أنينُ نايٍ بعيد
13-11-2016

 

 

بصعوبةٍ أنتزعُ جفنيَّ من ثقلِ ليلةٍ مؤرَّقةٍ بدويّ الطائراتِ الحربيّة، وأزيزِ الرصاص، وفرقعةِ القنابل، التي باغتتْ صمتَ قريتنا. لكنّ الصباح كان هادئًا. يدغدغ مسامعي مواءُ قطّتي، ممتزجًا بشقشقةِ العصافير التي استوطنتْ نخلةً أَستظِلُّ بها. تمطّقتُ الشاي، وأنا أنظر إلى الموجات الصغيرة التي تدفعها ريحٌ محمَّلةٌ بندًى شفيف، ويبتلعها النهرُ المترنّح.

كان أبي واجمًا، يتمعّن بالنخيل. قال:

ــــ ستموتُ آخرُ أمنياتنا التي نجت.

ــــ أتوقّعُ ذلك. لقد أرّقني أزيزُ الطائرات ليلًا.

ــــ لن تبقى أوهامُنا هي نفسُها.

أخذ يحثّ الخطى، مطأطئًا الرأسَ.

كانت أشبهَ بنبوءةٍ من رجلٍ وحيدٍ، عالقٍ بين ضجيج الحرب وصمتِ وحدته. يظلّ وجهُه ساكنًا، خاليًا من أيّ تعبير، أملسَ إلّا من شاربٍ يعلو شفتيْه الغليظتين.

تبعتُ خطواتِ أبي المتعثّرة، انحناءَ قامته، وخفقَ نعليه الذي أسمعه في لاوعيي، وأنا أداعبُ زغبَ قطّتي النعسة.

اقتربتْ نبوءةُ أبي من التحقّق، كلّما اقترب من نخيله. عادت زمجرةُ محرّكاتٍ صدئة. لم أميّز ما هي. لكنّها بعثت الشؤمَ في نفسي. كيف ستُقتلع أمنياتُنا التي نجت؟!

يتجاهل أبي الخطرَ القادم. اتّكأَ عليها، نخلتِنا الباسقةِ التي ورث حبَّها عن عائلته. تكسّرتْ أنفاسُه. اعتصرتْه  أوجاعٌ أضنت فؤادَه الكليل. جرجر جسدَه وأتى بصنبورِ مياه، كما يفعل كلَّ يوم.

بدأ يتلمّس النخلات، الواحدةَ تلو الأخرى. يقدّم قرابينَه إليها قبل أن يَغِبْنَ في رحلتهنّ الأبديّة إلى الاحتراق. يصافح عثوقَها التي لن تلفحَها حرارةُ تمّوز القادم.

رواها واحدةً تلو الأخرى: لا تموتي عطشى!

الجرّافات تتقدّم. تتصحّر البساتين. لكنّ أبي يصرّ على أن يبوحَ لها بوفائه، ككلّ صباح. لم أرَ غيرَ خطوط الابتسامة من قبل؛ فبعد استشهاد أَخَويَّ في الحرب، لم ينكسر، رغم اشتعال رأسه شيبًا وانحناءِ ظهره. بقي متشبّثًا بأرضه، بنخيله، بنهر أبي فلوس. يحفر الأرض. يبذرها. يسقي الأشجارَ والنخيل. وكأنّه لا يعرف ما يدور في الحرب.

ــــ تتقدّم الجرّافاتُ يا أبي.

يسقيها ساهمًا.

إنّه الصباح الأخير لعثوق البرحي. كان أبي يثور صامتًا على الحرب، على قرار تحويل بساتين النخيل إلى ساحة وغًى!

تقدّمت الجرّافاتُ. اقتلعتْ أحلامَنا.

ــــ أبي...

غمغم بدعاء مخنوق.

ــــ الجرّافات تتقدّم يا أبي...

نشق من أنفه وهو يزمُّ شفتيه.

ــــ الجرّافات... تتقدّم...

ربّتُّ على كتفه. أحطتُه بذراعَيّ. رفع رأسَه.

الوجع حفر عميقًا في محيّاه. نظر إلى وجهي وكأنّ الأوانَ قد آنَ كي نيأسَ من الحياة.

ظلّ أبي يطوف على ما بقي من جذوع النخيل، يسقيها كما كان.

العراق

اسلام عادل

كاتبة من العراق.