وداعًا يا تشابيلا، وداعًا أيّتها البركان
28-07-2020

 

بدرو المودوبار

ترجمتْه من الإسبانيّة: أثير محمد علي

 

كلمةُ المُخرج السينمائيّ الإسبانيّ بدرو ألمودوبار (Pedro Almodóvar) في وداع المغنّية المكسيكيّة تشابيلا بارغاس (Chavela Vargas) التي وُلدتْ في 17 نيسان/أبريل  1919 وتوفّيتْ في 5 آب/أغسطس 2012. وقد نُشرِت الكلمة في موقع مؤسّسة الإنتاج السينمائيّ (El Deseo) في 5 آب 2012، المصادف يومَ وفاتها:

https://www.eldeseo.es/adios-volcan-goodbye-volcano/

* * *

على مدى عشرين عامًا وأنا أبحثُ عنها في مراسحها المعتادة. وحين وجدتُها في كواليس صالة كاراكول (Sala Caracol) المدريديّة الضيّقة، ما برحتُ أودِّعها عشرين عامًا أخرى؛ إلى أنْ حلَّ هذا الوداعُ المديدُ تحت شمسِ آب اللهّاب في مدريد.

جعلتْ تشابيلا بارغاس من الهجرانِ والوحشةِ كاتدرائيّةً تتّسعُ لنا أجمعين؛ كاتدرائيّةً يَخرجُ المرءُ منها متصالحًا مع ذاتِ أخطائه، وعلى أُهْبة الاستعداد لمواصلةِ ارتكابها من جديدٍ مع أوّلِ محاولة.

يرى الكاتبُ المرموق كارلوس مونسيبايس أنّ "تشابيلا بارغاس عرفَتْ كيف تعبِّر عن تَعشّقِ كآبةِ الرانتشيرا مع العُري الجذريّ لفنّ البلوز."(1) ووفقًا للكاتب نفسه، فإنها جرَّدَتْ فنَّ الرانتشيرا من الطابعِ الاحتفائيّ، في الآنِ الذي استغنَتْ فيه عن جوقةِ المارياتشي(2) المرافقة، كاشفةً عبر تَعْريتِه التامّةِ عن وجعِ كلماتِه وهزيمتِها.

في حالةِ أغنية "فكّرْ بي" (Piensa en mí) (والكلامُ على لساني)، وهي نوعٌ من لحنِ Danzón الراقص،(3) ومن تأليف أغوسطين لارا،(4) غيّرتْ  تشابيلا في الميزان الموسيقيّ الأصليّ حتّى تحوّلتْ من أغنيةٍ حيويّةٍ راقصةٍ إلى "فادو" أو تهويدةِ "نانا" شجيّةٍ.(5)

لا كائن بشريًّا أدّى أغنيتَه بحسرةِ العبقريّ خوسيه ألفريدو خيمينيث(6) كما فعلتْ تشابيلا عن جدارة.

"وإنْ أرادوا أن يَعرفوا شيئًا عن ماضيَّ، فسيتعيَّن أن أختلقَ كذبةً أخرى. سأخبرُهم أنّني قَدِمْتُ من عالمٍ غريبٍ، وأنّني أجهلُ ما هو الألم، وأنّني انتصرتُ في الحب، وأنّني ... (تأخذ تشابيلا بالغناء "أنّني..) لم أبكِ قطّ."(7)

ابتكرتْ تشابيلا من التشديدِ المُنغَّم لقفلةِ أغانيها جنسًا فنّيًّا جديدًا لا بدّ مِنْ أنْ يحمِلَ اسمَها. كانت أغنياتُ خيمينيث قد وُلِدَتْ من هامش المجتمع، وتدور حول الإخفاق والهجر؛ فأضافت إليها تشابيلا مرارةً ساخرةً، متغلّبةً على نفاق العالم، الذي قُدِّر أنْ تعيشَه وغنَّتْ له بتحدٍّ دائم.

كانت تَتَروّى مُستمرِئةً قفلةَ الأُغنية، تحوِّلُ الأسى إلى إنشاد، وتَبصقُ الخاتمةَ في وجهكَ. بالنسبة إليّ كمتفرّجٍ، كانت تلك تجربةً تَفوق قدرتي؛ إذ لم يَعْتَدْ أحدُنا أنْ تُوضَع مرآةٌ بهذا القُربِ الشديدِ أمام عينيْنه. بلا مبالغة، كان التمزّقُ الأليمُ في الجَذْبِ الصوتيّ الأخير يَفْطر قلبي، بالمعنى الحَرْفيّ للكلمة. وأفترضُ أنّ شخصًا آخر حدثَ له ما حدثَ لي كذلك.

في حياتها الثانية، حين تجاوزت تشابيلا السبعين، غدا الزمنُ يمشي وإيّاها متشابكَي اليديْن، ووَجدتْ في إسبانيا تواطؤًا كانت قد أَنْكَرَتْه المكسيكُ عليها. وفي كَنَفِ هذا التواطؤ، أدركتْ تشابيلا السَّكينةَ، وحظيَتْ أغنياتُها بالعُذوبة، ونمَّتْ كلَّ الحُبِّ الذي عشَّشَ في ربرتوار حفلاتِها الغنائيّة.

"إيه، أريدُ نجمةَ التوهّج الأبديّ،

أريدُ الكأسَ البلوّريّةَ الأشَفّ،

لأشربَ نخْبَ ليلةِ حبّي.

إيه؛ أريدُ بهجةَ مركبٍ عائد،

وألفًا مؤلَّفة من نواقيسِ المجدِ لقرعِ نخْبِ ليلةِ حبّي..."(8)

على مدارِ التسعينيّات، وجزءٍ من هذا القرن، عاشت تشابيلا ليلةَ الحبِّ هذه، الجذلةَ الأزليّةَ، برفقةِ بلدِنا إسبانيا. ومثلَ أيّ متفرِّجٍ، أُحسُّ أنّ ليلةَ الحبِّ تلك قضتْها تشابيلا بصُحْبتي حصْريًّا؛ فقد كانت تغنّي لكَ [أنتَ المتلقّي] وحدَكَ، في مَسْمَعِك. وحين أصبح دفقُ صوتِها أقلَّ جبروتًا (ولا أتحدّثُ هنا عن الانحدار، ذلك أنّها لم تعرفْه، فقَدْ فعلتْ وغنّتْ ما يحلو لها، وحسبما يحلو لها)، صارت أكثرَ حميميّةً.

 

تشابيلا مع فريدا كالو، ويُعتقد أنّ تشابيلا غنّت "البكّاءة" وهي تفكّر فيها

 

إنّ أفضل نُسَخِ أغنيةِ "البكّاءة" (La Llorona) أَدَّتْها تشابيلا في حفلاتها الأخيرة. كانت تقارِبُ الأغنيةَ بالهمسِ، وتسترسلُ على هذه الدرَجةِ النغَميّة، مرتِّلةً الكلمةَ تِلْوَ الكلمة، حتى بلوغِ النهاية الملحميّة. أمّا باعتبار الغناء كما هو مُتعارَفٌ عليه، فإنّها كانت تغنّي المقطعَ الختاميّ فقط، وعلى نحوٍ متصاعد، حَدَّ الصراخِ بكلمتِها الموجزةِ الأخيرة.

"إِذْ لأنّي أحبُّكِ، فأنتِ تحبِّين أيّتها البكّاءة،

تريدين أنْ أحبَّكِ أكثر،

ها قد وهبتُكِ حياتي أيّتها البكّاءة،

فما الذي تريدينه أكثر؟

تريدين أكثر!"(9)

وكان الإصغاءُ إلى كلمة "أكثر" آنَ تصيحُ بها تشابيلا يجعلني أرتعش.

قَدَّمتُها في عشرات المدن، وأتذكّر كلَّ حفلةٍ على حِدة، والدقائقَ التي تسبقُ تلك الحفلاتِ في حجراتِ الفنّانين في الكواليس. أذْكر أنّها كانت قد أقلَعَتْ عن الشراب، وأنا عن التدخين، وفي تلك اللحظات كنّا مِثْل مَنْ يعاني متلازمةَ الإمساكِ عن الإدمان. كانت تخبرني كم يناسبها قَدَحٌ من مشروب التيكيلا لتَحْمِيَة الصوت، فأجيبُها بأنّي على استعدادٍ لالتهامِ علبة سجائر كي أتغلّبَ على الكَرَب. وينتهي بنا الحالُ إلى الضحك، متشابكَي الأيدي، نتبادل القُبَل.

كثيرًا ما تعانقنا! إنّي أعرف جِلدَها تمامًا.

أتاحت سنواتُ الأوْجِ الإسبانيّة لتشابيلا الغناءَ في مسرح أوليمبيا في باريس؛ وهذه مأثرةٌ أُتيحت فقط للمغنّية المكسيكيّة العظيمة لولا بلتران قبلها. في الصالة، كانت جان مورو تجلس إلى جواري، وكنتُ أترجمُ لها بضعةَ مقاطع من الأغنية، إلى أن وشوشتني قائلةً: "لا عليكَ يا بدرو. إنّي أفهمُها جيّدًا." ولم يكن ذلك لأنّها تعرف الإسبانيّة بالطبع.

تمكّنَتْ تشابيلا، بأدائها الباهر في مسرح أوليمبيا الباريسيّ، من فتحِ أبوابِ "مسرح الفنون الجميلة" (Teatro Bellas Artes) في مدينة مكسيكو، بعد أنْ كانت موصدةً بصرامةٍ في وجهها. وتحقّق بذلك حلمٌ آخرُ مِنْ أحلامها. وقبل حفلة باريس، وجّه إليّ صحفيّ مكسيكيّ الامتنانَ لسخائي مع تشابيلا، فأجبتُه أنّ الأمر بالنسبة إليّ ليس من قَبِيل الكرَم، بل الأنانيّة؛ ذلك أنّي كنتُ أتلقّى أكثرَ ممّا كنتُ أعطي. وأضفتُ أنّني، على الرغْم مِن عدم إيماني بالسخاء، أعتقدُ بوجودِ الضَنّ؛ وكنتُ أشيرُ تحديدًا إلى البلد الذي كانت تشابيلا سفيرتَه الثقافيّةَ الأكثرَ تَوقُّدًا.

حقًّا إنّها كانت إلهَةً منذ أنْ بدأتْ الغناءَ في الخمسينيّات في ملاهٍ ليليّةٍ متواضعة (الأمرُ الذي مهّدَ لها أن تُعرَفَ في صالة "إل-آلاكران" El Alacrán، حيث اشتُهرتْ مع الراقصة الغرائبيّة تونغوليليه). بيْد أنّها كانت إلهَةً على الهامش. وقد حكَتْ لي أنّه لم يُسمَحْ لها بتاتًا بالغناء في التلفزيون، أو على خشبةِ المسارح. ولكنْ بعد حفلةِ أوليمبيا، انقلبَ وضعُها على نحوٍ جذريّ.

في تلك الليلة، في مسرح الفنون الجميلة في مدينة مكسيكو، وفيها نلتُ شرفَ تقديمها كذلك، أحرزَتْ تشابيلا حلمًا آخرَ مِنْ أحلامها. وذهبنا للاحتفال بذلك، ولتقاسُمِه مع الشخص الذي يستحقُّه أكثرَ مِنْ غيره: خوسيه الفريدو خيمينيث، في حان تينامبا (Tenampa) في ساحة غاريبالدي.

ونحن جُلُوسٌ تحت إحدى الجداريّات المكرَّسة للعظيم خوسيه الفريدو، شربنا وغنّينا حتى الفجر (هي لم تشربْ إلّا ماءً فقط، مع أنّ الدوريّات المحلّيّة عنونَتْ أغلفتَها في اليوم التالي: "تشابيلا تعود إلى معاقرةِ الخمرة").

جميعُ مَنْ حالَفهم الحظّ بمرافقتها، تلك الليلة، شَدَوْا حتى الهذيان. وغنّت تشابيلا برفقةِ آلاتيّةِ المارياتشي، الذين تعاقدنا معهم لأجل المناسبة. وكانت تلك المرَّةَ الأولى التي ظفرنا فيها بالاستماعِ إليها مع الجوقة الموسيقيّة التقليديّة الأصليّة لفنِّ الرانتشيرا. وكانت تلك معجزةً من المعجزاتِ العديدة التي عشتُها إلى جوارها.

 

تشابيلا بارغاس وبدرو ألمودوبار

 

في زيارتها الأخيرة إلى مدريد، وقبل ثلاثةِ أيّام من حفلتها في "سكن الطلبة" (Residencia de Estudiantes)، وعلى غداءٍ خاصّ جمعها بإيلينا بنعروش وماريانا غيالوي وفرناندو اِغليسياس، سألتْها إيلينا إنْ كانت لا تنسى كلماتِ أغانيها أبدًا. فأجابتْها تشابيلا: "أحيانًا. بيْد أنّي أنتهي دومًا إلى حيث يجب أن أنتهي!" وإنّي لواشِمٌ هذه العبارة على شرفها!

فكمْ من مرّةٍ شاهدتُها تنتهي إلى حيث ينبغي لها أن تنتهي!

وفي تلك السهرة في حان تينامبا، العصيِّ على الوصف، خَلَصَتْ تشابيلا بالليلة إلى حيث يتوجّب عليها: تحت تصويرة النديم العزيز خوسيه ألفريدو، وبرفقة آلاتيّةِ المارياتشي. وارتدّتِ الأغاني المصحوبةُ بغيتاريْن، والتي كانت تصدحُ بها بضرواةٍ في الماضي، بهيجةً واحتفاليّةً، حيث وكما يجب أن تكون. وأضحَتْ أغنيةُ "الثمالة الأخيرة" (El último trago) في تلك الليلة نشيدًا هنِيئًا لحُبورِ مَنْ ارتشفَتِ الكأسَ كلَّها،(10) مَنْ عشقَتْ بلا مكابح، مَنْ ظلَّت على قيْدِ الحياةِ كي تغنّي ذلك.(11) هكذا أصبحَ الهجرانُ عيدًا.

منذ حوالى أربع سنوات، ذهبتُ للتعرّف إلى بلدة Tepoztalán التي كانت تقيمُ فيها، مقابلَ رابيةٍ تَحمِلُ اسمًا يَصْعُبُ نُطْقُه: تشالتشيتيبيتل (Chalchitépetl). في تلك الوديان والتلال، جرى تصويرُ فيلم السبعة الرائعون (The Magnificent Seven)، الذي كان النسخةَ الأمريكيّةَ من فيلم الساموراي السبعة (Seven Samurai) للمخرج كوروساوا. ذكرَتْ لي تشابيلا أنّ الأسطورة تقول إنّ الرابية ستفتح أبوابَها آنَ يَحينُ يومُ القيامةِ القادم، ولن يَنجُو إلّا مَنْ ينجح في الدخول إلى حضنِ الرابية. وحدّدتْ لي المَطْرَحَ، مشيرةً إلى سفحٍ تبدو عليه تلك الأبوابُ مرسومةً.

هناك الكثير من الأساطير العضويّة، والروحيّة، والنباتيّة، والفلكيّة التي تنتشر في منطقة موريلوس (Morelos).

وإضافةً إلى الروابي، التي هي صخريّةٌ أكثر منها ترابيّةً، تعايشتْ تشابيلا مع بركانٍ يحمل اسمًا مدوّيًا: بوبوكاتيبيتل (Popocatépetl). بركانٌ حيٌّ ذو ماضٍ كان فيه عاشقًا بشريًّا يربضُ مستسلمًا أمام جسدِ حبيبتِه التي فارقتْ الحياةَ.

حاولتُ الإلمامَ بالأسماء في اللحظة التي كانت تنبسُ بها تشابيلا، وأسرَرْتُ إليها بصعوبة تلفّظي بالأحرف "ptl" الأخيرة. فأخبرتني أنّ النساء حُظِّر عليهنَّ التفوّهُ بهذه الأحرف فترةً من الزمن. لماذا؟ "لمحض كونهنَّ نساءً،" أجابتني.

إنّها أكثرُ أشكالِ الفحولةِ لاعقلانيّةً (بل كلُّ هذه الأشكال كذلك)، وفي بلدٍ لا يشعر بالعار منها.

في تلك الزيارة قالت لي تشابيلا أيضًا: "إنّي مُطْمَئِنّة." وعادت تكرّرُ لي ذلك في مدريد. من شفتيْها كانت كلمةُ "مُطْمَئِنة" تحيط بكلّ معناها: أنَّها تشعرُ بالسَّكينة، بلا أثرٍ لخوفٍ ولا غَمٍّ ولا تَرَقُّباتٍ (أو بكلّ التَرَقُّبِ، على أنّ ذلك عسيرٌ على التفسير)... أنّها مُطْمَئِنة.

كذلك أفضَتْ إليّ: "ذاتَ ليلة سأتوقّف." وهوتْ كلمة "سأتوقّف" بثَقالةٍ وخِفَّةٍ في آنٍ واحد، حازمةً وعَرَضيّةً معًا. "شيئًا فشيئًا،" وأردفَتْ: "وحيدةً، وسأستمتعُ بذلك." هذا ما قالته.

وداعًا يا تشابيلا، وداعًا أيّتها البركان.

زوجُكِ في هذا العالم، كما كان يحلو لكِ أن تناديني، بدرو ألمودوبار.

5 آب أغسطس 2012

* * *

(1)  La Ranchera: نوعٌ من الموسيقى الشعبيّة الفلوكلوريّة المكسيكيّة، مرتبطٌ بجوقةِ العازفين المعروفة باسم المارياتشي (El Mariachi). تاريخيًّا، تعود الرانتشيرا إلى نهايات القرن التاسع عشر، حيث انبثقتْ عفويًّا من الأداء الجماليّ الشعبيّ، قبل أن تتطوّرَ ويجمعَها "المسرحُ القوميّ" اعتبارًا من العام 1910، بعد ثورة ثاباتا، لتصبحَ رمزًا للتعبير الأكثر شعبيّةً عن روح المكسيك. تتناول كلماتُ أغاني الرانتشيرا السرديّاتِ المتخيّلةَ والوقائعَ المحلّيّةَ على حدّ سواء: تُسلِّطُ الضوءَ على حياة الفلّاحين منذ مرحلة ثورة ثاباتا، وهمومهم المعيشيّة، فضلًا عن حكائيّات الخمّارات. وإلى ذلك تضاف مآسي العشق التي يتواشج فيه جوهرُ الفرد بالمطلق، ويتلاقحان بالجماليّة المميّزة لخلاسيّة المكسيك. وتحتوي الرانتشيرا على سرعاتٍ متفاوتةٍ في اللحنِ والميزانِ الموسيقيّ بمقتضى ما يتطلّبه الموضوع: فيُشدَّد على البطء عند تناول الألم والفجيعة، بينما يتسارع الميزانُ في الأغاني الأقلّ توتّرًا. وقد طوّر المغنّون المحترفون في فنّ الرانتشيرا أساليبَ متباينةً في الأداء، خصوصًا في خواتيمِ الأغاني؛ فتراوحتْ من الأداء الخطّيّ إلى الانفعال الإيروسيّ الذرويّ الحاسم. وراحت أغاني الرانتشيرا تنتشرُ في عمومِ أمريكا اللاتينيّة منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، بفضل الراديو والسينما المكسيكيّة والتواتُرِ الشفهيّ، وصارت الفنَّ الأكثرَ تمثيلًا للمكسيك. وعرف هذا الفنُّ أمواجًا متعاقبةً من أجيالِ الغازفين والمغنّين والمتلقّين.

(2) El Mariachi: نوعٌ موسيقيّ محلّيّ، ويطلَق أيضًا على جوقة الآلاتيّة التي تعزفه. أَدْرَجَتْه اليونيسكو في العام 2011 ضمن قائمة تراث الإنسانيّة العالميّ غير المادّيّ. تاريخيًّا، يتمّ التمييزُ بين عازف المارياتشي التقليديّ الذي يرتدي الزيَّ الريفيَّ الفلكلوريّ ويحافظ على آلاته الموسيقيّة الأصليّة، وبين المارياتشي الحديث الذي يفارق الأوّل بحسب درجةِ التعديلاتِ الفنّيّة التي أخذتْ تحصل منذ ثلاثينيّات القرن العشرين. وقد تطوّر المارياتشي في الفضاءِ الدينيّ على مدى ثلاثة قرون، اعتبارًا من القرن السادس عشر، من خلال تلاقح الفنون الإسبانيّة مع الفنون الإفريقيّة وفنونِ سكّان المكسيك الأصليّين. واعتبارًا من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تابع المارياتشي تطوّرَه التدريجيّ خارج الفضاء الدينيّ المهيمن على الحياة الثقافيّة؛ وصولًا إلى بدايات القرن العشرين، حيث أخْرجته علمنةُ الثقافة من النطاق الدينيّ، وأصبح التعبيرَ الفنّيَّ الأكثرَ التصاقًا بالحياة الفلّاحيّة، ومعاركِ الثورة، والأوقات التي يقضيها المكسيكيّ في الشرب المتواشج مع البوح الثقافي، موظِّفًا الأشكالَ الفنّيّةَ المتنوّعة مثل العزف والرقص والغناء... حتى الاحتفال الطقسيّ الشعبيّ.

(3) El Danzón: إيقاع موسيقيّ ونوع من الرقص، من أصولٍ كوبيّةٍ تعود إلى القرن الثامن عشر. وضع موسيقاه الملحّنُ الكوبيُّ Miguel Faíled (ولد سنة 1852 وتوفّي سنة 1921)، لينتقل إلى المكسكيك سنة 1890 ويدخلَ في ثنايا الفنون الشعبيّة. تُؤدَّى هذه الموسيقى الراقصة برفقة آلات النفخ مثل الفلوت، والكمان وآلات الإيقاع الكاريبيّة المألوفة.

(4) El Fado (حرفيًّا تعني بالبرتغاليّة "القدَر" أو "النصيب"): شكلٌ من الغناء يؤدّيه مغنٍّ واحد، وظهر في البرتغال في القرن التاسع عشر. ومن المرجّح أنّه تطوّر من تلاقح الموسيقى البرتغاليّة بكلّ حمولتها التاريخيّة، وبخاصّةٍ العربيّة، مع الموسيقى الأفريقيّة. ويرتبط الفادو بمفهوم اِلسَوْدَاد (El Saudade)، وهو مصطلحٌ يرجَّح أن تعود جذورُه إلى الكلمة العربيّة "سَوْداء"؛ وراحت الكلمة تشير إلى الحنين الذي يؤدّي إلى السوداويّة والغُمَّة والشجن.

أمّا النانا (La Nana)، فهي أغنيةُ التهويدة أو الهدهدة الهادئة العذبة، التي تغنّيها الأمُّ لتحثّ طفلَها على النوم. وتعتمد على التكرار والإيقاع البسيط.

(5) خوسيه ألفريدو خيمينيث (1926-1973) مغنٍّ وكاتب أغانٍ وملحّن مكسيكيّ. ومع أنّه لم ينلْ تعليمًا موسيقيًّا أكاديميًّا، فقد وصل إلى أن يكون من أشهر فنّاني المكسيك الشعبيّين في النصف الأوّل من القرن العشرين. تعتمد مرجعيّةُ إبداعه على تجاربه اليوميّة، وعلى وقائعَ من سيرتِه الذاتيّة، التي عبّر عنها بوضوحٍ وبساطةٍ وعمق. تناول في أغانيه موضوعةَ الحُبّ بشكلٍ أساس، وعبْرها حاور الذائقةَ الشعبيّةَ البيكارسكيّة، ومرّر كافّة المواضيع الأخرى: من شظف العيش الذي يُتحمّل بالكرامة، ومعاناة الفرد وردود أفعاله تجاه العَوَز، واللارحمة المجتمعيّة، ومناورات الشطّار، وجوى الهيام، والأفراح والأتراح المكسيكيّة.

(6) أغوسطين لارا (Agustín Lara): وُلد سنة 1897 وتوفي سنة 1970. وهو ملحّن وكاتب أغانٍ مكسيكيّ. لُقِب بـ"الموسيقيّ الشاعر" و"النحيل الذهبيّ." يُعتبر من أهمّ الفنّانين في عصره في مجال الموسيقى، وكتابةِ الأغاني المكسيكيّة ذاتِ الأصول الشعبيّة، فضلًا عن الجنس الموسيقيّ المعروف بـ"البوليرو" (El Bolero)، الذي اشتهر به خلال العشرينيّات والثلاثينيّات.

(7) إشارةً إلى أغنية تحمل عنوان "عالمٌ غريب" (Un mundo raro) لخوسيه ألفريدو خيمينيث.

(8) المقطع الأخير من الأغنية التي تُعرف بـ"ليلة حبّي" (بالإسبانيّة: La noche de mi amor). وهي في الأصل أغنية برازيليّة كَتبتْ كلماتِها ولحّنتْها المغنّيةُ البرازيليّة دولوريس دوران في العام 1959. تستعير الأغنية في هذا المقطع عبارةَ "نواقيس المجد" من التقليد الدينيّ في العالم الكاثوليكيّ، لتشير بهذا التناصّ إلى البعث؛ ذلك أنّ "أجراس المجد" تُقرع إعلانًا بقيامة المسيح. أُدِّيتْ هذه الأغنية من قبل الكثيرين، على أنّ تشابيلا اشتهرتْ بأدائها المفرد لها.

(9) البكّاءة (La Llorona): أغنية شعبيّة مكسيكيّة انتشرتْ في منطقة أواكساكا. لا يُعرَف لها مؤلَّفٌ محدّد، ويُعتقد أنّ تنوع نُسَخ كلماتها قديمًا يعودُ إلى تعدّد مؤلِّفيها الشعبيّين. وأمّا نسختها المعروفة حاليًّا، فقد استقرّتْ بفضل الشاعر المكسيكيّ أندريس اِنيستروسا سنة 1940. ومن بين منْ أدّى هذه الأغنية في عالم الثقافة الإسبانيّة، تبرزُ تشابيلا بارغاس بلا أدنى شكّ؛ بل يرى البعض أنّ أحدًا لم يستطع تجاوزَ أدائها حتى اللحظة.

يرتبط لفظ La Llorona بالذاكرة الجمعيّة الأمريكيّة-اللاتينيّة. ذلك أنّ المعتقدات الشعبيّة تسرد أنّ "البكّاءة" امرأةٌ قتلتْ أولادَها غرقًا. وبعد ندمها على فِعلتِها، راحت تجوبُ الدروب، وتبحث عن أبنائها ليلًا في الأنهار، وهي تنتحب بحرقةٍ وأسى. وكانت تَظْهر كطيْف قرب السواقي والأنهار، مسبِّبةً الفزعَ لدى عابري السبيل أو مستمعي الخرافة. وتُعتبر هذه "البكّاءة" أو "المنتحِبة" تجسيدًا لـ"النفْسِ في حالةِ الألم" (Alma en pena) في الثقافة الشعبيّة.

(10) يتضمّن سياقُ العبارة إشارةً غير مباشرة إلى المقطع الأخير من السينفونيّة التاسعة لبيتهوفن، وهو المقطع الرابع الخاصّ بـ"نشيد الفرح" الذي كتبه الشاعرُ والمسرحيّ فريدريش فون شيلير.

(11) تستحضر الجملةُ التي يستخدمها ألمودوبار عنوانَ كتاب غابرييل غارثيا ماركيث، عشتُ لأروي (Vivir para contarla). وفي حالة تشابيلا يبدو أنّ العبارة توعز بالقول: "النجاةُ غناءً."