30 يونيو: مصر إلى أين؟
02-08-2019

 

حلّت في الثلاثين من شهر يونيو (حزيران) الذكرى السادسة للنزول الجماهيريّ المصريّ الكبير، الذي انتهى بتدخُّل القوّات المسلّحة، والإطاحةِ بحكم جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من جماعات الإرهاب والسلفيّة الوهّابيّة والتطرّف.

وبعد مرور فترة كافية للنظر بموضوعيّة إلى المسار، يصحّ أنْ يُطرح بعضُ الأسئلة المهمّة، ومنها: هل ما حدث كان ضروريًّا؟ ألم يكن من الأسلم الانتظار، وإتاحةُ وقت أطول لجماعة "الإخوان" وحلفائها، قبل الحكم الباتّ عليهم والتحرّكِ لإزاحتهم من السلطة؟ أكانت الإطاحةُ بحكم المرشد ممكنةً من دون إحلال حكم الجنرال محلّه؟ إلى أين قاد الوضعُ بعد هذه السنوات الستّ، وإلى أين يتّجه؟

***

نبدأ بالسؤال الأوّل، والإجابة من دون لبس هي: نعم. إنّ الإطاحة بحكم "الإخوان،" وحلفائها من جماعات الإرهاب والتكفير، كان قرارًا صائبًا ولازمًا. ولو عادت دورةُ الأيّام إلى الوراء، لَما كان هناك بديل منه. لماذا؟

أولًا: كان وصولُ الإخوان إلى سدّة الحكم تزييفًا لنتائج الانتخابات الفعليّة، التي عُرف الآن أنّ الفائزَ فيها، بفارقٍ محدود، كان الفريق أحمد شفيق، المنافس الرئيس لمحمد مرسي.[1] ولكنّ المجلس العسكريّ، آنذاك، برئاسة المشير طنطاوي، رأى أنّ من الأصلح الضغطَ على شفيق للتنازل "حتى لا يحرقوا [ أي الإخوان وجماعاتُ الإرهاب] البلد،" وكانوا قد هدّدوا بذلك.

ثانيًا: جاء حسمُ الأمور على هذا النحو بإرادة إدارة الرئيس الأمريكيّ الأسبق أوباما، بعد تقديم "الإخوان" التعهّداتِ المطلوبةَ لتأكيد استمرار المصالح الأمريكيّة في مصر والمنطقة وتعزيزها، والالتزام باتفاقات الصلح مع العدوّ الإسرائيليّ. فقد كان من المهمّ للقيادة الأمريكيّة، بعد وقائع 25/1/2011، ضمانُ بقاء "النظام" ولو كان الثمن التخلّص من حسني مبارك، على ما شرح جاسون براونلي.[2] وكانت الحواراتُ الجارية في الكواليس بين الأمريكيين و"الإخوان" قد ضمنتْ هذا الوضعَ، وتمّ التنفيذ.

ثالثًا: نقضتْ جماعةُ الإخوان كلَّ الوعود التي قطعتْها على نفسها، أمام القوى الأخرى، بالالتزام بالتحرُّك الجماعيّ لبناء "الدولة المدنيّة الحديثة،" المبنيّةِ على أسس المواطنة والمشاركة. وهي سعتْ منذ اللحظة الأولى، بالتعاون مع "المجلس العسكريّ،" للاستئثار بالسلطة، وتقديمِ انتخابات الرئاسة على حساب إعداد دستورٍ جديدٍ يَضْمن تحقيقَ شعارات ثورة يناير: "العيش (الخبز)، والحريّة، والعدالة الاجتماعيّة، والكرامة الوطنيّة،" والإسراع بانتخابات مجلس الشعب قبل أنْ يستكمل الفرقاءُ الآخرون استعداداتهم - - مُستندة في ذلك إلى امتلاكها تنظيمًا كبيرًا ومستعدًّا، وإمكاناتٍ مادّيّةً ضخمةً، ودعمًا أمريكيًّا لا مراء فيه.

رابعًا: كشفت السنةُ التي قضاها الإخوانُ في الحُكم نيّتَهم الانقضاضَ على كلّ مراكز الدولة ومفاصلها الأساسيّة؛ وهذا ما عُرف بخطّة "الأخونة." كما تكشّف، من تصريحات قادة الجماعة، امتلاكُها عشراتِ الآلاف من الكوادر المنظّمة في صفوف الميليشيا العسكريّة المُدَرّبة لمواجهة الخصوم. وقد أعلن عناصرُها القياديّة  أنّهم "لن يتركوا الحكمَ ولو بعد خمسمائة عام،" وفقًا لنظريّة "ركل السُلَّم،" أي الديمقراطيّة لمرّة أولى وأخيرة![3]

خامسًا: عَكَسَ أسلوبُ إدارة السلطة في عام حكم الإخوان فوضى شاملةً، وعجزًا بيّنًا عن قيادة دولةٍ كبيرةٍ كمصر، وتكالُبًا على الاغتراف من مناعم حُكمٍ طال انتظارُه، من دون النظر إلى حلّ المشكلات المعيشيّة العميقة التي أفضت إلى انفجار الانتفاضات الجماهيريّة والإطاحة بمبارك وعائلته.

سادسًا: دخلت "الجماعة" وحلفاؤها في حربٍ، مكتومةٍ وأحيانًا مكشوفةٍ، ضدّ نظام مبارك، وضدّ جماعاته النافذة التي لم تسقطْ برحيله، وضدّ "الدولة العميقة" التي انتابتها المخاوفُ من خطط أخوَنة الدولة، فراحت تضع العصيَّ في الدواليب لإثبات فشل الإخوان وانعدام أهليّتهم لقيادة الدولة.

 

كشفت السنةُ التي قضاها الإخوانُ في الحُكم نيّتَهم الانقضاضَ على كلّ مراكز الدولة 

 

سابعًا: تخوّفات الأقباط المشروعة بسبب استفحال مظاهر "الأسلمة" بالمفهوم الوهّابيّ، وذيوع مظاهر التديّن في صورته الشكليّة الصادمة (الذقن الكبيرة، والجلباب القصير، والنقاب، والصلوات في الشوارع، وميكروفونات الجوامع العالية الصوت، والتهجُّم في وسائل الإعلام على المخالفين في الملّة واعتبارهم "كفَرَةً" و"خوارج،"...)، وكذا حوادث حرق الكنائس وقتل المسيحيين وتحقير ديانتهم في إعلام الجماعات الدينيّة ومساجدها.[4]

ثامنًا: قلق الجماعة الثقافيّة المصريّة من احتقار النظام الإخوانيّ للهويّة الوطنيّة المصريّة ولتراثها الحضاريّ؛ ومن إعلان نيّة إحلال "هويّة إسلاميّة" مكانه؛ ومن تهديدات الجماعات الدينيّة بهدم الأهرامات والتماثيل المصريّة القديمة باعتبارها "أوثانًا"؛ فضلًا عن دعاوى تهدِّد حريّةَ الفكر وأنشطة الفنّ والإبداع. كلّ ذلك دفع المثقّفين المصريين إلى احتلال مقرّ وزير الثقافة، والاعتصام فيه، احتجاجًا على تعيين وزيرٍ إخوانيّ.[5]

تاسعًا: قلق القوى والأحزاب والهيئات المدنيّة واليسارية والعلمانيّة في مصر من مشهد "جُمَع قندهار،" التي شهدتْ حشدَ عشرات آلاف المتطرّفين، بهيئاتهم المميّزة، ونشرَهم أعلامَ "داعش" و"القاعدة" والسعوديّة وشعاراتِ التكفير والتخوين. وهو ما أشار إلى اتجاه البلاد، لو استمرّ الوضع، إلى خطر نشوب حربٍ أهليّةٍ لا تُبقي ولا تذر.

عاشرًا: تخوّف القوّات المسلّحة المصريّة من سيطرة الإخوان على مؤسّساتها، والزجّ بالجيش المصريّ في حروبٍ مُدَمّرة، على نحوِ ما أَعلن محمد مرسي (في احتفالات أكتوبر 2012)، وسط رموز الجماعات الإرهابيّة وقتلة أنور السادات، بأنّ الجيش المصريّ مستعدٌ للسفر إلى سوريا لمساعدة قوى "الثورة الإسلاميّة" في مواجهة "حكم الأسد."[6]

حادي عشر: أداء مرسي الكاريكاتوريّ، الذي كشف عدمَ درايته بأصول الحُكم، وانعدامَ أهليّته كرجل دولةٍ حصيف قادرٍ على إدارة دولةٍ تاريخيّةٍ كبيرة كمصر. وهذا ما تبدّى، مثلًا، في إذاعة حواره مع قادة الجماعات الإرهابيّة وهم يتداولون في ضرورة هدم "سدّ النهضة" الأثيوبيّ؛[7] وفي تحدّيه لثوابتَ شعبيّةٍ مصريّةٍ راسخة مثل التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ، وإبداء الودّ لدولة الاحتلال برسالته التي يتغزّل فيها بـ"عزيزه" الرئيس الإسرائيليّ شمعون بيريز!

ثاني عشر: الصدام بين السلطة الإخوانيّة، وقطاعاتِ شباب الثورة الذين شاركوا بفاعليّة في كلّ الوقائع منذ 25/1/2011. وهو ما تبدّى في الصدامات بين الطرفين أمام مجلس الوزراء ومجلس الشعب والقصر الجمهوريّ، وفي الاتهامات الموجّهة إلى الإخوان بـ"خيانة الثورة."

 

جبهة التناقضات والضرورة

وهكذا شهد يومُ 30 يونيو تحالفًا واسعًا، متناقضَ المكوّنات، أجمعَ على وجوب إزاحة حُكم الإخوان بأيّ ثمن، وبأسرع وقت: من فلول النظام القديم الذين أعادوا تجميعَ أنفسهم للدفاع عن مصالحهم المُهدَّدة، إلى مكوِّنات "الدولة العميقة،" وعلى رأسها أجهزةُ الأمن والمخابرات والقضاء والإعلام والمؤسّسة الدينيّة (بشقَّيْها الإسلاميّ والمسيحيّ)، فضلًا عن أغلب القوى المدنيّة (أحزاب يساريّة وقوميّة وليبراليّة، وتجمّعات وهيئات ثقافيّة واجتماعيّة) التي جمعتهم "جبهةُ الإنقاذ الوطنيّ،" إضافةً إلى الملايين من المصريين البسطاء الذين قضَّتْ مضاجعَهم سيطرةُ "الدقون" المتشدّدة التي ستَفرض عليهم ما يُخالف فهمَهم البسيطَ والمنفتحَ للدين.

فقد توافق الجميع، لحظيًّا، على أنّ كلَّ يومٍ ينقضي، وحكمُ الإخوان قابضٌ على أعنّة السلطة، يعني ابتعادَ مصر عن "طبيعتها" المتوارثة، وهويّتِها الحضاريّة، وشخصيّتِها التاريخيّة. وكان آية بناء هذا التحالف اجتماع الآراء حول نجاعة فكرة جمع توقيعات، وهي فكرةٌ بادرتْ إليها حركةُ "تمرّد،"[8] وتطالب بسحب الثقة من الرئيس الإخوانيّ، وبإجراء انتخاباتٍ رئاسيّةٍ جديدة لانتخاب بديل "يُحقّق أهدافَ الثورة." فجمعتْ أكثرَ من عشرين مليون توقيع في مدّة قياسيّة؛ ما سمح بالتيقّن من المزاج الجماهيريّ الواسع الموافق على التحرّك لإزاحة "حكم المرشد."

 

الشعب يريد إسقاطَ الإخوان

نزلت الجماهيرُ بالملايين في القاهرة والإسكندريّة، رافعةً شعاراتٍ واضحةً ومحدّدة: "الشعب يريد إسقاط النظام،" "الشعب يريد إسقاط حُكم المرشد،" "إرحلْ يا مرسي!" لكنّ الإخوان استخفّوا بقدرة الحشد الجماهيريّ، وكانوا أصلًا قد تعاملوا باستهانةٍ قبل 30 يونيو مع الأصوات التي حذّرتهم من نتائج ذلك اليوم. فنشوةُ السلطة كانت قد أخذتْ بمجامعهم، فاغترّوا بقوّتهم، وتصوّروا أنّهم قادرون على لجم اندفاع المواطنين. وهذا ما ثبت فشلُه فشلًا ذريعًا، خصوصًا مع تخوّف "الدولة العميقة" من نزوعهم المُعلن إلى الهيمنة على كافّة مؤسّسات السلطة. وقد ترجم ذلك التخوفُ نفسَه في عرقلة جهود الإخوان لتسيير أمور الدولة، وإطلاقِ أجهزة الإعلام للتشهير بممارساتهم، وتحريض الجماهيرعلى النزول إلى الشارع في 30 يونيو من دون أيّ خوف من تصدّي الأمن.

 

الإخوان تعاملوا باستهانةٍ قبل 30 يونيو مع الأصوات التي حذّرتهم من نتائج ذلك اليوم

 

ومع صباح 30 يونيو كانت الهتافاتُ التي ترجّ أركانَ مصر واضحةَ الاتجاه. لكنّ المشكلة التي بدأتْ تطرح نفسَها تمحورتْ حول البديل لحكم الإخوان، مع الإقرار بأنّ "البديل الديمقراطيّ" لم يكن جاهزًا لملء الفراغ الشاغر إذا تحقّقتْ إزاحتُهم عن الحكم. فلقد دمّر النظامُ الحاكم، على مدى عقود، كلَّ فرص بناء قوًى شعبيّة، خصوصًا ذات بُعد يساريّ، مُنظّمة وقادرة على التواصل الواسع مع الجماهير. وحين بدأتْ مظاهرُ الصدام بين الجماهير الغاضبة وميليشيا الإخوان والجماعات الإرهابيّة الأخرى حول مجلس الشعب ومجلس الوزراء والقصر الجمهوريّ، بدأ يتردّد شعار: "واحد اتنين، الجيش المصري فين؟" وليس معروفًا مصدرُ هذا الشعار، لكنّ فحواه كان معروفًا. وربّما لم يكن مُستهجَنًا إلّا في حيّز ضيّق، أيْ لدى المتخوّفين من حلول الاستبداد العسكريّ محلَّ الاستبداد الدينيّ، مع احتفاظ البعض بيقينٍ مفادُه: أن لا قدرة على تجنُّب الانزلاق إلى حرب أهليّة ضدّ جماعات إرهابيّة، منظّمة ومُسلّحة شرسة، إلّا بالجيش؛ فـ"لا يفلُّ الحديدَ إلّا الحديد."

 

"المُخلّص" يتقدّم

هكذا سمحت الظروفُ، بل دفعتْ، باتجاه تقدّم "المُخلّص" للعب دوره التاريخيّ، ممثّلًا في الفريق أوّل عبد الفتّاح السيسي، وزير الدفاع، الذي قبض على زمام الأمور، وارتكز إلى مؤسّسات الجيش - المنيعةِ على اختراق الإخوان - للإطاحة بحكمهم. فجرى إيداعُ قادتهم السجونَ، وخيضتْ مواجهةٌ مفتوحةٌ ضدّ تجمّعاتهم وتنظيماتهم المسلّحة، وفُضّت اعتصاماتُهم الخ في ميدانيْ "رابعة" و"الجامعة،" وتمّ الوقوفُ في وجه الضغوط الأمريكيّة والغربيّة للوصول إلى حلٍّ وسط يُتيح للإخوان وتيّارات "الإسلام السياسيّ" العودةَ إلى المشهد السياسيّ.

وقد فشلتْ هذه الضغوط لأنّ القيادة العسكريّة الجديدة للنظام كانت تدرك أنّ هناك ثأرًا مُبيّتًا بينها وبين جماعة الإخوان لن تنساه أبدًا إذا تمكّنتْ مرّةً أخرى من مقاليد السلطة. كما حال تصلُّبُ الإخوان وإصرارُهم الكامل على استعادة كلّ سلطاتهم، وفي مقدّمتها عودةُ مرسي إلى الحُكم قبل أيّ اتفاقات مع العسكر "الذين انقلبوا على السلطة الشرعيّة،" دون تحقيق أيّ تقدّم في هذا الاتجاه.

وحين تعذّرت التسوية، نفَّذت "الجماعة" ما سبق وهدّد به محمد البلتاجي، عضوُ "مكتب الإرشاد،" من "حرق مصر" إذا لم يعد مرسي إلى الرئاسة.[9] وتحرّكتْ عصاباتُ الإرهاب، من الميليشيات الإخوانيّة وجماعات "داعش" و"القاعدة" و"بيت المقدس" وغيرها، تضرب بقوّةٍ في كلّ أرجاء مصر، وبالذات في سيناء. وقد سمحتْ هذه الأوضاعُ بتقدّم السيسي إلى انتخابات الرئاسة، وسط مُطالباتٍ واسعةٍ عزّزتْ فرصَ فوزه. وهو ما سمح له بطلب تفويض شعبيّ، حصل عليه، لمواجهة "الإرهاب."

وأضيف إلى مهام "المُخلّص" فضلٌ جديد: "الحامي." فـ"البطل،" الذي خلّص مصر من حكم "الجماعة الإرهابيّة" وتوابعها، أصبح يقود، باسم مصر، معركةً مفتوحةً ضدّ عصابات الإرهاب والتخريب، و"يحمي" الدولةَ المصريّة التاريخيّة من السقوط في الفوضى والاحتراب الأهليّ والخراب؛ ولسان الحال: انظروا حولكم يا ناس لتروْا ما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا والعراق وغيرها -- فهذا ما كان على وشك الحدوث على أرض "المحروسة" لولا إقدام السيسي والجيش المصريّ وجهاز الأمن الذي استعاد عافيته. وأضيفَ إلى ذلك غِلٌّ لا نهاية له تجاه كلمتَي "ثورة" و"جماهير،" وكراهيّة بلا حدود لذكرى وقائع 25 يناير، ورغبةٌ عارمةٌ في الانتقام من كلِّ من كانت له علاقة بها من قريب أو بعيد.

 

الثمن المدفوع

في ظلّ هذه الظروف، غلب طابعُ "العسكرة" على المجتمع. فانتشر ممثّلو الجيش في كلّ أركان المؤسّسات المدنيّة، والوزارات، والمصالح الحكوميّة، والشركات والمصانع، بل الأندية ومؤسّسات الفنّ والإبداع والثقافة كذلك! وساد شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة،" وجرى - تدريجيًّا - التحوّلُ من تمجيد ثورة 25 يناير إلى شيطنتها، والتغاضي الكامل عن دور مؤسّسات الدولة و"المجلس العسكريّ" السابق في التفاهم مع الإخوان على تسليمهم السلطةَ لقاء إجهاض المدّ الثوريّ، قبل الاكتشاف أنّ مطامع الإخوان لن تقف عند حدّ وأنّهم سرعان ما سيضربون بـ"التفاهم" عرضَ الحائط!

ويومًا بعد يوم، عمد الحُكمُ الجديد إلى بسط سُلطاته على جميع أجهزة الدولة، ولا سيّما الاقتصاد والإعلام: فالأول يمنحه إمكاناتٍ ماديّةً ضخمةً مطلوبة لحريّة الحركة، ولمواجهة أزمات هائلة ومُتراكمة منذ عقود، وباتت تهدّد بالانفجار، كما انفجرتْ في وجه نظام مبارك والإخوان من بعده؛ والثانية تكفل عزلَ معارضيه من كلّ الاتجاهات، وإعادة تشكيل الرأي العامّ بحسب الصورة المرجوّة.

لكنّ الأهمّ كان تنفيذ خطّة ذكيّة للتخلّص من آثار يوم 25 يناير 2011 وممثّليه. في البداية اعتبر النظامُ الجديد نفسَه ممثِّلًا لثورتيْ 25 يناير و30 يونيو معًا، وتبنّى هذا التوجُّهَ الذي برز في ديباجة دستور 2014. ثمّ بدأت الحربُ على ثورة 25 يناير، فجرى وصمُها بالعمالة لأعداء البلاد، واعتبارُها مؤامرةً خارجيّةً لتدمير الاستقرار.

ثم مرّر الحكمُ الجديد، في عهدَي الرئيس السابق المستشار عدلي منصور والرئيس السيسي، عشراتِ القوانين الهادفة إلى إحكام القبضة الأمنيّة: مثل قوانين "تنظيم حقّ التظاهر السلميّ،" و"مكافحة الإرهاب،" و"التعبير عن الرأي،" و"ممارسة العمل السياسيّ." فباتت الأحزاب والهيئات المدنيّة مُحاصرةً، ومحظورًا عليها الاحتكاك بالجماهير في الشارع أو الجامعة أو المصانع أو القرى، باستثناء أحزاب الموالاة. وأصبحتْ تهمةُ "التآمر لقلب نظام الحكم والتعاون مع الجماعات الإرهابيّة" سيفًا مصلتًا على كلّ مَن لا يُدين بالولاء الأعمى للنظام. وحتى الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2019، أُلقي القبضُ على عناصر ليبراليّة ويساريّة من الشباب، وُجّهتْ إليهم هذه التهمةُ عينُها، ولا يزالون قيد الاعتقال!

 

طوارئ بلا نهاية

بعد أن أعلنتْ حالةُ الطوارئ بسبب انفجار حوادث العنف والمواجهة ضدّ "الإرهاب،" استمرّ التجديدُ الدوريّ لها بعد أنْ خفّت وتيرةُ العمليّات الإرهابيّة إلى حدٍّ كبير. وبهذا تكون حالةُ الطوارئ قد خيّمتْ على مناخ مصر منذ الحرب العالميّة الأولى، أي لسنوات تتجاوز الثمانين عامًا!

 

أصبحتْ تهمةُ "التعاون مع الجماعات الإرهابيّة" سيفًا مصلتًا على مَن لا يُدين بالولاء للنظام

 

وعادت إلى الواجهة مجدّدًا الوجوهُ الاقتصاديّةُ والسياسيّةُ والإعلاميّةُ المكروهة، التي كانت من أهمّ أسباب الغضب الشعبيّ على نظام مبارك. حتّى بات واضحًا أنّ النظام "الجديد" هو إعادةُ استنساخ للنظام القديم، وأحيانًا بكفاءةٍ أكثر انخفاضًا، خصوصًا بعد أنْ جرتْ تبرئةُ مبارك ونجليْه وبطانته القمعيّة من أغلب التهم التي وُجّهتْ إليهم، بسبب تغييب القرائن التي تدينهم، والتكييف القانونيّ المتهافت لما ارتكبوه من جرائم![10]

لكن الأهمّ كان حجمَ الخطوات التي اتُّخذتْ على المستوى الاقتصاديّ. فقد تمّ "التحرير" الكامل للاقتصاد المصريّ، وفق تعليمات المؤسّسات الأمريكيّة والدوليّة، وهي خطوات كان نظامُ مبارك نفسُه قد تباطأ في تنفيذها خشيةَ تداعياتها في الشارع. وسبق عقدَ المؤتمر الاقتصاديّ الدوليّ، في مارس 2015، تمريرُ حفنة من القوانين الاقتصاديّة، منحتْ رأسَ المال الأجنبيّ أفضليّاتٍ مطلقة، وكفّت يدَ الدولة عن التدخّل لتنظيم عمل الشركات الأجنبيّة في مصر، وحرّرتها من الالتزام بالقوانين المحلّيّة ومن حقوق العمّال.[11] وبدأتْ خطواتٌ منظّمة لبيع ما تبقّى من الترسانة الاقتصاديّة التي بُنيتْ في عهد عبد الناصر (وآخرُها مُجمّعُ الحديد والصلب بحلوان)، ومُنح رأسُ المال المحلّيّ والعربيّ تسهيلاتٍ لا حدود لها.

وتنفيذًا لشروط صندوق النقد الدوليّ، أُلغي الدعمُ عن أغلب السلع التموينيّة، وجرت تصفيةُ ما تبقّى من مؤسّسات القطاع العام، ورُفعت الأسعارُ المحلّيّة إلى مستوى الأسعار العالميّة، وبخاصّةٍ في مجال الكهرباء والمحروقات. ثم حلّت الطامةُ الكبرى بتعويم الجنيه المصريّ، إذ أصبح الدولار يساوي 18 جنيهًا بعد أن كان أقلّ من سبعة. وهو ما عصف باستقرار حياة 90 بالمائة من الشعب المصريّ تقريبًا، ودفع بأكثر من 60% من المصريين إلى وضع الفقر أو تخومه، بحسب دراسة حديثة للبنك الدوليّ، قُدِّمَ عنها استجوابٌ إلى مجلس النوّاب في أول يونيو 2019.[12]

وعوضًا من إيجاد حلول جذريّة لهموم المجتمع، انشغل النظامُ بتوجيه مبالغ طائلة لبناء "عاصمة إداريّة جديدة،" فيها أكبرُ كنيسة وأكبرُ مسجد وأطولُ برج وأفخمُ أوبرا، وبناءِ منظومة هائلة من الجسور والطرق. وذلك كلّه استنزف أموالًا طائلة، لخدمة مناطق سياحة النخبة القادرة من المصريين وعرب النفط، في المقام الأوّل، وهي تلبّي أولويّاتٍ ليست من ضمن أولويّات الأغلبيّة العظمى من المجتمع. وأمّا العاصمة (القديمة) ومحافظاتُ الأقاليم فقد تُركتْ في وضعيّةٍ يُرثى لها، تعاني التكدُّسَ والعشوائيّةَ وتردّي الخدمات.

الأمر الأغرب أنّ العديد من المشروعات الكبرى هذه لم يخضع، وفقًا لتصريحات رئيس الدولة، إلى دراسات جدوى فعليّة، "لأن احْنا في مصر.. لو دراسات الجدوى مشينا بينها وخليتها العامل الحاسم في حلّ المسائل.. كنّا حقّقنا ما بين 20 إلى 25% ممّا تحقق" فقط![13]

وتضاعفتْ ديونُ الدولة أضعافًا مُضاعفة، إذ تجاوز الديْنُ المحلّيّ أربعة تريليونات جنيه، والديْنُ الأجنبيّ مائة مليار دولار. وبحسب تصريحات وزير المالية، محمد معيط،[14] فإنّ تسديد "فوائد الديون" وحسب، استنزفتْ في موازنة العام الحاليّ 541 مليار جنيه، وبلغ ما سُدّد من أقساط الديون مبلغ 276 مليار جنيه، ومجموعهما 817 مليار جنيه، فيما بلغ إجماليُّ الإيرادات في الموازنة 989 مليار جنيه. أيْ إنّ سداد بعض الأقساط وفوائد الديون يبتلع أكثر من أربعة أخماس الإيرادات المتاحة.

***

هذا هو الوضع الراهن في مصر: قبضة صارمة، وأزمة اقتصاديّة وسياسيّة مستحكمة، وأفق ملبّد بالغيوم، وغضب مكبوت، وأزمات لا حلّ لها. فإلى أين تذهب مصر؟ وما هو المَخرج من اعتصار الشعب المصريّ بين جماعات إرهابيّة، على رأسها جماعةُ الإخوان التي تراجع تهديدُها وإنْ كمَن تحت السطح ولم يتلاشَ نهائيًّا؛ وسلطةٍ مهيمنةٍ تحكم البلادَ بقفّازٍ من حديد، متّكئةً على لزوم هذا الوضع لمقاومة خطر الإرهاب؟

يجري ذلك في وقتٍ تُحاصَرُ فيه كلُّ الأصوات المعادية حقًّا للإرهاب، ولا ترى بديلًا من المشاركة الشعبيّة والعامّة حتى يمكن الانتصارُ على فِرق التطرّف والتكفير وحلُّ المعضلات المُزمنة التي يعانيها المجتمع وبناءُ وطن السماحة والمواطنة والازدهار!

وللحديث بقيّة.

القاهرة

 


[1]  https://www.almasryalyoum.com/news/details/196473 تشكّل شهادةُ الدكتور حسن نافعة، ومعه عدد من الأكاديميين، مادةً مهمّةً في هذا الشأن.

أنظر أيضًا: https://www.amad.ps/ar/post/3449

[2]  جاسون براونلي، إجهاض الديمقراطيّة: الحصاد المرّ للعلاقات المصريّة ـ الأمريكيّة في أربعين عامًا (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 2013).

[3]  عن خطط الإخوان للتمكين واستخدام العنف، يُراجع: http://against-terrorism.weebly.com/1582161015851578-157516041588157515911585.html

[4] نذكر، من ذلك، خطابات الشيخ أبو إسلام عشيّة زيارة وفد مجلس حكماء مصر الكنيسةَ المرقصيّة للتهنئة بعيد رأس السنة؛ وكلمات الشيخ وجدي غنيم التي طفحتْ بشتم الأقباط عامة. راجع نموذجًا: https://www.youtube.com/watch?v=dXgReF-qOko أو https://www.youtube.com/watch?v=AB4cwGWv7vI  

خالد المصري

اسم مستعار لمناضل ومثقف مصريّ.