التطبيع: تجربة مدارس المصطفى
28-06-2020

 

الطبع والطبيعة والطبيعيّ[1]تكون عادةً في السجايا والتكوين. والتطبّع هو تقمُّصُ أمرٍ ليس موجودًا فيه. أمّا التطبيع،[2]وبعضُ مرادفاته "التوحيل،" فقد يأتي بمعنى "الترويض،" وفيه ينصاع المُرَوِّضُ إلى إملاءات مُروِّضيه، ويجري تطويعُه بشكلٍ انسيابيّ وتلقائيّ. وممّا جاء في معناه: قبولُ الآخر أو التغاضي عمّا يحمله من قِيَمٍ إقصائيّةٍ (احتلال، عنصريّة، عدوان، تزویر، قتل...)، والتعاملُ معه مصلحيًّا، من دون اعتبارٍ للحقّ والعدل والقيم.[3]

أمَّا مفردة "التطبيع،" المُدرجةُ في الأدبيّات الصهيونيّة،[4] فكانت تستهدف اليهودَ أنفسَهم، الذين كانوا في نظرها شخصيّاتٍ طفيليّةً تقوم بأعمالٍ هامشيّةٍ أو مشينة، وتنبغي من ثمّ إعادةُ صياغتها كبقيّة الناس. ولكنَّ المفردة لم تلبثْ أن تحوَّلتْ، في استهدافاتها، إلى الأغيار (غير اليهود)، مع ما تتضمَّنه هذه الكلمةُ من إيحاءات. أما اليوم، فالتطبيع مع الصهاينة عمليّةُ ترويض أو تطويع لمنظومة قيمنا، وسلبٍ لهويّتنا، يقفز فيها العدوُّ بالصراع فوق السُّنن الكونيّة والتاريخيّة، من أجل تحقيق مزاعمه وأطماعه في الأرض، مصوِّرًا نفسَه صاحبَ الحقّ فيها، وأنّ علينا أن نزيلَ العوائق من أمامه لتحقيقها.

***

تُشكّل القضيّةُ الفلسطينيّة محورَ الصراع الدائر في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، ليس من موقع الجغرافيا والتاريخ فحسب، بل من موقعِ ما تحملُه من قِيَمٍ كذلك، وباعتبار الكيان الصهيونيّ غزوًا استعماريًّا ممنهَجًا قطَّع أوصالَ أمَّتنا وشكّل قلقًا وجوديًّا على مصيرنا.

وعليه، كانت مدارسُ المصطفى، انطلاقًا من المنظومة التربويّة الحاكمة، ترسم ملامحَ المتعلِّم، وتعمل على تشكيل شخصيّته، القائمةِ على العزّة والكرامة والحريّة والدِّفاعِ عن الوطن وقضاياه، وتحصينِه بالمساهمة في بناء المجتمع المقاوم. ولذلك جرت مواكبةُ المناهج النظاميّة (العاديّة)، ثمّ جرى تدعيمُها ببرامجَ قيميّةٍ ومهاراتٍ حياتيّةٍ وأُسَريّةٍ وأنشطةٍ (مثل المشاركة في مؤتمراتٍ وندواتٍ تخصّ مقاطعةَ الكيان)، واستحضار مفرداتٍ (کـ"المنهج الخفيّ" و"المنهج الموازي" و"الحرب الناعمة")، وإبراز الدور الحضاريّ للفعل المُقاوم بتسليط الضوء على القضية الفلسطينيّة مباشرةً وعلى الممارسات التهويديّة (لاسيّما أنَّ القدس حاضنٌ للرسالات السماويّة والقِيَم الإنسانيّة والحضاريّة).

ولأنَّ التربية هي الركيزةُ الأساس في بناء شخصيّة المتعلِّم الإنسانيّة، فمن المُفترض أن تؤسَّس على مناهجَ قادرةٍ على تزويده بالمعارف والمهارات اللازمة ليتَّخذ في ضوئها الموقفَ السليم حفاظًا على قيمه وتحصينًا لكيانه. ومعها ينبغي تجاوزُ "مقاومة التطبيع" إلى فضح الطبيعة العنصريّة الصهيونيّة التي تسعى إلى تطويع منظومتنا القيميّة واستلابِ هويّتنا العربيّة والإسلاميّة كي تحظى بمشروعيّة وجودها.

***

يمكن النظرُ إلى مقاومة التطبيع من زاويتين:

- الأولى: وتتناول "التطبيع-الترويض" بشكلٍ مباشر، كما في العناوين التي تَطْرح القضيّةَ الفلسطينيّة وما اقترفه العدوُّ الصهيونيّ من مجازر بحقّ لبنان والدول العربيّة، وجعل ذلك ثابتةً وطنيّةً. غير أنّ ذلك يشكِّل مساحةً صغيرةً من حجم القضيّة الفلسطينيّة، في ظلّ تغييبٍ واضحٍ لحقبات مقاومة الاحتلال الصهيونيّ. ومن المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ المطروح عن القضيّة الفلسطينيّة في مناهجنا هو تاريخُ الهزائم والنكسات، مع القفز فوق الثورات وأعمال المقاومة وإقصائها من الامتحانات الرسميّة.

- الثانية: نلاحظ في المناهج[5]والتعليم وجودَ مفاهيمَ "إنسانيّة،" مثل التربية على "السلام" و"قبول الآخر،"[6]ووجودَ نصوصٍ أو رسومٍ أو قصص أو أفلامٍ تحمل في طيّاتها قبولًا بالكيان الصهيونيّ. وثمّة أحيانًا خرائطُ تحمل اسمَ "إسرائيل."

كما يسجَّل على هامش المنهج التربويّ في بعض المؤسّسات تغييبٌ للظروف التي أدَّت إلى حصول الأزمات في منطقتنا، من قبيل: الاستعمار، الاستيطان، السياسات التوسّعيّة، التشريد، المذابح. وفي الوقت ذاته يجري التَّركيزُ على مفرداتٍ قيميّة أصبحتْ ذات حضورٍ فاعل، كـ: حلّ النزاعات، والتعايش، والحوار، والتسامح، والتنوُّع. وتَرفد ذلك كلَّه شبكةٌ واسعةٌ من المفاهيم والمصطلحات السياسيّة من قبيل: الشرق الأوسط، والشرق الأوسط الجديد، وغيرها.

ولا يَخفى ما لهذه المصطلحات من دلالاتٍ سياسيّةٍ وجغرافيّةٍ واستراتيجيّة. وتأتي المعالجات بجملةٍ من المفاهيم والمصطلحات مثل: "كيّ الوعي"[7]و"غسل القلوب" و"تنقية الذاكرة"... بعيدًا عن طرح العوامل الحقيقيّة، وظروف تشكّلها، والآثار الناجمة عنها، ومن ثمّ معالجتها.

الجدير ذكرُه أنّه قد لا يكون هناك خلافٌ على بعض العناوين المُثارة للتوّ، لكنْ بشرطٍ أساس: أن توضعَ تعريفاتٌ تحدِّدُها وتنضوي تحت لوائها؛ كأن نعرِّفَ ما نعني بـ"الآخر،" فلا يلتبسَ بالعدوّ، ولا يكونَ العدوُّ وجهة نظر.

***

كلُّ هذا يحصل في وقتٍ تعيش فيه منطقتُنا العربيّةُ والإسلاميّة مخاضاتٍ عسيرةً وفوضى عارمةً، في ظلّ غياب الدراسات الجادّة في موضوع القضيّة الفلسطينيّة وقضايا الأمّة، ورسم آليّات مقاومة المشروع الصهيونيّ.

ولمزيدٍ من الإمعان في تمزيق هويّتنا، يتمّ التدخُّلُ الصهيونيّ في وسائل إعلام الدول الأخرى، وخُطَبِ الجمعة، والمناهجِ الدراسيّة، والإنتاجِ الفنّيّ والأدبيّ. وقد حدث قبل أعوام أن طُولب العربُ "المسالمون" بأن يحذفوا من مناهجهم التعليميّة ما يزعم الصهاينةُ أنَّه تحريِضٌ عليهم. وتبذل الصهيونيّةُ جهودًا جبّارةً لنزع كوامن القوّة لدى المقاوم في مجتمعاتنا وأوطاننا، باعتبار أنَّ المقاومة والتطبيع يقفان على طرفيْ نقيض.

***

من منظور الدور المنوط بالمناهج التربويّة في تشكيل العقل، فلنعملْ على صياغة عقلٍ مناهضٍ للكيان الصهيونيّ ولِما يسمّى "التطبيع" ولكلّ أنواع الهيمنة.[8]

ولنعملْ على تعزيز منظومتنا القيميّة، فنترسّم لشخصيّة متعلّمينا الأنموذجَ والقدوة، ونغرس فيها قِيَم الأصالة، لتتمكّنَ من اتِّخاذ القرار الصائب - - مع وجوب أن نلحظ الميولَ والاتِّجاهاتِ المختلفة، على قاعدة الانفتاح والتنوُّع، التي تجعل من شخصيّة متعلمينا مساهمًا فاعلًا في الدِّفاع عن قضايا المجتمع والوطن والأمّة.

في المحصلة يمكننا التقدُّمُ باقتراحات، منها:

- اعتمادُ سياسة تربويّة واضحة، يُدرَجُ فيها الخطرُ الصهيونيُّ في المناهج التربويّة بوصفه ثابتةً دائمة، عبر التأكيد على هويّة فلسطين الحضاريّة والتاريخيّة والجغرافيّة.

- إظهارُ الممارسات الصهيونيّة وما ارتكبتْه من مجازر وعمليّات قتل وتدمير.

- إقامةُ منتديات حواريّة للمتعلِّمين تطرح عناوينَ ذاتَ صلة.

- تعزيزُ المؤسّسات البحثيّة الخاصّة بالقضيّة الفلسطينيّة ومتعلِّقاتها من قضايا الأمّة.

- القيامُ بأنشطةٍ تُظهر أهمِّيّةَ المقاومة في مواجهة الاحتلال بأنواعها المختلفة.

- التمييزُ بين اليهوديّة والأسرلة والصهيونيّة.

- توظيفُ الدروس المقرَّرة في المناهج، مثل المياه والنفط، في إظهار المطامع الصهيونيّة.

- العملُ على نحت مصطلحات ومفاهيم تنطلق من صلب منظومتنا القيميّة.

- رصدُ مكوّنات المنهج الخفيّ وأخواته، وتوظيف ذلك في الاتِّجاه السّليم.

- تكثيفُ حملات المقاطعة الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة وتفعيلها.

 

[1] ولكنّ كلمة "الطبيعي" قد تعني المألوف والعاديّ. ومن ثمَّ فإنّ التطبيع قد يعني إزالةَ ما يَعدُّه المطبِّعُ شاذًّا؛ راجع: عبد الوهّاب المسيري، موسوعة اليهود واليهوديّة والصهيونيّة، م 7، ص 2.

[2] التطبيع في العربيّة على وزن تفعيل، من الفعل طبع، طبع طبعة، والطبعة هي بقعة الوحل الناتج من المياه الراكدة المختلطة بالأدران والأوساخ؛ هشام البستاني، "مقاومة التطبيع: ورقة مفاهيميّة،" الأخبار، الجمعة 19 نيسان 2013.

[3] بكر أبو بكر، التطبيع بين فكر الإلغاء وضرورة الاتِّصال (المركز الديمقراطيّ العربيّ، نوفمبر 2018).

[4] المسيري، المرجع السابق. ولكنّ هذا المصطلح اختفى قريبًا من المعجم الصهيونيّ مع إنشاء الكيان الصهيونيّ بسبب حاجته الماسّة إلى دعم يهود العالم له. غير أنّه عاود الظهور في أواخر السبعينيّات بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. المسيري، المرجع نفسه.

[5] في ما يتعلَّق بالمناهج، فـ"إنّ مشروع تطوير المناهج يحرص على بناء المتعلِّم المواطن المعتزّ والمنتمي إلى وطنه لبنان، السيِّد الحرّ المستقلّ، والمتعلِّق بأرضه، والمتشبِّث باعتبار مقاومة كلّ معتدٍّ عليها، وكلّ محتلّ لأيِّ شبرٍ منها، حقًّا مشروعًا وواجبًا مقدَّسًا. ولكنّ المركز، بحسب عويْجان، يدعو أيضًا إلى سماتٍ أخرى، كالتزام شرعة حقوق الإنسان، التي كان لبنانُ من واضعيها، وترسيخِ قِيَم العدل والسلام والانفتاح واحترام الآخر المختلف، معتبرةً أنَّ ذلك يجب أن لا يتعارض مع إعلاء قيمة الفداء والبطولة، بعيدًا من الاستسلام والخنوع."

[6] يشيد مستشارُ المركز، الخبير التربويّ أنطوان طعمة، بـ "العين الساهرة" التي سمحتْ بحذف "القضية الفلسطينيّة." ومَن يدري ربَّما تحصل لاحقًا استجابةٌ للضغوط البريطانيّة، ونجد اسمَ "إسرائيل" على الخريطة بدلًا من "فلسطين المحتلّة." يأتي هذا الكلام في حديثه عن المنحة الماليّة التي تقدَّمتْ بها بريطانيا لتطوير منهج الجغرافيا، واشترطتْ تبديلَ كلمة فلسطين بكلمة "إسرائيل." وعندما جرى الاعتراض على ذلك، ألغت بريطانيا منحتها.https://al-akhbar.com/Home_Page/231199

[7] الشعار الذي رفعه رئيسُ أركان جيش الاحتلال سابقًا الجنرال موفاز "كيّ الوعي الفلسطينيّ" معلنًا الحربَ الثقافيّةَ، لأنَّها تختزن الذاكرة الحيّة والانتماء القوميّ والتاريخ العربيّ؛ محفوظ جابر، "دعوة لتفعيل مقاومة التطبيع الثقافيّ،" الجزيرة نت، 10/5/2011.

[8] "تصفية الاستعمار من العقول تتطلَّب أشياءَ كثيرةً يتضمَّنها مفهومُ الثقافة ومفهومُ الحضارة؛ فهي لا تتحقَّق إذن بمجرَّد انسحاب جيوش الاستعمار، ومجرَّدِ إعلان الاستقلال..." مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه (دمشق: دار الفكر، ط1)، ص 33.

حسين عبيد

 باحث ومشرف تربويّ، مدارس المصطفى، لبنان.