الإعلام العراقي والهوية الوطنية
04-07-2019

 

الإعلام العراقيّ ذو بنية مميّزة عن بنية الإعلام العربيّ والدوليّ، على الرغم من التشابه الذي نلمسه مع بعض الدول - ومنها لبنان - في جزئيّات معيّنة. وتعود أسبابُ هذا التميّز إلى ما حلّ بالعراق من تشظٍّ شمل الإنسانَ العراقيَّ وبيئتَه، وفرض جوانبَ مصلحيّةً ساهمتْ في إنتاج سلوكيّاتٍ من التشكيك والخوف من الآخر ومن المجهول لدى نسبةٍ كبيرةٍ من المجتمع. وهذا الواقع، الذي جاء نتاجًا للغزو والاحتلال الأميركيّ للعراق منذ مطلع العام 2003، تجاوز مراحلَ عدّة، لكلٍّ منها إفرازاتُها النفسيّة على الإنسان العراقيّ.

لكنْ ما تنبغي دراستُه هو أعدادُ الصحف والمجلّات والقنوات والإذاعات والمواقع الإخباريّة، ومرجعيّةُ هذه الوسائل، وطبيعةُ الخطاب الإعلاميّ والسياسيّ الذي تتناوله، فضلًا عن تشخيص العلاقة بين خطاب هذه الوسائل ومستوى حِرَفيّته.[1]

 

الإيديولوجيّات الإعلاميّة

ثمّة "لون" إعلاميّ عراقيّ جديد مشوّش تشكّل نتيجةً لعواملَ فرضتْها تداعياتُ الغزو والاحتلال الأميركيّيْن للعراق سنة 2003. وسمةُ هذا اللون الإعلاميّ الجديد أنّه تابعٌ سياسيًّا لأميركا أو ايران في شقّه الرسميّ، وتابعٌ لإعلام حزبيّ يحظى بدعم أميركا وإيران أيضًا (وقطر والإمارات وإنْ بشكل محدود)، ويستهلك أحيانًا مصطلحاتٍ فرضها المحتلُّ الأميركيّ، ومنها: الديمقراطيّة، الشفافيّة، المتطرّفون (المقصود مقاومو مشروع الاحتلال)، عهد الانفتاح العراقيّ الجديد (عراق ما بعد الدكتاتوريّة، العراق الديمقراطيّ)، وهلمّجرًّا...[2]

أحدثت الماكنةُ الإعلاميّة الجديدة صراعًا ساهم في إنجاح مشروع المحتلّ والقوى الغربيّة في تشظية المجتمع العراقيّ على أسس طائفيّة ومذهبيّة وجهويّة. وفي سياق هذا السيناريو، نسّقت القوى الغربيّة جهودَها تحت مبرّرات "الانفتاح" على الإعلام المحليّ، وعملتْ على تغذيته بالأطروحات المضلِّلة، والمطلوبُ الفعليّ: إغراقُ البلد بحروب وصراعات طويلة الأمد، كالحرب الطائفيّة التي أشعلها الأميركيّون وأطرافٌ دوليّة أخرى متعاونة معهم. وهذا ما حصل في تفجيرات الإماميْن العسكرييْن في سامرّاء في 22 شباط 2006.[3]

 

ثمة "لون" إعلامي عراقي جديد مشوّش ناتج عن تداعيات الاحتلال الأميركي

 

ربّما تُسجَّل للعراق بين العامين 2009 و2011 حالةٌ إيجابيّة اتجهتْ فيها الأمورُ نحو الهدوء النسبيّ، وذلك عندما تحرّرتْ آخرُ مدينة (راوه بمحافظة الأنبار) من تنظيم داعش الإرهابيّ، وأُعلنتْ نهايةُ الإرهاب في العراق. وبطبيعة الحال، تُمثّل مثلُ هذه الأحداث مادّةً دسمةً للصحافة، لكنّ العلّة الحقيقيّة لواقع الإعلام بالعراق أنّه مقسّمٌ وفقًا للانقسام المذهبيّ والمناطقيّ والطائفيّ؛ ما جعل وسائلَ إعلاميّةً تطالعنا بمقالات وتعليقات تخصّ جمهورًا يتبع هذه الدولة الخارجيّة أو تلك على حساب استقلالية الدولة العراقيّة وهيبتها ووحدةِ مكوّناتها. وعليه، فقد شهدتْ مرحلةُ ما بعد العام 2011 تشظّيًا في الواقع المذهبيّ والطائفيّ والعرقيّ، وتولّدت انتماءاتٌ إعلاميّةٌ جديدة تنحاز إلى دول مؤثِّرة في المشهد العراقيّ.

تؤطَّر التشكيلةُ الإعلاميّة العراقية مذهبيًّا وطائفيًّا بالدرجة الاولى، ثمّ حزبيًّا بالدرجة الثانية، وسلطويًّا بالدرجة الثالثة. وهناك، رابعًا، وسائل مستقلّة، وهي حالة نسبيّة باعتبار أنّه لا توجد وسيلة إعلام واحدة في العراق (ولا في العالم) مستقلّة بشكل تامّ. وهذه الخريطة الإعلاميّة تتوزّع وفق الصيغة الآتية:[4]

- الإعلام الحكوميّ، وكانت عليه ملاحظات كبيرة بأنّه ينحاز إلى رئيس الحكومة وأحزاب السلطة المتنفّذة. لكنْ، بعد دخول داعش إلى البلاد مطلع 2014، ومجيء حكومة حيدر العبادي التي كانت تدعو إلى الالتزام بالوحدة الوطنيّة، صار الخطابُ أكثرَ عقلانيّةً.

- إعلام المكوِّن السنيّ، مثل قنوات الشرقيّة، دجلة، بغداد، ديوان، الفلّوجة، الأنبار، الحدث، الرشيد، سامرّاء، التغيير؛ ومثل صحف البصائر والزمان والمشرق.

- إعلام المكوّن الشيعيّ، مثل قنوات العراق (الرسميّة)، الفرات، كربلاء، آفاق، الاتجاه، الآباء، بلادي، العهد، النجباء؛ ومثل صحف الصباح، الصباح الجديد، البيّنة، البيّنة الجديدة، المؤتمر، العدالة.

- إعلام المكوّن الكرديّ، مثل قنوات كردستان، روداوو، الاتحاد، دهوك؛ وصحف منها: الاتحاد، كردستان. وخلافًا للمكونين السابقين، تعتمد وسائل إعلام الكرد، في الأغلب، اللغة الكرديّة، لاعتبارين. الأوّل: أنْ ليس جميع الكرد يتحدّثون العربيّة، وبخاصةٍ الأجيال الجديدة. الثاني: الخوف على الهويّة الكرديّة من الضياع. ولكنّ الكرد ربّما يشتركون مع المكوّنين السابقين في متابعة وسائلهما الإعلامية للشأن العراقيّ بالرغم من أنّ غالبيّة المواطنين الكرد خرجوا من بغداد والمحافظات واندمجوا في محافظاتهم الثلاث (أربيل، السليمانيّة، دهوك).

- إعلام المكوّن التركمانيّ، ووسائلُهم محدودة مثل: توركمن أيلي؛ وصحف مثل: حوادث، المنبر التركماني، القشلة نيوز. والتركمان، شأن الكرد، لديهم لغة خاصّة بهم، ولديهم مخاوفهم على هويّتهم وقوميّتهم ولغتهم التركمانيّة من الضياع، ويشغل هاجس الخوف حيّزًا واسعًا في وسائل إعلامهم.

- إعلام الأقليّات الأخرى من الكلد الآشوريين والصابئة والأيزيديين: قناة عشتار، موقع عنكاوا دوت كوم، الشبكة المندائية، شفق نيوز،...

 

تؤطَّر التشكيلةُ الإعلاميّة العراقية مذهبيًّا وطائفيًّا، ثمّ حزبيًّا  وسلطويًّا

 

ارتدادات الفعل الإعلاميّ 

في أجواء انطلاق أزمة الحراك الشعبيّ بين نهاية 2012 ومطلع 2014 في المحافظات الغربيّة "السنيّة" في العراق، وهي الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى وكركوك وأطراف من ضواحي بغداد، شهد العراقُ صراعًا إعلاميًّا ابتعد كثيرًا عن الخطّ الوطنيّ.[5] فقد اجتهد الجميعُ في البحث عن المعلومة المسمومة لحقن جسم المكوِّنات الأساسيّة الأخرى، وسط تأجيج حكوميّ منفِّر لمزاج القوى الشعبيّة في هذه المحافظات التي تمثّل مكوّنًا "سنيًّا."

فالإعلام الموالي للحكومة وصل حدَّ اتهام المتظاهرين بالارتماء في أحضان خليجيّة؛ وفي المقابل اتّهم الإعلامُ الموالي للحَراك الشعبيّ حكومةَ نوري المالكي بالولاء لإيران. أما الاعلام الغربيّ، ولا سيّما الأميركيّ والبريطانيّ، فكانت مهمّتُه إذكاءَ العنف الطائفيّ بين سكّان المناطق الغربيّة والحكومة، لأجل قضيّة أساسيّة تتعلّق بإدخال جماعات تنظيم داعش إلى المناطق الغربيّة، وإجبار العراقيين على طلب عودة القوّات الأميركيّة إلى بلادهم لحمايتهم من الإرهاب. وهو ما حصل بالفعل.[6]  

إبّان ما جرى للعراق من غزو واحتلال أمريكيّ مطلع سنة 2003، وسار العراقُ عليه حتى العام 2019، مارس الإعلامُ السياسيّ دورًا خطيرًا في استهداف البنية الاجتماعيّة جرّاء الاختلال الحاصل في الصياغات والبرامج، التي لم تضع في الاعتبار قضايا التنمية والبناء.[7]

وعليه، فلا بدّ لوسائل الإعلام من أنْ تتحرّك كي تبني جسورَ التواصل، وتساهم في نشر المعرفة عن التعدديّة الدينيّة، لأنّه السبيل إلى فهم الآخر المختلف والإقرار بوجوده وحقّه في الحياة والمواطنة.

العراق

[1] د. فاضل البدراني، الإعلام صناعة العقول (بيروت: منتدى المعارف، 2011)، ص41.

[2] ناصر السهلي وآخرون، واقع الثقافة والأعلام في العراق بعد التاسع من نيسان/ ابريل 2003.

[3] عديّ حاتم، المسؤوليّة في خطاب الكراهيّة لوسائل الإعلام، المنتدى الاجتماعيّ العراقيّ: http://www.almubadarairaq.org/?p=1990

[4] د. عبد الرزاق الدليمي، الخطاب الإعلاميّ في العراق وتفكيك البنية المجتمعيّة، مؤتمر النخب والكفاءات، اسطنبول، آب 2019.

[5] حسن مظفر الرزو وآخرون، حروب المعلومات الإعلاميّة، ثورة الصورة، المشهد الإعلاميّ وفضاء الواقع (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2008)، ص 131.

[6] حسين سعد وآخرون: الإعلام وتشكيل الرأي العامّ وصناعة القيم (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة)، ص 213، 332- 333.

[7] د. فاضل البدراني، "آليّات الممارسة الإعلاميّة في مواجهة التحدّيات الاجتماعيّة في العراق،" الملتقى الوطنيّ الأوّل لجامعة الفلوجة للسلم والتعايش المجتمعيّ، 15 نيسان 2019.

فاضل محمد البدراني

أستاذ الفنون الصحافيّة والتربية الإعلاميّة والرقميّة في كلّيّة الإعلام بالجامعة العراقيّة، وعميد سابق للإعلام. لديه 11 مؤلّفًا، وأكثر من 30 بحثًا منشورًا. رئيس تحرير جريدة الخبر.