العودة الى البداية !
18-09-2018

أثار القانونُ الاستعماريّ الإسرائيليّ الجديد، المسمّى "قانون القوميّة،" النقاشَ مجدّدًا عن جدوى المشاركة في البرلمان الصهيونيّ داخل فلسطين الـ48. صحيح أنّ هذا النقاش لم يختفِ يومًا، غير أنّه بات اليومَ غيرَ مسبوق في اتّساعه ومضامينه وتوجّهاته، وستتواصل تفاعلاتُه على الساحات الفلسطينيّة والإسرائيليّة والعالميّة، وسيفتح آفاقًا جديدةً للعمل ضدّ إسرائيل. ومع أنّ القانون يستهدف الشعبَ الفلسطينيَّ كلَّه، فإنّ الأنظار تركّزتْ على ردود فعل العرب الفلسطينيين من حَمَلة الجنسيّة الإسرائيليّة. وزاد النقاشَ إثارةً ردودُ فعل طائفة الموحِّدين الدروز الفلسطينيّين، لكون الخدمة الإجباريّة في الجيش الاسرائيليّ لم تُعفْها من هذا الاستهداف ـــ ـــ وهي الطائفة التي تعرّضتْ لجميع سياسات النهب والتهويد التي تمارَس ضدّ الفلسطينيين جميعًا.

يتراوح النقاشُ الفلسطينيّ، القديم/الجديد، بين المبدئيّ والتكتيكيّ:

ــــ فهناك مَن يعتقد أنّ المشاركة في برلمانِ دولةٍ استعماريّة أمرٌ محرَّمٌ في الأصل لأنّه يَمنح هذه الدولة شرعيّةً سياسيّةً وقانونيّةً من قِبل الشعب الخاضع لاستعمارها. ويشكّل القانونُ الجديد، الذي "دستر" ما هو قائم منذ النكبة،  دليلًا إضافيًّا على صحّة موقف هذا الفريق.

ــــ وهناك مَن ينطلق من زاوية المنفعة الفلسطينيّة لكون المشاركة ــــ في رأيه ــــ أفادت الفلسطينيين، وساهمتْ في ترسيخ وجودهم في وطنهم، وقدّمتْ لهم منبرًا للتواصل مع المجتمع الإسرائيليّ والفلسطينيّ والعالميّ. ولكنْ، بحسب أطرافٍ في هذا الفريق ذاته، فقد حان الوقت، بعد صدور القانون المذكور، لممارسة مقاطعةٍ تكتيكيّةٍ موقّتة للضغط على النظام الإسرائيليّ من أجل التراجع.

لقد أيقظ "قانونُ القوميّة" الفلسطينيين من سلبيّتهم، وولّد صحوةً لدى مَن خدعتْه المقارنةُ بين وضعِ المواطنين العرب داخل "الدولة اليهوديّة" ووضعِ الإنسان في الوطن العربيّ، وفَتح أفقًا لإعادة النظر في طرائق العمل السياسيّ لدى فلسطينيي ٤٨ ــ ــ وهم الجزء الذي تعلِّق الحركةُ الوطنيّة الفلسطينيّة خارج "الخطّ الأخضر" آمالَها عليه من أجل المساهمة في التغيير من الداخل وإفادة المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ. وهذه مسألة تحتاج إلى نقاشٍ حول مدى تطابقها مع الواقع، وما إذا كانت تلك الآمال أضغاثَ أحلام.

نقول ذلك ونحن نشهد  كيف تحوّلتْ، وبسرعة، نظرةُ بعض أطراف تلك الحركة إلى فلسطينيّي ٤٨: من التخوين، فالتهميش، فتوقّعِ "المعجزات" منهم. هذه النظرة الرومانسيّة الأخيرة متأثّرة بالحالة الذهنيّة الناجمة عن تفكّك المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وسبق أن دفعتْ محمود درويش إلى الصراخ: "ارحمونا من هذا الحبّ!"

ومع ذلك نقول إنّ لهذا  الجزء من شعب فلسطين دورًا بارزًا، لا بسبب بقائه وتكاثره في وطنه (وهو ما يشكّل مصدرَ رعبٍ داخل أوساط النظام الصهيونيّ)، بل أيضًا لاجتراحه تجربةً سياسيّةً فريدة ومركّبة تشهد على مقاومة مفاعيل النكبة، وتفضح كذبةَ "الديمقراطية" التي تسوّقها اسرائيل للعالم الغربيّ.

على أنّ تجربة فلسطينيي الداخل (٤٨) لا تخلو من تشوّهاتٍ نابعةٍ، أساسًا، من سياسات السيطرة والاحتواء والترويض، التي تساهم فيها قوًى سياسيّةٌ فلسطينيّةٌ فاعلة. كما أنّ سلطة أوسلو، والطبقة السياسيّة التي تستند إليها، تغفلان هذه التشوّهات. فعلى سبيل المثال، لا تجد السلطةُ حرجًا في التعاون مع قوًى صهيونيّة "يساريّة،" وفي دعوة الأحزاب العربيّة إلى التحالف معها في انتخابات  الكنيست، من دون الاكتراث بما يسبّبه ذلك من شرعنةٍ للعملاء والقوى الإسرائيليّة. وهذه المشاركة الفلسطينيّة في الكنيست، من دون ضوابط ومعايير، تشكّل تحدّيًا دائمًا أمام القوى الوطنيّة التي ترى أنّها مصدرٌ لتشوّهاتٍ كثيرةٍ تجلّت في تحوّل بعض أعضاء الكنيست العرب إلى نجوم بلا مبدأ، أو إلى "مخاتير" بثوبٍ عصريّ.

تنبع صعوبةُ مواجهة هذه التشوّهات من الواقع الذي ولّدتْه السياساتُ الصهيونيّة العنصريّة والتفتيتيّة داخل الخطّ الأخضر على مدى عشرات السنين. وبسبب اعتياد أوساط واسعة من الفلسطينيين التصويتَ في الكنيست للحزب الشيوعيّ ولأحزابٍ صهيونيّةٍ منذ العام ١٩٤٨، وبسبب ازدياد نسبة المصوّتِين للحزب الشيوعيّ بعد يوم الأرض سنة ١٩٧٦، فقد أعادت القوى الفلسطينيّة القوميّة النظرَ في مسألة الامتناع عن المشاركة في انتخابات الكنيست، وقرّرتْ خوضَ الانتخابات بهدف التواصل مع الجمهور، ولكي لا يظلّ الكنيست متروكًا لتأثير الأحزاب الأخرى.

هكذا شكّلتْ هذه القوى حركةً جديدةً، هي "الحركة التقدّميّة،" وخاضت الانتخابات سنة ١٩٨٤، وحصلتْ على تمثيلٍ لفترتين، ولكنّها اختفت من المشهد السياسيّ عام ١٩٩٢. وبعد اتفاقيّة أوسلو، وتحديدًا في العام ١٩٩٦، خاض "التجمّعُ الوطنيّ الديمقراطيّ،" برئاسة د. عزمي بشارة، الانتخابات، ببرنامجٍ يتحدّى يهوديّةَ الدولة، وتَحوّل خلال فترة قصيرة إلى واحدٍ من أكثر الأحزاب تصادمًا مع هذه الدولة.

عزمي بشارة

يستنتج الكثيرون اليوم أنّ المشاركة في الكنيست قد استنفدتْ نفسَها، لا من قِبل أوساطٍ عارضتْ أصلًا الدخولَ في هذه اللعبة فحسب، بل كذلك من قِبل أوساط شعبيّة كانت تشارك في التصويت. ولقد فُتح النقاشُ (مجدّدًا) اليوم حول شرعيّة إسرائيل نفسها، باعتبارها نظامًا كولونياليًّا وعنصريًّا يَستهدف الشعبَ الفلسطينيّ بأسره، لا باعتبارها دولةَ احتلالٍ موقّت في الضفّة والقطاع. صحيح أنّ هذا التغيّر الاستراتيجيّ في التوجّه والتفكير بدأ منذ سنوات، خصوصًا بعد الانتفاضة الثانية، داخل أوساط أكاديميّة ومثقّفة ومناضلة في عموم فلسطين والشتات. بيْد أنّ الأمر المستجدّ الآن في أوساط  الشعب الفلسطينيّ هو التسليم بشرعيّة نقاش هذا التوجّه، الذي  بات يلقى آذانًا صاغيةً، ولم يعد يُنعت بـ"النزق" و"الصبيانيّة" و"اللاواقعيّة." وقد ساعد في ذلك التحوّلاتُ المتسارعةُ في توجّهات المشروع الكولونياليّ الصهيونيّ، وتعمُّقُه في الأرض المحتلّة عام 67، ودفْنُ "حلّ" الدولتين، ونزعةُ العداء المتفاقمة ضدّ فلسطيني ٤٨. وتُوّج ذلك كلُّه بـ"قانون القوميّة" الذي أَعلن بصورةٍ لا تقبل التأويل، تنكّرَه السافرَ لحقوق الشعب الفلسطينيّ في فلسطين: فلا حقّ تقرير، ولا دولة في الضفّة والقطاع ، ولا مساواة لفلسطينيي الـ٤٨، ولا حقّ عودة!

هكذا يجد الفلسطينيون أنفسَهم وكأنّهم عادوا إلى نقطة الصفر، وظهرتْ أسئلةٌ مصيريّةٌ وعمليّة من قبيل: هل نحن أمام فرصةٍ لإعادة توحيد الرؤية الفلسطينيّة التحرّريّة، أمْ سيواصل كلُّ تجمّع فلسطينيّ التمسّكَ بـ"خصوصيّته"؟ هل ستُواصل الضفّة التمسّكَ بدولةٍ في الضفّة والقطاع، ويظلّ الفلسطينيون داخل ٤٨ منشغلين في "المساواة" و"متضامنين من بعيد" مع إخوانهم في الضفّة؟ هل سيتواصل التفريطُ باللاجئين، وتركُهم من دون عنوانٍ أو مرجعيّة؟ والسؤال الأكبر والجامع: ألم يحن الوقتُ للخروج من المعادلة الكولونياليّة، معادلةِ الخضوع للتجزئة الاستعماريّة وخدمة أمن الاستعمار؟

أما الأسئلة المستجدّة في خصوص فلسطينيي الـ٤٨ تحديدًا فهي من قبيل: هل نواصل التحرّكَ في إطار المعادلة الإسرائيليّة، أمْ نتجاوزها إلى المعادلة الفلسطينيّة، التي لم تعد للأسف موحّدةً وواضحةَ المعالم بعد أن هشّمها أوسلو؟ وهل يصحّ اختزالُ المعادلة الفلسطينيّة بفريق أوسلو، أو حتى بسلطة حركة حماس في قطاع غزّة ، أمْ ننفتح على الشعب المقاوم، ولجانه الشعبيّة (مثل لجان مقاومة الجدار، ولجان حقّ العودة ، ولجان مصادرة الأرضي،...)، والأطر الأكاديميّة، وحلقاتِ المثقّفين والاُدباء، والحَراكاتِ الشبابيّة، والمؤسّساتِ البحثيّة التي تنتج فكرًا نقديًّا؟

عند طرح هذه الأسئلة تَحْضُر مجملُ الظروف العالميّة والعربيّة والفلسطينيّة والإسرائيليّة، وهي ليست في صالح القضيّة الفلسطينيّة. ولكنْ هناك عاملان أساسيّان يعزّزان التفكيرَ في الخيارات التحرريّة الجديدة. الأوّل: وجودُ الشعب الفلسطينيّ على أرضه (وهو بمثابة فشلٍ إستراتيجيّ للحركة الصهيونيّة مقارنةً بهدفها الاستئصاليّ الأصليّ المتمثّل في "أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض")، وإصرارُه على حقوقه في وطنه. الثاني: إقدامُ إسرائيل على فضح نفسها بنفسها كنظام فصلٍ عنصريّ واستعماريّ، منتهكٍ للقوانين الدوليّة، ومرتكبٍ لجرائم حرب؛ ما يشكّل ذخيرةً في حوزة شعبنا لتأليب العالم ضدّ إسرائيل، وعزلها على طريق إسقاط منظومة القهر في كلّ فلسطين.

لحظة المصادقة على قانون القوميّة في مجلس العدو

 

هل استنفذت المشاركة في الكنيست نفسَها وما هو البديل؟

لا تُمْكن الإحاطةُ سريعًا بتجربة المشاركة العربيّة في انتخابات الكنيست منذ العام ١٩٤٨  ــــ ــــ خلفيّاتها، وطبيعة القوى السياسيّة التي بادرتْ إليها، والمراحل التي مرّت بها، ومدى تفاعل المواطنين العرب معها، ومآلاتها، ووصولها إلى اللحظة الراهنة حيث باتت جدواها محلَّ تشكيكٍ واسع. ولكنّني سأختار التركيزَ على تجربةٍ فريدة، أحدثتْ هزّةً في المجتمع الإسرائيليّ، وتغيّراتٍ أساسيّةً في الخطاب السياسيّ عند فلسطينيّي الـ٤٨، وأطلق تفاعلاتٍ لم تنتهِ حتى اللحظة. هذه التجربة هي تجربة حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، التي أبقت البابَ مفتوحًا أمام التواصل مع المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، ومفتوحًا أيضًا أمام المواجهة مع الصهيونيّة بعد أن أغلقه اتفاقُ أوسلو عبر الاعتراف بإسرائيل دولةً طبيعيّةً. وليس مصادفةً أنْ يتبجّح نتانياهو، على صفحته الشخصيّة، بالقول إنّ "قانون القوميّة" الجديد ردٌّ على مطلب "دولة المواطنين،" وأن يَقرن هذا المطلب بالتجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ.

ظهر "التجمّع" على الساحة السياسيّة سنة ١٩٩٦، وبدأ نجمُه يلمع بعد فترة قصيرة، من خلال قائده د. عزمي بشارة، وراح يتحوّل إلى حزبٍ مركزيّ يحمل برنامجًا ورؤيةً جديديْن. وقد جاء هذا الحزب حصيلةً لقراءة التحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة لدى "الأقلّيّة الفلسطينيّة،" ولقراءة نقديّة لمجمل تجربتها السياسيّة، ولأسباب تراجع الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة واليسار الفلسطينيّ والعربيّ والعالميّ. وبدأت إرهاصاتُ هذه القراءة تظهر في كتابات أكاديميين بارزين، مثل عزمي بشارة وسعيد زيداني، وكتابات نشطاء وطنيين آخرين منذ أواخر الثمانينيّات.

في تلك الأثناء كانت أزمةُ العمل السياسيّ داخل الخطّ الأخضر تتعمّق، وتطاول جميعَ القوى السياسيّة (الحزب الشيوعيّ، الحركة التقدّميّة، الحركة الإسلاميّة، حركة أبناء البلد،...). وبعد توقيع  اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، انكشفت الأزمةُ بكلّ أبعادها، وتأكَّد ما كان يقوله التيّارُ الوطنيّ من أنّ المصالحة بين منظّمة التحرير وإسرائيل ليست مقدّمةً لتحقيق المساواة لفلسطينيّي الداخل؛ ذلك لأنّ مصدرَ التمييز والعنصريّة ضدّهم كامنٌ في جوهر إسرائيل، وما احتلالُ الضفة وقطاع غزّة سوى  امتدادٍ للنظام العنصريّ الاستعماريّ القائم منذ العام ١٩٤٨.

أخرج أوسلو فلسطينيّي الـ٤٨ من المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وكرّس إسرائيلَ دولةً طبيعيّةً يهوديّة؛ ما عنى سدَّ الأفق أمامهم في تحقيق المساواة الكاملة. هكذا انهارت بالكامل مقولةُ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، مقولةُ "المساواة" من دون اشتراط إلغاء يهوديّة الدولة ــ ــ وهي مقولةٌ واظب الحزبُ على حملها منذ النكبة، وواجه بها كلَّ القوى الوطنيّة التي تحدّت مقولتَه واعتبرتْها أسرلةً للوعي الوطنيّ. طبعًا نحن لا نقصد هنا اختزالَ دور الحزب الشيوعيّ و"جبهته" في الجانب السلبيّ؛ فالحال أنّه أدّى دورًا محوريًّا في الحياة السياسيّة، وفي مقاومة التمييز ومصادرة الأرض، من خلال نشاطه السياسيّ والشعبيّ، ومن خلال جريدة الاتحاد، إلى أن ظهرتْ أحزابٌ وطنيّةٌ أخرى، فتغيّرتْ وجهةُ السياسة العربيّة داخل الخطّ الأخضر وباتت تعدّديّة.

بعد أوسلو تجمّعتْ كلُّ الشروط لإطلاق مبادرة وطنيّة جديدة. فتنادت القوى الوطنيّة التي ارتبطتْ تاريخيًّا بالمشروع الفلسطينيّ التحرّريّ، بما فيها المجموعةُ القوميّة التي تركت الحزبَ الشيوعيّ، وعلى رأسها بشارة. وتتوّجتْ جهودُ عاميْن من الاجتماعات والنقاش، داخل الخطّ الأخضر، بحلّةٍ جديدة، أساسُها شعار "هويّة قوميّة ومواطنة كاملة." وفي إطار التصدّي لتبعات اتفاقيّة أوسلو على فلسطينيّي الـ٤٨ والفلسطينيين عمومًا، طرح "التجمّع" ذلك الشعارَ تحدّيًا لـ"يهوديّة الدولة" التي تُعتبر (وفق المنظومة الديمقراطيّة الغربيّة) نقيضًا لمبدأ "المواطَنة." وكان ذلك تجديدًا وإبداعًا من طرف الحركة الوطنيّة داخل الخطّ الأخضر، وفي ظروف هزيمة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وظروف التسليم بوجود إسرائيل من دون مساءلة تكوينها العنصريّ الذي يكرِّس إلى الأبد دونيّةَ مواطنيها الفلسطينيين.

 

ولكنْ بأيّة وسيلة سياسيّة يمكن خوضُ هذه المعركة؟ هل عبْر المشاركة في انتخابات الكنيست، أمْ عبر النضال الشعبيّ، أمْ عبر الجمع بين الأمرين؟

هذا السؤال، سؤالُ الكنيست، شغل مختلفَ الأطراف، وبشكلٍ خاصّ "حركة أبناء البلد" طوال فترة التأسيس. وقد خاضت هذه الحركة نقاشًا داخليًّا عسيرًا حول هذه المسألة. يُذكر أنّ الحركة تأسّستْ عام ١٩٧٢، كحركة وطنيّة فلسطينيّة ذات توجّهات قوميّة ماركسيّة، وحُسبتْ على الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وتركّزت قوّتُها بين الطلّاب العرب في أربع جامعات إسرائيليّة، وتعرّضتْ لملاحقة سياسيّة متواصلة، وخاضت نقاشًا حادًّا مع الحزب الشيوعيّ حول مسائل الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة والأسرلة. ولهذه الاسباب لم تتمكّن "أبناء البلد" من التحوّل إلى حركة جماهيريّة واسعة، ولكنّها شَحنتْ بالعزيمة الثوريّة الحركاتِ الطلّابيّةَ الفلسطينيّةَ في الجامعات، وأصبح العديد من نشطائها قياداتٍ في أحزاب وطنيّة ومؤسّساتٍ أكاديميّة.

حتى تاريخ إعلان تأسيس "التجمّع،" كنتُ أشغل منصبَ نائب الأمين العامّ لـ"حركة أبناء البلد،"  وكنتُ من المعارضين الأشدّاء طوال الوقت لمشاركة "الحركة"  في الانتخابات. ولكنّ النقاش الداخليّ تتوّج بتعديل التوجّه، فصرنا نقول بضرورة أن يخوض "التجمّع" الانتخابات شرطَ امتناع ترشح قادة الحركة للكنيست، وذلك إدراكًا للحاجة الوجوديّة إلى إنقاذ الحركة الوطنية عمومًا وإعادة بنائها وتحويلها إلى تيّار شعبيّ مؤثّر. وقد رأينا في د. بشارة الأكثرَ قدرةً على تمثيل هذا الحزب في الكنيست، لتاريخه ودوره المتمرّد داخل الحزب الشيوعيّ، وتوجّهاته القوميّة، وثقافته، وقدراته الخطابيّة، ومعرفته الواسعة بالمجتمع الإسرائيليّ.

تمكّن بشارة من تحويل الكنيست إلى ساحة مواجهةٍ مكشوفةٍ ضدّ الفكر الصهيونيّ، معرِّيًا التناقضَ بين يهوديّة إسرائيل و"ديمقراطيّتها،" ومحوّلًا هذا التناقضَ إلى رافعةٍ لشحن المجتمع الفلسطينيّ مجدّدًا ضدّ النظام الصهيونيّ برمّته، ومحفِّزًا للقوى السياسيّة الأخرى على التنافس مع "حزب التجمّع" ومجاراته في حمل الخطاب الجديد، خطابِ "دولة المواطنين،" الذي تحوّل في العقديْن الأخيرين إلى خطابٍ سائدٍ في المجتمع السياسيّ والأكاديميّ الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر، بديلًا من خطاب "المساواة" الاندماجيّ الذي تميّز به الحزبُ الشيوعيّ.

 شخّصت المؤسّسةُ الصهيونيّة دورَ بشارة و"التجمّع" في التحريض المنهجيّ على يهوديّة الدولة كمصدرٍ للتمييز والظلم، وبخاصةٍ بعد توسّع قواعده الشعبيّة، وانخراطِه في المعارك الميدانيّة، وازديادِ قوّته الانتخابيّة. فكثّفتْ من ملاحقته ومحاولات "إخراجه عن القانون،" بل جعلتْه هدفَها الأوّل ضمن حملة التحريض المتصاعدة ضدّ الفلسطينيين منذ الانتفاضة الثانية. ولم يتوقّف التحريض على الحزب وقادته بعد اضطرار بشارة إلى مغادرة البلاد، إثر توجيه تهمة "التخابر مع العدوّ" (حزب الله) إليه، أثناء عدوان ٢٠٠٦ على لبنان. بل بلغ التحريضُ بوزير الدفاع الصهيونيّ، أفيغدور ليبرمان، إلى الدعوة  إلى "تصفية التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ سياسيًّا"(1) ــ ــ وهو ما يؤشّر على نوايا المؤسّسة الصهيونيّة تجاه "التجمّع،" خصوصًا بعد إخراج "الحركة الإسلاميّة" (بقيادة الشيخ رائد صلاح) عن القانون، وهي حركةٌ تقاطع الانتخابات واشتُهرتْ مؤخّرًا بتبنّيها الدفاعَ عن الأقصى.

ونجد أنّ سيلَ القوانين العنصريّة التي مرّرها الكنيست الإسرائيليّ، فضلًا عن الإجراءات الإداريّة والمخطّطات الاستيطانيّة التي نفّذتها إسرائيل ضدّ المواطنين الفلسطينيين داخل الخطّ الأخضر في العقد الأخير، قد بيّنتْ أنّ الهامش الضيّق الذي كانت تتحرّك فيه الأحزابُ والحركاتُ العربيّة، والحركاتُ العربيّة اليهوديّة (الحزب الشيوعيّ والجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة)، قد بدأ ينحسر بصورة شبه كلّيّة.

واليوم، بعد صدور "قانون القوميّة،" وبعد أن ثابرتْ إسرائيل على تضييق هامش التحرّك أمام أعضاء الكنيست العرب، وبعد أن سَدّت كلَّ السبل أمام النضال من أجل المساواة المدنيّة والقوميّة، وقتلتْ حلّ الدولتين، نسأل مجدّدًا:

هل ثمّة جدوى من الاحتفاظ بالتمثيل العربيّ في الكنيست؟ وهل الخروج منه يفيد النضال، أمْ يفيد اليمينَ الإسرائيليّ؟

العودة إلى نقطة البدء

في البدء كان خيارُ الشعب الفلسطينيّ، الواضحُ والطبيعيّ، هو تحرير فلسطين. ثم تحوّل إلى دولة ديموقراطيّة علمانيّة يتعايش فيها الطرفان. ثمّ تحوّل إلى دولة في الضفّة والقطاع كحلّ مرحليّ. وبعدها تحوّل إلى دولتين وفق أوسلو. واليوم انتهينا إلى نظام باستونات، تديره مدنيًّا سلطةُ حكمٍ ذاتيّ، باتت جزءًا من منظومة السيطرة الاستعماريّة، وخاضعةً للسيادة الإسرائيليّة.

في جميع هذه المتغيّرات والبرامج غاب فلسطينيّو الـ48 ولم يسأل أحدٌ عن رأيهم. وفي حين اعتُبروا ضمنًا جزءًا من الفلسطينيين الذين كان من المفترض أن يتحرّروا في إطار المشروع التحرّريّ الأصليّ، جاء اتفاقُ أوسلو فأخرجهم من هذا الحلّ، وكرّسهم شأنًا إسرائيليًّا داخليًّا، واختزل دورَهم (في أفضل الأحوال) في زيادة أصوات حزب العمل الإسرائيليّ، الذي اعتقدتْ سلطةُ رام الله دائمًا أنّه أسهلُ للتفاوض من الليكود ــ ــ حتى بعد أن انحرف أكثر فأكثر نحو اليمين وباتت الفوارقُ بينه وبين الليكود هامشيّةً!

في داخل الخطّ الأخضر، مرّ الفلسطينيون بمراحل مختلفة إزاء مسألة خوض انتخابات الكنيست. كان أوّل المنخرطين فيها هو الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وهو حزبٌ يهوديّ ــــ عربيّ "ذَوَّتَ" بسرعةٍ مذهلةٍ قيامَ إسرائيل: فوقّع على وثيقة "الاستقلال،" وأكّد في برنامجه أنّ إسرائيل تجسيدٌ لحقّ الشعب الليهوديّ في تقرير مصيره، وشدّد على ولائه لرموز الدولة (من علمٍ ونشيدٍ…)، مغلّبًا الصراعَ الطبقيَّ على الصراع القوميّ. وكان يستمدّ موقفَه المتهافتَ هذا من دعم القيادة الستالينيّة السوفييتيّة ـــ ـــ التي دعمتْ قرارَ التقسيم في الأمم المتّحدة، وساندت الحركةَ الصهيونيّة (من خلال السلاح التشيكيّ…) في حربها وانتصارها على الشعب الفلسطينيّ. ولقد واظب الحزبُ الشيوعيّ على رفع شعار "المساواة" من دون تجديد مضمونه. إلى أن جاءت "الحركة التقدميّة" (وهي تيّار وطنيّ فلسطينيّ) سنة ٤
١٩٨٤، فخاضت الانتخابات، وطرحتْ برنامجًا يغلّب الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة. ولاحقًا جاء "التجمّع" ليقدّم رؤيةً متكاملةً لكيفيّة تحقيق المساواة الكاملة، محدِّدًا أنّ المساواة لا تتحقّق إلّا عندما تنتهي دولةُ إسرائيل كدولةٍ للشعب اليهوديّ وتصبح دولةً لكلّ المواطنين.

والنقاش المطروح مؤخّرًا ، في أوساط "التجمّع" وأوساط أكاديميّة وشعبيّة: هل ما يزال مشروعُ "دولة المواطنين" صالحًا؟ ويرافق هذا السؤالَ سؤالٌ آخر: هل من جدوى في الاستمرار في الكنيست؟

ليس واضحًا كيف سينتهي هذا النقاش. الأمر المؤكّد أنّ الحزب الشيوعي، ومعه شرائحُ اجتماعيّة ليست قليلة، لن تتنازل عن خيار الاستمرار. وهذا يعود في الأساس إلى أسباب تاريخيّة وإيديولوجيّة، تتصل بالعلاقة مع الدولة. وللحزب الشيوعيّ و"جبهته الديمقراطيّة للسلام والمساواة" قاعدتُهما الشعبيّة، التي لا تزال كبيرةً نسبيًّا، على الرغم من التراجعات والانشقاقات الكثيرة التي حصلتْ فيه. وهو أدّى، وما يزال، دورًا مهمًّا في الحياة السياسيّة لفلسطينيي الداخل.

 شخصيًّا أعتقد، شأن آخرين، أنّه قد حان الوقت للخروج من معادلة "دولة المواطنين في إسرائيل" إلى "دولة المواطنين في فلسطين التاريخيّة." كما أعتقد بوجوب تشكيل حركة شعبيّة فلسطينيّة عامّة نكون جزءًا منها؛ حركةٍ توحِّد شعبَ فلسطين، وتستعيد مشروعَه التحرّريّ بحلّةٍ جديدة: دولة ديموقراطيّة واحدة، على أنقاض نظام الأبرتهايد الكولونياليّ، يعيش فيها الجميع بمساواةٍ تامّة، من دون امتيازاتٍ لأيٍّ طرف.

كما أعتقد أنّ الأوان قد آن للتوقّف عن المشاركة في الكنيست. فبعد أن أعلنتْ إسرائيل عن نفسها دولةً ذاتَ حقٍّ حصريّ في  تقرير المصير، باتت المشاركة في انتخابات الكنيست غيرَ ذات جدوى؛ بل باتت تُلحق الضررَ بنضالنا لأنّها توفّر غطاءً شرعيًّا لنظام أبرتهايد استعماريّ من أردأ الأصناف التي عرفها تاريخُ الاستعمار، وتعطِّل التفكيرَ في بدائل سياسيّة وكفاحيّة.

لقد طوَر حزبُ التجمّع أطروحةَ "دولة المواطنين،" التي تقوم على استخدام التناقض بين الديمقراطيّة واليهوديّة، وكان ذلك إبداعًا أتى أُكلَه في ظروفِ ما بعد أوسلو، حين بدت الساحةُ قابلةً للأخذ والردّ في مجال تطوير مفهوم "المواطنة المتساوية." أما وقد بات هذا النقاشُ نقاشًا داخليًّا يخصّ "القبيلةَ اليهوديّة" الآخذة في التحوّل إلى حالةٍ فاشيّةٍ بين طرفين رئيسيْن ــــ أقليّة تريد دولةً يهوديّةً مع قناعٍ ديمقراطيّ، وطرفٍ آخر لا يرى أنّ الدولة تحتاج الى هذا القناع ــــ فلا بدّ من العودة إلى الأصل، إلى نقطة البدء أو "أصل القصّة،" وإلى التعامل مع الكيان الإسرائيليّ باعتباره كيانًا استعماريًّا أو نظامَ  فصلٍ عنصريّ كولونياليًّا وغيرَ شرعيّ.

 

في مجرى هذا التحوّل، يستطيع الفلسطينيون داخل الخطّ الأخضر أن يؤدّوا دورًا مركزيًّا، وذلك عبر تطوير مؤسّساتهم التمثيليّة، القُطْريّة والمهنيّة والنقابيّة، والاعتماد على النضال الشعبيّ المدنيّ، واستقطاب كلّ القوى اليهوديّة المناهضة للصهيونيّة والاحتلال والعنصريّة والتمييز.  بهذه الرؤية التحرّريّة الإنسانيّة الأخلاقيّة، التي تستطيع حشدَ غالبيّة الشعب الفلسطينيّ، يمكن التوجّهُ إلى المجتمع الدوليّ، ومنظّماته الدوليّة والمدنيّة والشعبيّة، من أجل عزل إسرائيل كنظام غير شرعيّ ينتهك القانونَ الدوليّ ويرتكب جرائمَ حرب. إنها معركةٌ طويلةٌ وصعبة. ولئن بدتْ وكأنّها تبدأ من الصفر، فإنّها في الواقع تنطلق من شعبٍ يعيش نصفُه على أرض فلسطين، وقضيّتُه ترفض أن تموت، وتتّسع دائرةُ الأصدقاء من أحرار العالم، الذين لا يزالون ينظرون إليها رمزًا للنضال من أجل العدالة.

 

كوكب ابو الهيجاء (فلسطين)

(1) يديعوت احرونوت، ٢٣/٧/٢٠١٧.

عوض عبد الفتاح

مواليد 1957 من قرية كوكب أبو الهيجا في فلسطين. الرئيس السابق لحزب التجمع الوطني الديمقراطيّ. عمل رئيس تحرير صحيفة فصل المقال التابعة للحزب.