القائدُ رغمًا عنه
29-03-2019

 

كان ماهر اليماني، أثناء كلامِه، يضمّ حرفَ العين إذا ما وردتْ كلمةُ "علاقة." في هذا الضمّ، ابتنى له حياةً مديدةً على الرغم من رحيله المبكر؛ حياةً ضَمَّ فيها إلى قلبِه غاليتَه فلسطين، وقضايا التحرّر في أرجاء الأرض، ومئاتِ (بل آلافَ) الأصدقاء الذين سقاهم بحبٍّ وعطاءٍ نادريْن؛ حياةً تَصْعب على أمثالي الإحاطةُ بها لأنّ صانعَها رجلٌ دأبُه الرعايةُ والمعرفةُ والغرْفُ من الذات في سبيل تحسين حياة الآخرين.

أدركتُ ماهرًا قبل عشرين من الأعوام تقريبًا، ونشأتْ بيننا رفقةٌ وصداقةٌ متينتان لم تهتزّا يومًا. عندما أستذكرُهما اليومَ، أصبحُ أكثرَ يقينًا أنّ ذلك البريقَ الذي ما انفكّ يلمع في عينيْه كلّما تحدثْنا عن هموم الناس - كلِّ الناس - هو الذي جعل جذرَ تلك "العُلاقة" ضاربًا في الأرض والعيش، وأزدادُ تأكّدًا أنّ ذلك الزاهدَ والمتقشّفَ والبسيطَ والمترفّعَ والشجاعَ عاش صافيًا وصادقًا مع نفسه ثمّ الآخرين.

في كلِّ حوار، كان ماهر يستمعُ إلينا كتلميذٍ توّاقٍ إلى العلم، ناسيًا - لا بل متجاهلًا - أنّه القارئُ النّهمُ والعارفُ الجامع. وكان يراقبُ أفعالَنا أيضًا بعين المُحِبّ، بتأنٍّ ولهفة؛ لكنّه إذا ما رأى عندنا مجانبةً لصوابٍ، نبّهَنا من دون وعظٍ، ودلّنا وقد أشاح بنظره عنّا.

ماهر بوصلةُ عيشٍ نادرة؛ بوصلةٌ يضيقُ هامشُ الخطأ فيها كلّما عصفتْ من حوله رياحُ الخيانة والانتهازيّة. ذلك أنّها لم تُشِرْ يومًا إلّا صوب القيم الإنسانيّة النبيلة، التي عاشها ماهر قلبًا وقالبًا، فاستحقّ بجدارةٍ أن يكون - باندفاعِه وغيريّتِه وحرصِه على رفاقه وأصدقائه - رائدًا فذًّا وقائدًا رغمًا عنه، هو الذي حافظ في كلّ خطوةٍ مشاها أمامهم على أن تكون هامتُه دون أكتافِ الآخرين.

عاش ماهر خافتًا وكريمًا كزهرةٍ برّيّة، في زمنٍ توهّم فيه الكثيرون أنّ قرونَهم أدركتْ شمسًا، فعمِيَتْ أبصارُهم وبصائرُهم. وكما يروي النهرُ ضفافَه من دون أن يلتفتَ إلى الوراء، كذلك كان يفعلُ ذلك الفلسطينيُّ معنا.

في مشيِهِ، كان يحنو على التراب خشيةَ أن يطأ نملةً تسعى إلى عيشِها، أو يخدشَ حياءَ الأعشاب وهي تعانقُ نداها. كذلك كانت حالُه في الصداقات التي زرعها في كلّ مكان على هذه الكرة الأرضيّة. وما اعترضتْ أحدَنا مشكلةٌ، في أيٍّ من أرجاء المعمورة، إلّا وكان ماهر حاضًرا، نصحًا وتوجيهًا واستعانةً بأحد رفاقه هناك.

في الجرد،[1] كنّا أنا وماهر ننام تحت سماءٍ هادئةٍ ومكتظّةٍ بالنجوم. أكثرَ من مرّةٍ حدّثتُه عن ضرورة كتابة سيرته كاملةً، لكنّ جوابه الدائم كانَ: "لستُ إلّا واحدًا من آلاف البسطاء الذين نذروا عيشَهم كاملًا لاسترجاع التراب الفلسطينيّ من المحتلّ الصهيونيّ؛ سيرتي هي سيرةُ أيّ واحدٍ منهم." وفي ذلك الصفاء حدّثني مرّةً عن حلمه بالنوم تحت سماء فلسطين.

***

يا حبيبَ القلب،

أيّها الرفيق والصديق والأخ،

كنتُ أتمنّى أن يضمّ ترابُ الهرمل،[2] التي أحببتَ، ذهابَكَ الأخير. لكنّ مقبرةَ الشهداء في مخيّم شاتيلا أحقُّ منّا باحتضانك: هناك حيث المعذّبون الذين عشتَ معهم ولهم، وحيث العَرَقُ والدمُ الكثيران اللذان يغوران عميقًا كلَّ مساء على مرأًى من هذا العالم الفاجر والظالم. أقول ذلك أملًا في أنْ يتحقّقَ حلمُكَ في أن ترقدَ إلى الأبد في تراب فلسطين، بعد أن تنالَ حريّتَها من ظُلّامِها الكثر.

***

بالأمس، مشيتُ - كعادتي - وراءك. لكنّها - يا حيف - كانت المرّةَ الأخيرة. وانتبهتُ أنّك كنتَ - كعادتك - سبّاقًا، لكنْ إلى الموت هذه المرّة. راقبتُ جسدَكَ النحيلَ يتمايل فوق الأيدي التي تسابقتْ إليكَ، أنتَ الذي حملتَنا دائمًا من دون سؤال. وشاهدتُ أنهارَ الدموع التي سالت على خدودِ المحبّين. لكنّ عزائي الكبير هو هذا الحبُّ الكثيرُ الذي بذرتَه وسقيتَه بين جميع عارفيك، وهذا الفخرُ الذي سأحملُه أبدًا: أنا رفيق ماهر اليمانيّ!

الهرمل

[1] الجرد هو الجبل العالي الذي يحضن مدينةَ الهرمل عند السفوح الشرقيّة لجبل المكمل.

[2] الهرمل هي المدينة التي عاش فيها ماهر في السنوات العشرين الأخيرة من حياته، حيث ابتنى ورفيقته زينب بيتًا كان يعود إليه بعد انتهاء مهمّاته في لبنان وسوريا.

بومدين الساحلي

كاتب وإعلاميّ لبنانيّ.