إلى مصلّى النساء، وأقرأ سورةَ الصمد مرّتين. أشعرُ أنّني أتعلّق بقوّة الله، وأسأله أن ينجّينا من الشرير.

عدتُ إلى القاعة وأكملتُ الجلسة حتّى النهاية. لم تكن في يدي حيلة. رحتُ أستمعُ إلى الشعر. أصفّق. أنظرُ إلى بلال من حين إلى آخر، وأسأله إنْ كان الأمر قد تطوّر في الخارج، فيرفع كتفيْه دلالةً على أنّه لا يعرف. أسوأ ما في الأمر هنا أنّني أنا أيضًا لا أعرف. لا أعرف الحدَّ المسموحَ للكلام، لا أعرفُ تحديدًا ما الذي يُغضِبهم أو يخيفهم أو يستدعي ريبتَهم. حين أسافر، أغلقُ حسابي على الفيسبوك خشيةَ أن يطلب ضابطُ المطار رؤيته. أمحو الأغنيات التي أحبّها عن حاسبي لأنّها تحدّد انتمائي. أخاف من حمل دفتري الشخصيّ الذي أكتبُ فيه خواطري خشية أن يقرأوه. وأخاف حين أعود أن يوقفوني لأنّني سافرتُ إلى إحدى الدول التي لا يحبّها النظام.

أسأل مَروة: "هل أصبحتُ أخاف بشكلٍ مبالغٍ فيه؟" تجيبني أنّه لم يعد هناك سقفٌ لأفعالهم. أديرُ المفتاح في باب المنزل، وأتذكّر الشيخ إمام حين غنّى: "قدم العدو غارسة في لحم ترابي، والكدب عشّش مخبرين على بابي."

أدخلُ البيت. أحمدُ اللهَ أنّني مازلت أمتلك مفتاحًا لبابي، وأنّ عالمي لم يزل على ترتيبه، وأنّ أمّي وأبي لن يضطرّا إلى البحث عنّي في "الأقسام"... على الأقلّ لهذه الليلة.

القاهرة

نسمة سالم

كاتبة مصريّة