قضيّة اللاجئين والأونروا: صراع البقاء
28-12-2018

 

منذ انتخاب ترامب، أخذت السياسةُ الأمريكيّة أقصى درجات الانحياز إلى دولة الاحتلال الصهيونيّ. فقد نَقل ترامب السفارةَ الأمريكيّةَ إلى القدس، متحدّيًا بذلك تراثًا طويلًا من تجميد قرار النقل هذا؛ كما أوقف التمويلَ الأمريكيّ عن "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (الأونروا).

ترافق هذان القراران مع تحوّلات كبرى شهدها العالم، وتمثّلتْ في صعود اليمين إلى سدّة الحكم في عدد من دول المركز؛ وفي تعاظُمِ دور "إسرائيل" والدعمِ الذي تتلقّاه؛ وفي عجزِ منظّمة التحرير (والسلطة الفلسطينيّة) عن تعديل موازين القوى لصالح القضيّة الفلسطينيّة؛ وفي الانقسام والصراع بين محاور عربيّة عدّة. هذه العوامل سهّلتْ محاولةَ تصفية وكالة الغوث، تمهيدًا لتصفية قضيّة اللاجئين وحقِّ العودة.

لا تستند قضيّةُ العودة إلى تراثٍ طويلٍ من النضال الوطنيّ الفلسطينيّ فحسب، بل إلى سلسلةٍ من القرارات الأمميّة أيضًا، وأهمُّها قرارُ الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة رقم 194، الذي أقرَّ "بوجوب السماح بالعودة، في أقرب وقتٍ ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيشِ بسلام مع جيرانهم؛ ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقرِّرون عدمَ العودة إلى ديارهم، وكذلك عن كلّ فقدانٍ أو خسارةٍ أو ضررٍ للممتلكات، بحيث يعود الشيءُ إلى أصله وفقًا لمبادئ القانون الدوليّ والعدالة. ويعوَّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قِبل الحكومات أو السلطات المسؤولة."

هذا وقد صدرتْ عشراتُ القرارات عن الأمم المتّحدة بهدف المساعدة في تفسير بنود قرار 194 وتوضيحِها؛ كما صدر الكثيرُ من الدراسات القانونيّة للسبب نفسِه. لكنّها، جميعَها، بقيتْ حبرًا على ورق.

جاء تأسيسُ وكالة الغوث (الأونروا) بموجب قرار الجمعيّة العامّة رقم 302، للعام 1949، كوكالةٍ خاصّةٍ وموقّتةٍ، إلى حين تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 194. وقد حَلّت محلَّ "وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين" المؤَسَّسة في العام 1948. وهذا المقال يتناول دورَ الأونروا في خدمة اللاجئين الفلسطينيين، ويُعرِّج على مدى إسهام قرارِ وقفِ الدعم الأميركيّ في تصفيتها. كما يحاول تحليلَ عمق الأزمة الحاليّة وامتداداتها المستقبليّة، ويفْحص  في النهاية سيناريو معالجة قضيّةِ اللجوء في معزلٍ عن مسألة التحرّر الوطنيّ وعودة اللاجئين ــ ــ بما ينقل المسؤوليّةَ عن الوكالة (وبالتالي عن اللاجئين) من عُهدة الأمم المتحدة إلى عُهدة الدول العربيّة، محرِّرًا دولةَ الاحتلال من مسؤوليّتها التاريخيّة في صناعة النكبة.

لا يمكن فكُّ الارتباط بين الوكالة وحقّ العودة 

 

خدمات الأونروا

شُرِّد الفلسطينيون من بيوتهم وقراهم ومدنهم نتيجةً لاحتلالٍ استيطانيّ إحلاليّ عمل على توطين ملايين من المهاجرين اليهود الذين قدِموا من شتّى أصقاع العالم إلى الأراضي التي احتُلّت سنة 1948، ولاحقًا سنة 1967.

بلغ عددُ اللاجئين الفلسطينيين خلال النكبة التي شهدتْها فلسطينُ في العاميْن 1947 و1948 حوالي 860 ألف لاجئ/ـة مُعترَف بهم من قبَل وكالة الأونروا. أمّا عدد الفلسطينيين اليوم في فلسطين التاريخيّة وفي الشتات فيبلغ قرابة 13 مليونًا، منهم حوالي 8.5 مليون لاجئ. وتُقدِّر الوكالةُ عددَ اللاجئين الفلسطينيين المسجّلين لديها بأكثر من 5 ملايين لاجئ في وقتنا الراهن. ويعود السببُ الأساس في تباين أرقام اللاجئين إلى أنّ عددًا كبيرًا منهم لم يسجِّل اسمَه لدى الوكالة؛ كما أنّ عددًا آخر اعتُبر من ضمن فئة "النازحين،" أي اللاجئين خلال الاحتلال الإسرائيليّ سنة 1967 ــ ــ وهؤلاء لم يُدرَجوا ضمن تعداد الوكالة وتصنيفها.

تقدِّم الوكالةُ خدماتٍ أساسيّةً إلى اللاجئين الفلسطينيين، من أهمّها: التعليم، والصحّة، والحماية الاجتماعيّة، والبنية التحتيّة، والقروض، ودعمُ مراكز المرأة والشباب والأشخاص ذوي الإعاقة، وخدماتُ الطوارئ والتعمير (كما في حالة مخيّم نهر البارد الذي دُمِّر معظمُه). وبشكلٍ أدقّ، تقدِّم الوكالةُ التعليمَ إلى أكثر من نصف مليون طالب وطالبة، من خلال 666 مدرسةً و11 كلّيّة مهنيّة وأكاديميّة. كما تقدّم الخدماتِ الصحّيّةَ والأدويةَ إلى حوالي 3.1 مليون لاجئ/ـة من خلال أكثر من 143 مركزًا صحّيًّا. ويتلقّى حوالي 255 ألف لاجئ/ـة مساعداتٍ من خلال شبكة الأمان الاجتماعيّ.

 

تمويل الأونروا

تعتمد الوكالة في تمويلها على دعم الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ والحكوماتِ الإقليميّة. وتمثِّل هذه المصادرُ مُجتمعةً أكثرَ من 92 في المائة من المساهمات الماليّة التي تصل الوكالة. وتُعَدّ الولاياتُ المتحدة أكبرَ مانح، إذ موّلتْ ما قيمتُه 364 مليون دولار أمريكيّ للعام 2017، وبحدود 30% من ميزانّية الوكالة الإجماليّة، في حين تغطّي مساهمتُها ومساهمةُ الاتحاد الأوروبيّ حوالي نصْف ميزانيّة الوكالة. ولذلك شكّل قرارُ الإدارة الأمريكيّة (في 31 آب 2018) وقفَ المساعدات الأمريكيّة للوكالة ضربةً كبيرةً لها.

وعلى الأثر صرّح المفوّضُ العامّ للوكالة، بيير كرينبول، بأنّ الوكالة ستستمرّ في عمليّاتها على الرغم من وقف التمويل. كما أطلقت الوكالةُ نداءً طارئًا هدفَ إلى جمع 384 مليون دولار لتمويل خدماتها. وقد نجحتْ في ذلك، إذ إنّ أكثر من خمسٍ وعشرين دولةً قامت بتسريع صرف تبرّعاتها السنويّة؛ كما قدّم أكثرُ من ثلاثين مانحًا تبرّعاتٍ إضافيّةً للأونروا ــ ــ منها دولُ الخليج (قطر، السعوديّة، الإمارات، الكويت).

 

أزمة تمويل أمْ تصفية حقّ العودة؟

غير أنّ زيادةَ عدد من دول الخليج تبرّعاتِها إلى الوكالة تعني نجاحَ أمريكا في تحويل عبء تمويل الوكالة من الدول الغربيّة إلى الدول العربيّة. وهذا يخالف الموقفَ الرسميَّ العربيّ في إبقاء مستوى الدعم العربيّ قرابةَ 5% من الميزانيّة العامّة للوكالة، نظرًا إلى كون المسألة مسؤوليّةً دوليّةً تقع أساسًا على عاتق الدول التي ساهمتْ في النكبة. فقبول دول الخليج زيادةَ التمويل يعني الموافقةَ الضمنيّة على السياسة الأمريكيّة.

يركّز الدورُ الأمريكيّ ــــ الإسرائيليّ على محاولة إنهاء القرار 302، المتعلِّق بإنشاء وكالة الغوث، كخطوةٍ أولى في شطبِ حقّ العودةِ وفقًا للقرار 194. فقد نصّ القرار 302 على أن تؤدّي الوكالةُ دورًا في تطبيق نصّ الفقرة 11 من القرار 194 عن العودة والتعويض.

يُنهي شطبُ اللاجئين المسجَّلين لدى الوكالة دورَ هذه الأخيرة. وهذا يتضمّن خطرَ إعادة تعريف اللاجئ الفلسطينيّ، وخطرَ توطين غالبيّة اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة؛ ما يعني شطبَ حقّ العودة لأنّ معظم اللاجئين سيتحوّلون إلى مواطنين ورعايا لهذه الدول.

 

تأثيرات القرار الأميركيّ

على الرغم من أنّ الولايات المتحدة هي المانحُ الأكبر لميزانيّة الوكالة، فثمة عددٌ آخر من الآثار المحتملة لوقف دعمها.

ــــ التأثير السياسيّ المباشر فور بدء سحب اعتراف الولايات المتحدة بالوكالة.

ــــ دفع عدد من الدول الأخرى إلى وقف تمويلِها للوكالة.

ــــ التضييق على كبار العاملين في الوكالة، وتحديد مساحة عملها داخل الولايات المتحدة.

ــــ محاولة إنهاء الوكالة داخل الأمم المتّحدة، وتحويل قضيّة اللاجئين الفلسطينيين إلى "المفوّضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"؛ وهو ما يتقاطع مع موقف رئيس وزراء الاحتلال المُطالِب بذلك. ويعني هذا الأمر إنهاءَ التفويض القانونيّ لوكالة الغوث. كما يعني تذويبَ قضيّة اللاجئ الفلسطينيّ ضمن قضايا اللجوء والهِجرة بسبب "النزاعات الداخليّة" أو "الكوارث الطبيعيّة،" بما ينفي عنها البُعدَ الاستعماريّ.

ــــ إعادة تعريف اللاجئ الفلسطينيّ بربطه بالنكبة دونَ الأجيال اللاحقة، بحيث يقتصر عددُ اللاجئين على بضعة آلاف فقط.

ــــ محاولة إقناع الدول المضيفة (الأردن، لبنان، سوريا) بتوطين اللاجئين الفلسطينيين مقابل تعويضاتٍ ماليّةٍ ضخمة.

ــــ إنهاء المزيد من عقود الموظفين/ات العاملين ضمن بند الطوارئ لدى الوكالة. وهو ما حصل فعلًا في قطاع غزّة، الأمرُ الذي ساهم في زيادة نسبة البطالة (المرتفعة أصلًا).

ــــ تقليصُ بعض خدمات الوكالة وتجميدها، وكذلك البرامج الاجتماعيّة والنفسيّة التي لا تُصنَّف في إطار "الخدمات الأساسيّة."

هذه الآثار الأوّليّة يُمكن أن تصل إلى قطْع الخدمات الأساسيّة عن اللاجئين الفلسطينيين. وهذا ما سوف يفاقم أوضاعَهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتحديدًا في قطاع غزّة ولبنان وسوريا، حيث يعانون أزماتٍ مُضاعفةً نتيجةً للحروب والصراعات الداخليّة. وسيُفاقم عدمُ تفويضِ الوكالة من أزمة تقديم الحماية إلى اللاجئين الفلسطينيين؛ وهنا يتعارض هدفُ وجودها مع الهدف الأسمى للقانون الدوليّ، الذي يقوم بالأساس على توفير الحماية للأفراد واللاجئين.

الوكالة لا تقدّم الحماية، إذًا. وهي لا تقوم بأيّ دور لضمان عودتهم إلى بيوتهم، وتكتفي بتقديم الخدمات لهم (وهذه، في ذاتها، محلُّ نقدٍ من أطراف عدّة). إنّ إنهاء الوكالة قد يساعد في نقْل تفويضِ الحماية إلى وكالةٍ أمميّةٍ أخرى، لكنّه يُفقِد اللاجئَ الفلسطينيّ تعريفَه القانونيَّ المُتوارَثَ من جيلٍ إلى آخر؛ كما أنّه يسهّل عمليّةَ التوطين.

 

ما العمل؟

خلال السنوات الماضية تبلورتْ قناعةٌ واضحةٌ لدى كثيرين أنّ المجتمع الدوليّ ليس معنيًّا بإيجاد حلول عادلة لقضيّة اللاجئين على أساس القرار 194. وهو ما عنى أنّ على اللاجئين التفكيرَ بوسائلَ أُخرى من أجل إبقاء قضيّة اللاجئين على أجنْدة القضايا العالميّة، ومن أجل الضغط لتنفيذ حقّ العَودة.

لذا شهدتْ سنةُ 2011 مسيراتِ عودة على الحدود اللبنانيّة ــــ الفلسطينيّة، وعلى الحدود الداخليّة لفلسطين. وتجدّدتْ هذا العام الدعوةُ إلى إطلاق مسيرات العودة الكبرى التي تُنظَّم بشكل أسبوعيّ على حدود قطاع غزّة مع الاحتلال.

إنّ ممارسة العودة، من خلال هذه النشاطات، تتمّ بالتضادّ مع المشروع الاستعماريّ. فهذا المشروع لم يكتفِ بنفي الفلسطينيّ في لحظة زمنيّة فارقة (47 ــــ 1948)، بل يعمل بشكل يوميّ على تهميش الفلسطينيّ. وهو ما يتمّ من خلال حصار المدن والقرى العربيّة في الداخل الفلسطينيّ عام 48، وحصارِ قطاع غزّة وإبعادِه عن التواصل الجغرافيّ مع بقيّة فلسطين، وتقطيعِ أوصال الضفّة الغربيّة وتحويلها إلى "محميّات" مكتظّة بالسكّان، وعوقِ أيّ تواصل بين مخيّمات الشتات الصغيرة وفلسطين.

والحقّ أنّ التضادّ مع الإيديولوجيا الإسرائيليّة لن يتم إلّا باتّباع "استراتيجيّة العودة المستمرّة إلى المكان الأصليّ" من خلال نشاط جماعيّ وعشوائيّ، بحيث يستحيل ضبطُه بالقوة العسكريّة أو الحصار.

يكتسب الحديث عن دور الوكالة بعدًا يتعلّق بالإبقاء على اللاجئين الفلسطينيين في إطار مكانيّ  ــــ اجتماعيّ واحد، هو المخيّمات. فهذه المخيمات تعبّر عن حال اللجوء لكونها موقّتة (إيْ إلى حين العودة إلى المكان الأصليّ)، وتسهم في الحفاظ على وجود اللاجئين في البلدان المضيفة ضمن حالة اجتماعيّة/وطنيّة متماثلة.

لذا فإنّه لا يمكن فكُّ الارتباط بين الوكالة وحقّ العودة، وبين اللاجئ والوكالة كجسر معلّق بانتظار لحظة العودة. وفي هذا الإطار نشط "ائتلافُ عدالة،" وهو من المؤسّسات الأهليّة والنقابات داخل الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، من أجل إطلاق حملةٍ دوليّةٍ لمناصرة الوكالة. فنظّم لقاءً بين المفوَّض العام للوكالة وممثّلي عدد كبير من النقابات والشبكات ومؤسّسات المجتمع المدنيّ. وفي هذا اللقاء جرى الاتفاقُ على التعاون من أجل تجنيد الدعم السياسيّ والإعلاميّ لجهود الوكالة.

كما أطلق "مركزُ بديل" وثيقةً إستراتيجيّةً للتعامل مع الهجمة على الأونروا. وفيها حُدّدتْ مجموعةٌ من الإستراتيجيّات الواجب اتّباعُها للدفاع عن الوكالة. وقامت دائرةُ شؤون اللاجئين بعدة مبادرات في هذا الخصوص.

على أنّ هذه الجهود، وغيرها الكثير في الداخل الفلسطينيّ وفي الشتات، تفتقر إلى عنصرٍ أساس، هو المظلّة السياسيّة الجامعة. ذلك أنّ تراجعَ منظّمة التحرير، وضعفَ علاقتها بالمخيّمات الفلسطينيّة (وتحديدًا في الشتات)، أفقداها الكثيرَ من قدرتها على ممارسة الضغط والتحريك والحشد للدفاع عن الوكالة. كما أنّ المآزق السياسيّة التي تعانيها السلطةُ جعلتها شبهَ مشلولة أمام القرار الأمريكيّ.

إنّ إعادةَ بناء موقف فلسطينيّ واضح وموحّد تجاه حقّ العودة وأدواتِ الفعل والمواردِ اللازمة؛ وحشدَ الطاقات والجهود الفلسطينيّة، ومن ثم العربيّة والتضامنيّة؛ أمورٌ لا بدّ منها لمواجهة السياسة الأمريكيّة، بما يحمي اللاجئين الفلسطينيين، ويعزِّز من صمودهم ومقاومتهم لأيّ محاولات إلغاءٍ أو توطين، وصولًا إلى ممارسة فرديّة وجماعيّة لحقّ العودة.

فلسطين المحتلّة

فراس جابر

باحث مؤسِّس، مرصد السياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة.