الصراع بين أوروبا واتحادِها
04-05-2016

تعيش أوروبا حاليًّا تناقضاتٍ عميقة تتخطّى كونها مجرّدَ تداعياتٍ لأزمة 2008 الاقتصاديّة، وتعكس أزمةً أكثرَ خطورة، وتشبه وحشَ هيدرا المتعدّد الرؤوس في الميثولوجيا اليونانيّة: إنّها أزمة مؤسّساتية، وهويّاتيّة، وديموغرافيّة، وجيوسياسيّة، إلى جانب كونها أزمةً اقتصاديّة.

الأزمة المؤسّساتيّة تعبّر عنها إشكاليّةُ السيادة السياسيّة في القارّة التي يتنازعها طرفان: 1) الدولُ القوميّةُ القائمة التي تُعتبر موروثًا من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، و2) مشروعُ الكيان الوحدويّ الأوروبيّ الذي يعبّر عنه الاتّحادُ الأوروبيّ. فعلى الرغم من تخطّي الاتّحاد الأوروبيّ حدودَ المشروع الاقتصاديّ للسوق الأوروبيّة المشتركة، وتحوّلِه إلى كيانٍ سياسيّ ذي صلاحيّات حصريّة انتزعها من الدول الأعضاء، فإنّ آليّة اتّخاذ القرار التي تَفرض توافقَ الدول في المواضيع الحسّاسة تجعل من هذا الاتّحاد نسخةً محسّنة من جامعة الدول العربيّة عندما يتعلّق الأمر بتلك المواضيع. ومع توسيع دائرة الاتّحاد وانضمام العديد من دول شرق أوروبا إليه، أصبح الإجماعُ الأوروبيّ، الذي كان سهلَ المنال سابقًا، شبهَ مستحيل.

هذا الأمر كان جليًّا في أوج الأزمة المتعلّقة بتوافد اللاجئين السوريين إلى أوروبا أواخرَ العام الماضي. فأوروبا أخفقتْ في بلورة سياسة مشتركة حيال هذه القضية، ما دفع بدولها إلى الدخول في عمليّة "شدّ حبال" فيما بينها. إزاء هذا الواقع تعالت أصواتٌ تطالب بتكريس الانقسام الأوروبيّ مؤسّساتيًّا تحت شعار "أوروبا متعدّدة السرعات." والقصد من هذه العبارة إظهارُ التفاوت في سرعة عمليّة الادماج الأوروبيّ ــــ بين دول المحور الغربيّة من جهة، ودولِ الأطراف الشرقيّة من جهةٍ أخرى ــــ وتبنّي آليّة لاتّخاذ القرار تأخذ هذا التفاوتَ في الاعتبار. إلّا أنّ هذا الطرح متهافتٌ من أصله: ذلك لأنّ دول المحور نفسَها كانت منقسمةً إزاء ملفّ اللاجئين؛ بل إنّ مواقف دول أوروبا الشرقيّة، مثل المجر وبولندا، كانت متنفّسًا لبعض الدول الغربيّة، مثل هولندا وبلجيكا وفرنسا، من أجل التلطّي خلفها في مواجهة الموقف الألمانيّ المؤيّد لاستيعاب أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين في الاتّحاد.

ومن هنا، فإنّ الأزمة المؤسّساتية في الاتّحاد تعبيرٌ عن صراع إيديولوجيّ، ليس فقط بين مشروع أوروبا فدراليّةٍ يتناقض مع مشروع كونفدراليّةٍ مبنيٍّ على السيادة القوميّة، بل عن صراع آخر أيضًا حول تعريف الهويّة الأوروبيّة من أصلها.

***

والحقّ أنّ الصراع على الهويّة هنا هو، في حدّ ذاته، تعبيرٌ عن التناقض بين نوعين من القوى:

1) قوًى أوروبيّة محافظة وقوميّة تخاف العولمة لأنّها على يقين من عجزها عن منافسة الصين والولايات المتّحدة. وبالتالي فإنّها تجنح نحو انعزاليّةٍ اقتصاديّةٍ لا بدّ من إرفاقها بخطابٍ قوميٍّ متشدّد.

2) قوًى منفتحة على العولمة، نتيجةً لارتباطها بالمركز الاقتصاديّ العالميّ، وثقتها بقدراتها التنافسيّة. وهذه القوى تكمن مصلحتُها في تفكيك الانعزاليّة الأوروبيّة، وتكريسِ خطابٍ متعدّدِ الثقافات يتيح لها الاستفادةَ من قدرات المهاجرين الاقتصاديّة من أجل رفد سوق العمل الأوروبيّة، المهدّدة من جرّاء شيخوخة القوى العاملة في القارّة القديمة.

الصراع القائم في أوروبا، إذًا، هو صراع بين نخبٍ قويّةٍ مرتبطةٍ بالمركز الاقتصاديّ العالميّ، ونُخبٍ ضعيفةٍ ترى في الانعزال عنه فرصتَها الوحيدةَ للبقاء. وتتوزّع الشبكاتُ الاقتصاديّةُ التي تقف وراء هذا الشرخ السياسيّ على قطاعات اقتصاديّة متنوّعة:

ـــ فقطاع الحديد والصلب في أوروبا، مثلًا، يدعم النخبَ المحافظة لأنّه مهدّد بالزوال نتيجةً للمنافسة الصينيّة التي ستحتدم خلال السنوات القليلة القادمة، وذلك مع حصول الصين على صفة "دولة اقتصاد حرّ" من منظّمة التجارة العالميّة، ما سيتيح لها تصديرَ حديدها وصلبها إلى أوروبا من دون أيّ ضوابط. وهذا سيعني فقدانَ ثلاثة ملايين وظيفة في أوروبا، وانهيار القطاع كليًّا.

ـــ وفي الجهة المقابلة نجد قطاعَ الاتّصالات الأوروبيّ مثلًا، وهو يطمح إلى دخول السوق الصينيّة وغيرها من الأسواق المعولمة، مؤيّدًا المزيدَ من الانفتاح الاقتصاديّ.

إذن، علينا أن نعي أنّ الانقسام السياسيّ يعكس أيضًا انقسامًا في المصالح الاقتصاديّة، بالإضافة إلى كونه تعبيرًا عن عوامل ثقافيّة وقوميّة.

***

من المؤكّد أنّ هذا التناقض سيتعمّق، وأنّ النخب المتصارعة في أوروبا ستنتج خطاباتٍ سياسيّة أكثر تشنّجًا. وبالرغم من أنّ النخب المرتبطة بالقطاعات الاقتصاديّة القويّة قد تبدو الأوفر حظًّا للفوز في هذه المعركة وفرض رؤيتها، فإنّ الأمور أكثر تعقيًدا من ذلك لأنّ النخب الضعيفة والمحافظة أكثرُ قدرةً على مخاطبة الشارع الأوروبيّ من خلال طرحٍ محافِظٍ ومعادٍ للأجانب. ومن هنا فإنّ حظوظ النخب المحافظة كبيرةٌ في حسم الصراع، من خلال العمليّة السياسيّة، وتحقيق انتصاراتٍ مبنيّةٍ على خطابها القوميّ، ولا سيّما مع تنامي الخوف من الإسلام نتيجة للهجمات الإرهابيّة الأخيرة، وتحوّلِ قضيّة اللاجئين إلى ملفّ رمزيّ مثير للخوف عند مجتمع أوروبيّ مترهّل يخشى طوفانًا من الشباب المسلم والداكن البشرة. من هنا، فإنّ التناقض المؤسّساتي الأوروبيّ يعكس صراعًا بنيويًّا حول الهويّة الأوروبية؛ تلك الهويّة التي بات البعض في أوروبا يراها مهدَّدةً من خلال الاتّحاد الأوروبيّ ذاته.

فبرأيِ هذه الفئةِ الوازنة من الأوروبيين، أضعفَ الاتحادُ الدولَ القوميّة، ولكنّه فشل في بناء بديلٍ منها. وهنا يكمن التناقضُ، في نظرهم، بين أوروبا كمؤسّسة يعبّر عنها الاتّحادُ الأوروبيّ، وأوروبا كحضارةٍ وثقافة، حيث يَعتبر اليمينُ المحافظُ أنّ المؤسّسة الأوروبيّة تُضعف الحضارةَ الأوروبيّة في مواجهة الحضارات الأخرى. ولمّا كان منطقُ اليمين المحافظ هو منطقَ "صراع الحضارات،" فإنّ ضرب المؤسّسة الأوروبيّة يتحوّل إلى هدفٍ في ذاته من أجل إنقاذ أوروبا الهويّةِ والتاريخ، ومواجهةِ الآخر القادم من وراء البحار، ألاجئًا كان أمْ غازيًا، لا فرق.

بروكسل

دياب أبو جهجه
كاتب وناشط لبنانيّ مقيم في بروكسل حاليًّا. يكتب عمودا ثابتًا في صحيفة دو ستاندرد البلجيكيّة المؤثّرة.
 
له عدة مؤلفات بالفرنسيّة والهولنديّة، والعديد من المقالات المنشورة حول المواضيع الجيوسياسيّة، ونقد العنصريّة، والكولونياليّة، والعولمة، واليسار، وفلسطين، والقومية العربيّة.
 
:

 

: