كتاب الأحلام
31-01-2021

 

لم يكن سيرُ الأحداث منطقيًّا أبدًا. كيف يُمكِنني حملُ جدّتي لأمّي على ظهري، وقد ابتلّت ملابسُها من أثر سلسِ البول الذي تعانيه منذ أن أُجريتْ لها تلك العمليّةُ الجراحيّة؟ 

كانت تتوجّع كثيرًا، وهي تُنصِت باهتمامٍ إلى نصائح الطبيب يخبرها بضرورة استئصال الرحم. تمدُّ إليه بصرَها، وقد ترقرقت الدموعُ في مقلتيْها. وبمهارةٍ نادرةٍ حجزتْ دموعَها، ولم تسمحْ لها بالطفر. كانت قويّةً مثلَ جبل الطور، وهشّةً مثلَ حلوى عشّ العصفور التي علّمتْني صنعَها. كنتُ أرقبُها وهي تومئ إلى الطبيب بوجوب تسجيلها بسرعةٍ في المستشفى، وترجو منه ألّا يتركَ جسدَها الضعيفَ فريسةً للوجع بعد الجراحة؛ فهي تفضِّل الموتَ على أن تتردّدَ صرخاتُها في جنبات المستشفى. ولقد جرّبت الوجعَ الذي يفسخ جسدَها وعضلاتِها إلى شظايا، بعد وضعها سبعَ إناثٍ وثلاثةَ ذكور، ومات عنها ولدٌ وفتاتان. حبستْ في قلبها الحزنَ، ولم تفرجْ عنه إلّا حين دبّ المرضُ في أوصالها ودنا الأجل.

ما زالت الأحداثُ التي أُعاينُها غيرَ منطقيّة أبدًا. فأمّي تأمرُني، في قسوةٍ وإلحاحٍ، بضرورة حمل جدّتي بعيدًا عن فراشها، بعد أن تبوَّلتْ عليه ليلًا. في الطريق إلى الغرفة المجاورة، التي استطالت فصارت مثلَ سردابٍ طويلٍ لا نهايةَ له، قابلتُ زوجي وهو يعدو نحو الثمانين، في حين أنّني ما زلتُ في الثلاثين. كان وجهُه متجهِّمًا لأنّني أحمل جدّتي وأوزارًا لا تخصُّني، وأمرني بالعودة من حيث جئت. تلاسنّا كالعادة، وطالني سبابُه المقذع، ووصْفُه لي بامرأةٍ خاليةٍ من الحكمة، وأنّ رأسي لا يحوي دماغًا مثل الآخرين.

في لحظاتٍ، شققتُ دماغي، وأخرجتُ عقلي. كانت التلافيف مُعقَّدة. وضعتُ إصبعي على مركز الذاكرة، ومحوتُ ذكرياتي السيّئة. أعجبتني اللعبة، وتركتُ لإصبعي حريَّةَ التجوّل في تلك التلافيف، حتّى محوتُ ذاكرتي كلَّها.

بدوتُ مثلَ طفلةٍ ابنةِ عاميْن، لا يحمل قلبي أيَّ ضغينة. أهفو إلى اللعب، وركْلِ الأشياء، والضحكِ من دون سبب. لكنّ زوجي أوقفني، وأعاد إليّ دماغي. فألفيتُ نفسي ما أزال أحمل جدّتي على ظهري، وهي تبكي لأنّها تركتْ فراشَها الدافئ. تساورها الظنونُ السيّئة أنّها ستلقى حتفَها من عل، أو ستكون أيّامُها الأخيرةُ في غرفةٍ ضيّقةٍ مكتظّةٍ بنسوةٍ يُشْبهنها، وستموت على سريرٍ معدنيٍّ باردٍ، من دون غطاءٍ يحجب عورتَها وهوانَها.

***

استيقظتُ من نومي على صداعٍ شديدٍ، لم تُخفِّفْ حدّتَه تلك الأقراصُ المهدِّئة. جلستُ لوقتٍ طويلٍ على سريري أحاول تذكُّرَ حلم الليلة الفائتة. كان بغيضًا وثقيلًا. ومع هذا فقد أمعنتُ في تذكُّر تفاصيله. بجواري، يرقد كتابُ ابن سيرين عن تفسير الأحلام. اجتهدتُ في العثور على إشاراتٍ تفسِّر الحلمَ الذي انقبض له قلبي. رحتُ أحدِّث نفسي: "كيف واتت أمّي الجرأةُ والقسوةُ كي تجعلَني أتخلّصَ من أمّها؟ وما سرُّ ظهور زوجي، وبلوغِه الثمانين، وعدمِ تقاطع زمننا معًا؟"

منذ أن ماتت جدّتي، وهي تزورُني في أحلامي. تظهر بطريقةٍ مبهمةٍ، بلا أحداثٍ، كأنّها تهويماتٌ وأشباحٌ تُمثِّل صورتَها. ولا يتبقّى في الذاكرة بعد الاستيقاظ سوى إحساسي بأنّها جاءت لزيارتي. وفي كلّ مرّةٍ تدسُّ في يدي كتابًا صغيرًا، منقوشًا بالألوان الزاهية، وفي منتصفه يقبع اسمي مخطَّطًا باللون الأسود.

زارتني جدّتي ذات ليلٍ، فأعطتني خبزًا طازجًا، وأوصتني بتناوُله كلّه. ثم تلفّتتْ حولها، وأعطتني سمكةً كبيرةً. بكيتُ لأنّني نمت جائعةً ليلتَها، ولم أجد شيئًا أتناولُه. كان عليها الرحيلُ قبل أن تغلق السماءُ بابَها (هكذا قالت لي). تحدَّثنا طويلًا حتّى غفوتُ. لا أدري هل قبّلتني كعادتها وأنا صغيرة، أمْ خلّفتْ رائحتَها التي تشبه الياسمينَ في يدي، وأنا أتشبّثُ بها كي تحكي لي كيف أصبحت خفيفةً، مثلَ طائرٍ أخضر، كأنّه طائرٌ من الجنّة.

منذ ما يربو على شهرٍ، وجدّتي لم تعد تزورُني في أحلامي، بعد أن لجأتُ إلى تلك العقاقير المنوِّمة. كنتُ كالمسحورة وأنا أتوسَّل إلى الصيدليّ أن يعطيَني منوِّمًا عتيقًا يقضي على الأرق الذي سكن دماغي. كلّما تناولتُ قرصًا، هجم عليّ النوم. لكأنّني أشْبهُ بمَن يمدِّد جسدَه على طاولةٍ باردة، مغمضَ العينين قسرًا، لكنّ حواسَّه مثلُ ثعلبٍ متيقّظٍ ماكر. أسمعُ دبيبَ الأقدام، وهمساتِ الجيران خلف الحيطان، ونعيقَ الغربان في آخر الليل، وصرخاتِ الأطفال في جوف الظلمة. ومع هذا لا أقوى على الحركة، كأنّ جاثومًا قبض على روحي.

لذلك قرّرتُ التوقُّفَ عن تناول المنوِّم، ولجأتُ إلى السهر القسريّ طوال الليل، ومراقبةِ أطوار الناس من خلف النافذة، وهي تروح وتجيء خلال الليل وأوّل النهار. حتّى وجدتُ جدّتي أمامي، تهمس لي في حنانٍ، وتربِّت على رأسي، وتعطيني بعضَ خبزها الذي صنعتْه بجوار سُور الجنّة. طلبتْ منّي أن أنثرَ الورودَ على قبرها، وأن أزرعَ شتلاتِ البنفسج فوقه وحوله. رجوتُها أن تبقى قليلًا، وعاتبتُها لأنّها لم تعد تزورني كعادتها، فابتسمتْ وهي تحتضنني برفقٍ وتمسِّد شعري الأشيب قائلةً:

- لقد هيّأتُ مكانَكِ، وتركتُهم يُزيلون الحصى وبقايا عظامي لترقدي بسلامٍ إلى جواري.

داهمتْني رغبةٌ قويّةٌ في البكاء. لكنّ عينيَّ كانتا حمراويْن مثلَ جمرٍ مشتعل. لم أقوَ على البكاء، وظللتُ أنظر إليها، وهي تهديني فستانَ عرسها الأبيض، الذي طرّزتْ حوافَّه بزهر البنفسج الذي كانت تعشقه.

القاهرة

اميمة عزّ الدين

كاتبة مصرية. حاصلة على ماجستير ادارة الأعمال من جامعة قناة السويس.

من إصداراتها: الحرير المخمليّ (رواية - 2007) – الكاتبة (رواية – 2003) - ليلة الوداع الأخيرة (قصص – 2010) – موت هادئ (شعر -2013)، والعديد من كتب الأطفال.