أنا والفأر
15-09-2017

 

توصّلتُ أخيرًا إلى أنّ سببَ ما أعانيه من أزمات يعودُ إلى عدم المواجهة؛ فأنا أحتاجُ إلى شجاعةٍ حقيقيّةٍ كي أواجهَ خوفي من فأرٍ تسلّلَ إلى مطبخي الصغير، بل بنى بيتًا وجلبَ عائلته إليه أيضًا.

السكونُ يخيّمُ على المكان وأنا أطبخ. لكنْ حين يجنّ  الليلُ، أشعرُ به، وبأفرادِ عائلته، يمرحون في مطبخي، ويعبثون بكتبي في غرفة الجلوس، وبأوراقي  التي أعكفُ عليها ليلَ نهار لإعطائها الناشرَ من أجل الحصول على ما أسدِّد به ديوني المتراكمة.

أخشى أن تمتدَّ سطوتُه إلى حجرة نومي التي أُغلقها على نفسي بإحكام. يتناهى إلى مسمعي صوتٌ مبهم، فأنتفضُ فى مكاني، أتربّصُ به، وفي يدي عصًا غليظة، سأهوي  بها عليه، وعلى رأسه بالذات، لأُخرجَ الأفكارَ الشريرة من دماغه عن بني البشر.

يُهيّأ إليّ أنّني رأيتُه يدخلُ بين الدولاب والسرير. أتذكّرُ زوجي الذي يوبّخني كلّما نهضتُ لإعداد القهوة بعد منتصف الليل، أو لترجمة كتابٍ ما. لا أردُّ عليه، وأكتفي بابتلاع غضبي وكتمِ دموعي.

ــــ ربّما حان الوقتُ لتنالي قسطًا من الراحة، عزيزتي.

ــــ  لست في حاجةٍ إلى الراحة ، بل إلى هواءٍ نقيّ.

يتصاعد الصوتُ الذي يبدو أشبهَ بمنشارٍ يجزُّ الخشبَ بهدوء. أتخيّلُ الفأر وهو يقضم الخشبَ وكأنّه يمهّد للقضاء عليَّ، مثلما فعلَ زوجي بي وهو يجمعُ أوراقي ويُشعل فيها النارَ وينصحني بمراجعة طبيبٍ نفسيٍّ "لتوهّمي أنّني كاتبة ومترجمة مشهورة."

تلاقت أعيننا للحظة. أحسستُ بعظمة التحدّي الذي يكنُّه لي. تجاهلني وانطلقَ يعدو تحت السرير ما إنْ فتحتُ باب غرفتي. لقد احتلَّ حجرةَ نومي، وقبلها احتلّ مطبخي. أشاهدُ صغارَه الجرابيع وهم يحملون ما لذَّ لهم من الجبن الروميّ القديم الذي أضعه على رفٍّ علويٍّ في المطبخ. لم يعد بإمكاني الاستمتاعُ بأيّ طعامٍ، وأشعرُ برائحة الفأر وصغاره في كلِّ مكان.

كلّما شكوتُ لزوجي الأمرَ سخر منّي واعتبر ذلك هلاوسَ سمعيّةً وبصريّة.

ذات ليلة، وجدتُ الفأر يقف بقائمتيه الخلفيتيّن على جسدي، يركلني بقوّة. ثمَّ أمر صغارَه بشدّ وثاقي وإلقائي من النافذة إنْ لم أرحلْ وأتركْ لهم البيت. قال منتشيًا وبصوت هادئ:

"لقد حسمتُ المعركة لصالحي. لن يصدّقكِ زوجُك. لا أحد يصدّق امرأةً مخبولةً تعشق القهوةَ بعد منتصف الليل، وتمارس الحياةَ على الورق. أنتِ مجنونة بشهادةٍ رسميّةٍ موثّقة من مستشفى الأمراض العقليّة."

كنتُ أصرخُ على زوجي الذي يضعُ السمّاعات على أذنيه وينصتُ إلى موسيقاه المفضّلة. ألوّحُ لهُ من وراء الزجاج، لكنّه لا يراني؛ فهو مشغولٌ بتتبّع النسوة الجميلات المثيرات.

الفأرُ يركلني فى بطني، وأولادُه يجذبون شعري، وأحدُهم يحاول فقءَ عيني وقضْمَ أذني اليمنى. الحبالُ تلتفُّ حولَ جسدي في لحظات، والدمُ ينزفُ من جسدي، والبقعُ الحمراء تلوّثُ السرير. لا أقوى على الصراخ، لكنني تمكّنتُ من رفع يدي إشارةً إلى الهزيمة.

جلسَ قبالتي على الكرسيّ: مجرّدَ فأرٍ ضئيلِ الحجم، يغلب عليه اللونُ الرماديّ. ساومني على المطبخ وحجرة النوم والصالة والشرفة، ثمّ تركَ حجرةً صغيرةً لي ولزوجي، الذى بدا لي بالونًا منتفخًا لا قيمة له. كان عليَّ التوقيع على تلك المعاهدة التى كتبها الفأرُ بنفسه، وكانَ التوقيعُ بصمةَ دمٍ حتّى لا يقع ضحيّة غشّي له كما يعتقد.

لا أعرف كيف أخبره أنّه مجرّد فأر، يسكن دماغي فقط، وأنّني فى طريقي إلى التخلّص منه ومن رائحته الكريهة.

مصر

اميمة عزّ الدين

كاتبة مصرية. حاصلة على ماجستير ادارة الأعمال من جامعة قناة السويس.

من إصداراتها: الحرير المخمليّ (رواية - 2007) – الكاتبة (رواية – 2003) - ليلة الوداع الأخيرة (قصص – 2010) – موت هادئ (شعر -2013)، والعديد من كتب الأطفال.