"أمّة" الإسلام السياسيّ: إعادة التخيّل وفخّ الأكثريّة
10-10-2019

 

لم تكن القوّةُ الاستعماريّةُ على العالم العربيّ ذاتَ بُعدٍ حربيّ واستغلاليّ فحسب، بل جلبتْ معها أيضًا تنويعةً من الأفكار والمفاهيم والبراديغمات الجديدة على العالم العربيّ؛ الأمرُ الذي أسفرَ عن إرباكٍ شديدٍ في النموذج المخياليّ الذي كان يفكّر من خلاله العربُ والمسلمون. بيْد أنّ هذا الإرباك لم يكن ذا طبيعةٍ سالبةٍ فقط، بل موجبةٍ أيضًا. فالتجاذب مع الاستعمار يُنتج ذواتًا جديدةً تُشكِّل نفسَها من خلال الأدبيّات الكلاسيكيّة التي تألفها، والجديدِ الذي تصارعه.

على مدار التاريخ الإسلاميّ، كان مفهومُ "الأمّة" أحدَ أكثر المفاهيم رواجًا في الخطاب العربيّ الإسلاميّ. فبالإضافة إلى بُعده القرآنيّ، كان أيضًا مدارًا لكتبٍ في "الفقه السياسيّ الإسلاميّ" (السنّيّ). إذ مع ظهور الإسلام، حصل انتقالٌ براديغميّ مهمّ، تمثّل في الانتقال من القبائل والعشائر إلى فكرة الأمّة، التي ستكون هي نفسها مدارَ صراع طويل. وعلى الرغم من أنّ التمثيل السياسيّ لمفهوم الأمّة إسلاميًّا لم يتحقّق، نظرًا إلى اختلافها إلى فرق، فقد بقي هذا المفهوم مثالًا منشودًا.

مع دخول الحداثة، عن طريق الاستعمار، إلى العالم العربيّ والإسلاميّ، محمولًا بفكرة الدولة - الأمّة الحديثة، حصل تحوّلٌ في فهم الأمّة لنفسها على أنّها تمثّل كيانًا بعينه. فالأمّة، حداثيًّا، ليست كينونةً روحيّةً تجتمع على بُعدٍ قيميّ (كما في المثال الإسلاميّ المنشود)، بل كيان اصطناعيّ بالأحرى، يقوم على فكرة التنازل لصالح الدولة السياديّة.

 

الإسلامويّة والأمّة المتخيَّلة

سأركّز هنا على جينالوجيا التصوّر الإسلامويّ السنّيّ لفكرة الأمّة، محاولًا إظهارَ التوتّر العميق الموجود في بنيته. وتتأتّى ضرورةُ هذه المساءلة النقديّة لمفهوم الأمّة عند الإسلامويّة السُّنيّة من تحويله إلى رافعة سياسيّة وإيديولوجيّة، سواء باسم "توحيد الأمّة" أو "النيابة عنها." إنّ عمليّة التخييل التي قام بها الإسلاميّون للأمّة باعتبارها شيئًا ناجزًا تارة، وأصيلًا ونقيًّا تارةً أخرى، دفعتهم إلى اختراع الماضي، مثلهم مثل القوميين، من أجل النيابة باسم الناس، سواء على المستوى الدينيّ أو السياسيّ.

ففي ضوء صعود الدول القوميّة، أعيدت موضعةُ مفهوم الأمّة، بحيث ارتبط بالدولة الممثّلة للأمّة. ومن ثمّ أعاد التصوّرُ الإسلامويّ تخيّلَ "الأمّة الإسلاميّة" ككيان سياسيّ، وحوّله إلى مشروع إيديولوجيّ، مفترضًا وجودَ كيان يسمّى "أمّة إسلاميّة" عبر التاريخ، واحدٍ ومتجانسٍ وغيرِ هجين. وفي الوقت الذي ظنّ فيه الخطابُ الإسلامويّ أنه يضادّ الخطابَ القوميّ (العَلمانيّ، والدولتيّ)، فإنّه واقعٌ في أسره ومشروطٌ به لا محالة. فـ"القوميّة الإسلاميّة" التي حاول قسمٌ من الإسلاميين الحديثَ عنها منذ حسن البنّا هي ضربٌ من المفارقة: "[فـ] الجمعُ بين القوميّة والإسلام بهذا الشكل لم يرِدْ عند المفكّرين الإسلاميين السابقين الذين اكتفوْا دومًا بمصطلح الأخوّة الإسلاميّة أو بمصطلح الأمّة الإسلاميّة."[1]

 

في ضوء صعود الدول القوميّة، أعيدت موضعةُ مفهوم الأمّة

 

وإذا كان البنّا قد فتح البابَ على هذه الأدلجة الدينيّة، فإنّ الأمر تطوّر نحو مزيدٍ من التسييس مع أبي الأعلى المودوديّ، وصولًا إلى الصيغة النهائيّة لفكرة قطب عن "الطليعة القرآنيّة" أو "الجيل القرآني الفريد" الذي سيقود المجتمعَ والدولةَ نحو سواء السبيل.

إنّ إعادة تخيّل الأمّة من جانب الخطاب الإسلامويّ، حديثِه ومعاصرِه، تتعلّق في الأساس بسؤال الشرعيّة والإنابة والحكم. لكنْ إذا كانت الأرضيّة السياسيّة الحديثة لا تقوم على مفهوم "دار الإسلام،" وإنّما على فكرة الإقليم وسيادة الدولة وفكرة الأمّة التي تفترض ثنائيّة الأكثريّة/الأقليّات، فكيف يمكن تخيّل أمّة إسلاميّة واحدة ومتجانسة؟

على الرغم من أنّ هناك تيارًا إسلامويًّا عريضًا، ممثّلًا في تيّارات إصلاحيّة في مصر وتونس والمغرب منذ الثمانينيّات، قبِلَ بفكرة الإقليم والسيادة والأمّةِ المستأمَنة، فإنّ هناك تيارًا آخرَ نجدُ له رافدًا مودوديًا - قطبيًّا يلغي أيَّ تقليدٍ دينيّ أنتجَ ثقافةً وفقهًا وتاريخًا، ليعودَ عودةً رومانتيكيّةً إلى لحظة نزول الوحي - - وهي عودة رومانتيكيّة لأنّها تتجاوز كلَّ أشكال التاريخ الذي عبّرت الأمّةُ المتخيّلةُ عن ذاتها من خلاله.

على أنّ الأمّة الإسلاميّة المتخيَّلة من قِبل الخطاب الإسلامويّ (تحديدًا في شقّه الإصلاحيّ) هي مثالٌ أوحد على طبيعة الفكر الإسلامويّ القائم على التوفيق (وهي سمةٌ ورثها من عصر "النهضة" العربيّة). فقد أدّى التسييسُ الإيديولوجيّ الإسلامويّ للمفاهيم إلى خلق قراءةٍ تستدخل الماضي الإسلاميّ، ولاسيّما الفترة النبويّة، في صراع مع الراهن؛ ومن ثمّ ستُقرأ السيرةُ النبويّة نفسُها بوصفها مَسِيرةً سياسيّةً بالأساس. وإذ لا ننفي الطبيعةَ السياسيّة للفترة النبويّة، فإنّنا نسأل: كيف تَستدخل قراءةٌ معيّنةٌ تاريخًا وشرطًا مغايريْن في تاريخ وشرط آخريْن خدمةً لمفاهيمَ معينة؟

هكذا تنجمُ المشكلة المصاحبة للمخيال الإسلامويّ الإصلاحيّ حتى اليوم في اعتبار "الشورى" مثلًا هي الديمقراطية، واعتبار صحيفة المدينة هي "الدستور،" وغير ذلك من الالتباسات.

 

فخُّ الأكثريّة

تبدّلٌ براديغميٌّ آخر حصلَ مع الأزمنة الحديثة. فـ"الأمّة المسلمة" لم تختلف في الأزمنة الحديثة بفعل تدخّل القوى الاستعماريّة الغربيّة لـ"إنقاذ  المسيحيين" في الإمبراطورية العثمانيّة، ثم تدخّلها اللاحق في سورية ولبنان ومصر، فحسب... بل اختلفتْ أيضًا بسبب دخول ثنائيّة "أكثريّة/ أقليّة" على الدولة – الأمّة. فبسبب هذه الثنائيّة، غدتِ الأكثريّةُ معبّرةً عن "الأمّة" (سياسيًّا ودستوريًّا)، والأقليّةُ معبّرةً عن جماعات (دينيّة أو ثقافيّة أو لغويّة) ضمن حيّز الدولة – الأمّة، وإن تمتّعتْ هذه الأقليّةُ باستقلاليّةٍ نسبيّةٍ في مؤسّساتها المِلّيّة أو قوانينها الشخصية أو التحدث بلغتها الأمّ.

بهذا المعنى، أصبحت الأمّةُ هي الكيانَ الأكبر، ثقافيًّا ولغويًّا ودينيًّا، والأقليّةُ هي الكيانَ الأصغرَ والمختلفَ رمزيًّا على الصعد الأخرى. لذا، فإنّ الدولة القوميّة في تعاطيها مع الأقليّات تقترح حلّيْن:

- أن تندمج الأقليّات في "الأمّة" (الأكثريّة)؛

- أو أن تُعامَل بما هي كذلك - أيْ في وصفها أقلّيّات.

فمنذ مؤتمر فرساي ١٩١٩، يقوم النظامُ السياسيّ الجديد على أساس علاقة جديدة بين المحكومين والحاكمين، خلافًا للنظام الذي كان سائدًا في الإمبراطوريات المنحلّة (والعثمانيّةُ منها)، حيث كانت الإمبراطوريّاتُ تتعامل مع الأقلّيّات بحكم انتمائها المذهبيّ أو العرقيّ أو اللغويّ. ومن ثمّ اختُرعتْ ثنائيّةُ "أكثريّة/أقليّة" التي ستستخدمها الدولةُ أداةً دستوريةً لحلّ الاختلافات، بناءً على إيديولوجيا قومويّة. ومنذ تلك اللحظة، أصبح القانون الدولي يستخدم مصطلح "الأقليّة" للدلالة على من تُمْكنهم المطالبةُ بالانضمام إلى دولة قوميّة، خلافًا لمن لا يستطيعون ذلك (كالمهاجرين).

إذًا، لا يقوم المعجمُ السياسيُّ للدولة الحديثة على ثنائية "أكثريّة/ أقلّيّة" من أجل ممارسة تمييز ضدّ الأقليّة، وإنما لأنّ ذلك مكوِّنٌ تأسيسيٌّ لا حيْدةَ عنه لها، وتستخدمه دستوريًّا وقانونيًّا في الفصل بين الاختلافات الدينيّة، وفي كتابة الموادّ المتعلّقة بالنظام العامّ في دستورها القوميّ. فقد قامت الدولة الحديثة، كما تشير صبا محمود، بنقلة تغييريّة هائلة: من الطائفة (الدينيّة، اللغويّة، الثقافيّة) إلى الأقلّيّة (التي تعيش ضمن نطاق دولة - أمّة).

 

قامت الدولة الحديثة بنقلة تغييريّة هائلة: من الطائفة إلى الأقلّيّة

 

إذا كان المنطقُ السياسيّ الحديث للأمّة يقوم على هذه الثنائيّة، فإنّ مَن يرفعون شعارَ "أمّة إسلاميّة" بلا تحديدٍ هم - بوعيٍ أو من دون وعي - واقعون في أزمةٍ تتعلّق بالتحديد السياسيّ لمفهوم "الأمّة." ذلك أنّ هذا المفهوم يجرّهم إلى التطابق مع فكرة الأكثريّة في معالجة المسائل الدينيّة الخاصّة بالأكثريّة والأقليّة.

فهل مَن يدافعون عن "الأمّة الإسلامية" يدافعون عن الأكثريّة، أمْ عن كيانٍ تاريخيّ - روحيّ؟ وإذا كانت المعركة سياسيّة في الأساس، أفلا يتطلّب ذلك تحديدًا؟ وهل بإمكاننا التحديد في ضوء هذا الوضع التاريخيّ الذي يمرّ به العرب والمسلمون حيال استعمار الخارج واستبداد الداخل؟

خلاصةُ القول إنّ هناك ثلاثةَ أفخاخ في الخطاب الإسلامويّ حول الأمّة:

- فخّ قوميّ، ناجم عن أدلجة سياسيّة لمفهوم "الأمّة الإسلاميّة."

- فخّ أكثرويّ، ناجم عن المعجم السياسيّ الحديث الذي يفهم "الأمّة" في وصفها "أكثريّةً وأقليّة." ومن ثمّ فهو خطاب دولتيّ، ويمكن أن يكون ضدّ الأقليّات.

- فخّ اصطلاحيّ، عبر مصطلح "الأمّة الإسلاميّة." فهذا اصطلاح فضفاض، ويمكن أن يُستخدم في إطاراتٍ طائفيّة ومذهبيّة.

عمّان


[1]  ناصيف نصّار، تصوّرات الأمّة المعاصرة؛ دراسة تحليليّة لمفاهيم الأمّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 58.

كريم محمد

باحث مصريّ، مقيم في الأردن