إضراب "الوسخ": مناضلاتُ الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ يتحدّينَ السجّان
13-02-2018

 

شارك في المقال: زهراء الكاظمي، إلينور ميوسك*

في شتاء العام 1980 قامت ثلّةٌ من أسيرات الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ (1) في سجن أرماغ،(2) شمال إيرلندا، بإعلان الإضراب دعمًا لرفاقهنّ السجناء (الذكور). عُرِف إضرابُ المعتقلات هذا بإضراب "البَراز" أو الغائط (أو إضراب الوسخ)، وجاء بعد أكثر من سنةٍ من العذاب، عانيْنَ خلالها ظروفًا صحّيّةً قاهرة؛ فقد مُنعنَ، مثلًا، من الدخول إلى المراحيض بصورةٍ دوريّة، ومن الاستحمام لفتراتٍ طويلة.  

مناسبةُ كتابتنا عن هذا الاضراب هو ما شاع خلال "إضراب الجوع" الذي قام به المناضلون الفلسطينيّون المعتقلون في سجون الاحتلال قبل شهور، وخصوصًا بعد أن ذُكر أنّ السلطات الإسرائيليّة فَكّرتْ في كسر إضرابهم عبر إجبارهم على الأكل. فرأينا من المفيد أن نَعْرضَ تجربةَ "إضراب الوسخ" الذي قامت به معتقلاتُ الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ، علّنا نسهم في نقل هذه التجربة الغنيّة إلى رفاقنا في السجون الإسرائيليّة من أجل درسها وتعميمِ الفائدة منها، وتعبيرًا عن تضامننا مع قضيّتهم العادلة.

إنّ هدف هذه المقالة ليس الوعظ والتنظيرمن بُعد، بل لأنّنا نؤمن بأنّ الشعوب تتعلّم من تجارب بعضها بعضًا. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ العدو غالبًا ما رَشَّ المتظاهرين الفلسطينيين بمياهٍ آسنةٍ ملوّثة. لذلك قد يكون مفيدًا استعمالُ الوسخ أو البَراز وسيلةً فلسطينيّةً مضادّةً؛ وقد يكون ذلك أيضًا ردًّا على السجّان الإسرائيليّ بالسلاح الذي يستخدمه، أيْ عبر إذاقته البرازَ الفلسطينيّ.

ولقائلٍ أن يقول إنّ هذا التكتيك سلاحٌ ذو حدّيْن، لأنّه قد يؤدّي الى الإضرار بصحّة المعتقلات الفلسطينيّات أيضًا. بيْد أنّ الأضرار التي يُلحقها الإضرابُ عن الطعام بصحّة المضربين قد تفوق الأضرارَ الناجمةَ عن إضراب الوسخ؛ كما أنّ أضرار الوسخ قد تُصيب السجّانَ مباشرةً، أو قد تمنع المستوطنين من الاقتراب من جدران المعتقل لإقامة حفلات الشواء الماجنة نكايةً بالمضربين (وهو ما حدث فعلًا أثناء الإضراب الأخير).

                                  (المستوطنون يشوون اللحم خارج سجن المضربين الفلسطينيّين)

تجدر الإشارة إلى أنّ إضراب الوسخ  في أرماغ تميّز بطابعه السلميّ، ولم تَستخدم الأسيراتُ الإيرلنديّات أثناءه وسائلَ محرَّمةً دوليًّا. كما استطعن، ولفترةٍ طويلةٍ نسبيًّا، السيطرةَ على السجن؛ بل استطعن أحيانًا تحويلَ السجّانين إلى سجناء، إذ اضطرّوا إلى حبس أنفسهم في دائرةٍ بعيدةٍ عن غُرف السجينات، وغادر كثيرون منهم وظائفَهم لأنّهم لم يستطيعوا تحمّلَ روائح البراز، وبعضُهم ترك مبنى السجن بأكمله خوفًا من الإصابة بأمراضٍ مُعْدية. ولقد هدفت السجيناتُ المضربات إلى بثّ رسالةٍ قويّةٍ إلى الرأي العامّ المحلّيّ والعالميّ، يفضحنَ فيها ظروفَ اعتقالهنّ القاهرة، ويُشْهرن تأييدَهنّ لرفاقهنّ المضربين (الذكور) في سجونٍ أُخرى من أجل تحسين ظروف اعتقالهم أو الإفراج عنهم.

إنّ السجن عقوبةٌ لأفرادٍ يخالفون "النظامَ العامّ" الذي أرسى أسُسَه المحتلُّ ــ ــ الصهيونيُّ في حالة فلسطين، والبريطانيُّ في حالة إيرلندا. فالسجن يزجُّهم في أمكنةٍ ضيّقة، يقيّد فيها حريّاتِهم التي أقرّتها القوانينُ الدوليّة، وينظِّم حياتَهم داخلها بطريقةٍ مشدّدةٍ ومراقبة، بحيث تحدَّد ساعاتُ الأكل والنوم والاستيقاظ والتمارين الرياضيّة والاجتماع، بما يحوِّل المعتقَلَ إلى "شبه إنسان" يعيش مستسلمًا للقوانين والأوضاع السائدة. أمّا السجّان فتبقى حياتُه داخل السجن عاديّةً، ويؤدّي وظيفتَه التي يتقاضى أجرًا عليها؛ ولذلك يصبح قَضُّ عيشه داخل السجن مسألةً غايةً في الأهميّة لأنّ ذلك قد يمكِّن المعتقلين من تحقيق مطالبهم أو جزءٍ منها.

 

السياق التاريخيّ لـ"إضراب الوسخ" في أرماغ

منذ أوائل ستينيّات القرن السابق بدأتْ طغمةٌ من طائفة البروتستنات الإيرلنديّة بتشديد قبضتها على النظام السياسيّ وعلى اقتصاديّات البلد. وقد ولّد ذلك معارضةً من معظم فئات الشعب الإيرلنديّ، بغالبيّته الكاثوليكيّة، التي عانت تمييزًا ممنهجًا، طبقيًّا وطائفيًّا، خصوصًا في مجالات التوظيف في القطاع العامّ ومشاريع الإسكان والتربية. وأفضلُ مكانٍ لتجلّي هذه السياسة الفئويّة هو مدينة بلفاست، التي تنقسم ديموغرافيًّا إلى منطقتين: شرقيّةٍ يقطنها، بشكلٍ أساس، البروتستانت؛ وغربيّةٍ تسكنها، إجمالًا، عائلاتٌ كاثوليكيّةٌ تنتمي إلى التيّار القوميّ الجمهوريّ. وتظهر آثارُ الانقسام الديموغرافيّ والسياسيّ بصورةٍ واضحةٍ في الانتخابات التشريعيّة، إذ أُعطيَ ملّاكو البيوت الحقَّ في التمثيل، خلافًا للسواد الأعظم من فقراء إيرلندا الشماليّة الكاثوليك لكونهم لا يملكون منازل؛ كما وُضعتْ أحياءُ الكاثوليك تحت مراقبة الشرطة، التي كانت تقوم بتوقيف السكّان والتحقيق معهم بطريقةٍ تعسفيّةٍ واعتباطية.

لذلك كلِّه، بدأ الإيرلنديّون الكاثوليك منذ العام 1967 نضالَهم السلميّ ضدّ السياسات الفئويّة التي تمارسها الأقليّةُ البروتستانتيّة، المدعومة من المركز الإمبرياليّ البريطانيّ. وشكّلوا قيادةً سياسيّةً موحّدة، دُعيتْ "منظّمة إيرلندا الشماليّة للحقوق المدنيّة،" وهدفتْ إلى تحقيق الآتي: وحدة إيرلندا، وإصلاح النظام التربويّ والإسكانيّ والاقتصاديّ، وإقرار دستورٍ لا يقوم على التمييز الطبقيّ والطائفيّ، وإلغاء قانون الطوارئ المعمول به منذ سنة 1916.

خاضت المنظّمة المذكورة غِمارَ نضالاتٍ سلميّة عديدة من أجل هذه الأهداف، وغالبًا ما كان الموالون للبروتستانت يتحرّشون بأعضائها ويعتدون عليهم، بمساندةٍ من الشرطة الإيرلنديّة. وقد جرت أعنفُ المواجهات في 5 تشرين الأوّل 1968 في مدينة ديري، وذلك عندما أعطت السلطةُ الإيرلنديّة الجمهوريين ترخيصًا بالتظاهر، وأعطت العصاباتِ البروتستانتيّةَ إذنًا بالتظاهر أيضًا، في المكان والزمان نفسيهما! وهذا ما أدّى إلى صدامٍ عنيفٍ بين المجموعتين، استَعمل فيه الرُعاعُ البروتستانت السكاكينَ والعصيّ والحجارةَ وأشلافَ الحديد، فوقع العديد من الإصابات في صفوف القوميّين الإيرلنديّين العُزّل. ولم تهدأ الأمور إلّا عندما أمرت حكومةُ لندن الجيشَ بالتدخّل.

ومنذ ذلك الحين راحت الصداماتُ بين الجمهوريّين وخصومهم تتكرّر وتنتشر إلى أماكن عديدة من إيرلندا. وكانت غالبًا ما تؤدّي إلى خسائر بشريّة جسيمة في الجانب الجمهوريّ، لكون الموالين البروتستانت مدعومين من السلطة الحاكمة. لكنّ إحدى أهمّ نتائج هذه الصدامات كانت إعادةَ الحياة إلى الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ، الذي تبوّأ المركزَ القياديّ الأول في الحركة الشعبيّة المُطالِبة بتحقيق العدالة الاجتماعيّة. وكان طبيعيًّا أن تنتقل الحركة المطلبيّة إلى داخل السجون الإيرلنديّة، التي أضحت تَعجّ بالأسرى والأسيرات من صفوف الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ ومناصريه.

 

الإضراب

شكّل الإضراب عن الغسيل في سجن "لونغ كوش" في 14/9/1976 حافزًا قويًّا لإعلان أسيرات الجيش الجمهوريّ في سجن أرماغ إضرابَهنّ تضامنًا مع رفاقهنّ. فهؤلاء كانوا قد أعلنوا إضرابَهم ذاك احتجاجًا على إلغاء الحكومة البريطانيّة "الامتيازاتِ الخاصّةَ" بالمعتقلين السياسيّين، ورفضًا لممارسات الحرّاس الوحشيّة والعشوائيّة المتزايدة، فاعتصموا في زنازينهم، وبقوا عراةً، أو استعاضوا بالحرامات عن ارتداء ملابس السجن.

بدأ "إضراب الوسخ" حين قامت سلطاتُ السجن بمنع عُمّال التنظيف من الدخول الى الزنازين لتنظيفها. وفي الوقت نفسه، عمدت السلطاتُ في قسم السجينات إلى سحبِ كلّ العاملين الاجتماعيّين والتربويّين ورجال الدين من سجن أرماغ. وتلا ذلك إعطاءُ سجينات الجيش الإيرلنديّ، وبصورةٍ غير اعتيادية، وجبةً دسمةً من الطعام. وما إن انتهينَ من تناولها حتى فَتح الحرّاسُ أبوابَ السجن على مصراعيْه ليدخلَ عددٌ كبيرٌمن رجال الشرطة، المُدَجّجين بأسلحةِ مُقاومةِ الشَغب، ولينهالوا بالضرب المبرِّح على السجينات بعد أن حصروهنّ في غرفتين صغيرتين. ثمّ بدأوا بتفتيش زنازينهنّ بحثًا عن الملابس السوداء التي ترمز إلى الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ.

بعد انتهاء حملة التفتيش سمحتْ شرطةُ السجن للمعتقلات، بعد تعنيفهنّ بفظاظةٍ وقسوةٍ، بالعودة إلى غرفهنّ، ليجدْنها مقلوبةً رأسًا على عقِب. ثمّ حجزت الشرطةُ المعتقَلات في غرفهنّ ومنعتهنّ من مغادرتها ولو إلى المراحيض. وترافق ذلك مع هجوم مركّز على بعضهنّ، فضُربنَ بقسوة، وسُحبنَ من غُرفهنّ عارياتٍ لمقابلة حاكم السجن. ولا يَخفى ما لتعرية المعتقلات من دلالاتٍ على نظام القيم الاجتماعيّة السائدة في مجتمع ذكوريّ يضفي على "عفّة" المرأة و"شرفِها" معنًى كبيرًا. ثمّ إنّ أحد الأهداف الرئيسة من تعرية المعتقلات هو كسرُ إرادتهنّ حتى يَصبحن عِبرةً لغيرهنّ من الإيرلنديات اللواتي قد يفكّرن مستقبلًا في الالتحاق بالجيش الجمهوريّ.

استمرّ الوضع على حاله في سجن أرماغ لأسابيع عديدة، وواصلتْ سلطاتُ السجن منعَ المعتقلات من الذهاب إلى المراحيض، ومغادرةِ الزنازين، وتناولِ الوجبات، في مواعيدها جميعها. ولتصعيد الضغط عليهنّ فقد نقلتْهنّ إدارةُ السجن إلى جناحٍ آخر، بغرفٍ أضيق ولا تتمتّع بمقوِّماتٍ صحّيّة (كالمجلى والمغطس)، بل احتوت على مراحيض صغيرة تحتاج إلى أن تفرَّغ باستمرار. ولمّا لم يُسمحْ للمعتقلات بمغادرة غرفهنّ، فقد لجأنَ إلى رمي الأوساخ عبر النوافذ. وحين أغلق الحرّاسُ النوافذ من الخارج، سارعن إلى رمي البراز على ممرّات السجن، أو رمينها عليهم مباشرةً، وأحيانًا من فُتحات المراقبة الضيّقة.

أمّا التطور المتصاعد في حركة احتجاج الأسيرات فكان عندما لجأن إلى طلس جدران زنازينهنّ بالبراز ودماءِ الحيض. وتحوّلتْ جدرانُ الزنازين إلى ألواحٍ كتبن عليها ــ باللغة الغيليّة التي لم يكن  يُسمح لهنّ في السابق باستخدامها ــ شعارتٍ سياسيّةً وجملًا تعبّر عن مشاعرهنّ تجاه السجّانين ووزارة الداخليّة والحكومة الإمبرياليّة. وقد بقيتْ هذه الكتابات لفترة طويلة، إذ لم يجرؤ السجّانون ــــ الذين ارتدوْا ملابسَ خاصّةً لمقاومةِ الأمراض والبكتيريا ــــ على الاقتراب من الجدران لتنظيفها!

هكذا تمكّنت المعتقلات من تحرير مساحةٍ كبيرةٍ من السجن من سيطرة السلطات عليها، ومن تحقيق قدْر من الحريّة لأجسادهنّ وللمكان الذي يقطنّه. ولقد تمكّنّ من ردعِ رجال السجن الذين كانوا يتفوّقون عليهنّ بقوّتهم الجسديّة، وذلك عبر استخدامهن لبرازهنّ ولدماء عادتهنّ الشهريّة، فأضحوْا عاجزين لا يجرؤون على الاقترابِ منهن أو لمسهنّ أو دخول زنازينهنّ. وبذلك أجهضن ــــ وإنْ لفترةٍ قصيرة ــــ هدفًا رئيسًا من أهداف السجن كمؤسّسةٍ بُنيتْ لترويض السجناء والسجينات وتحويلهم إلى "مواطنين صالحين."

استمرّ إضرابُ النساء على هذا المنوال أكثرَ من سنة، امتنعنَ خلالها عن الاستحمام وتنظيف أسنانهنّ وتغيير ملابسهنّ. وكنّ يُدفعن كلّ ثلاثة أشهرإلى باحة السجن للتشمّس واستنشاق الهواء النظيف، ليعدنَ بعد ذلك إلى الزنازين ومعاودةِ الإضراب. وكان الحرّاس يضربوهنّ عند المغادرة والعودة. لكنّ الظروف الصحّيّة راحت تتدهور باستمرار؛ ذلك أنّ روائحَ الأوساخ وتفاقمَ الجراثيم والبكتيريا أدّت إلى تسمّم الهواء داخل السجن، وخصوصًا داخل زنازين المعتَقَلات، اللواتي أصيب عددٌ كبيرٌ منهنّ بالتهاباتٍ صدريّةٍ حادّة وبحالات اختناق. لكنّهنّ لم يوقفن الإضراب، الذي استمرّ مع إضراباتٍ أخرى حتى 1/3/1981، وتحديدًا عندما بدأ المعتقلون الرجال إضرابَهم المشهور عن الطعام في سجن كوش؛ فقد اتّفق مناضلو الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ ومناضلاتُه على التركيز على إضراب سجن كوش، فأعلنت المعتقلات فكّ إضراب الوسخ، وبدأن بالاستحمام والذهاب إلى المراحيض.

***

يتّفق معظمُ دارسي إضراب الوسخ على أنّه لم يحقّقْ أهدافَه المعلنة، أي الحصول على معاملةٍ تَسمح للمعتقلات بالتمتّع ببعض الامتيازات السياسيّة والإنسانيّة. لكنّ المكسب الأساس الذي استطعن تحقيقَه كان التغطية الإعلاميّة لقضيتهنّ، واستدرارَ التضامن معهنّ محلّيًّا وعالميًّا. كذلك ساهم الإضرابُ في نشر الوعي السياسيّ بين المعتقلات، وتصليبِ تجربتهنّ النضاليّة، والاستفادةِ من الدروسِ التي تعلّمنَها من رفيقاتٍ أكبر سنًّا وأغنى تجربةً. فأصبح السجن لهنّ مدرسةً تثقيفيّةً فكريّة ونضاليّة كان يستحيل أن تنشأ خارج أسواره بسبب القمعِ المفروض على المجتمع الإيرلنديّ.

وختامًا، فإنّ الاتفاق بين ممثّلي الشعب الإيرلنديّ والحكومة البريطانيّة سنة 1999 لم يكن ممكنًا لولا تراكمُ النضالات التي قامت بها معظمُ فئات الشعب الإيرلنديّ وقواه الديمقراطيّة، وفي طليعتها المناضلاتُ الإيرلنديّات اللواتي ابتكرن وسائلَ نوعيّةً لإيصال مطالبهنّ ومطالبِ شعبهنّ المحقّة في التحرّر والاستقلال، حتى استحققنَ لقب "نساء مميّزات." ولا يمكن فهمُ "إضراب الوسخ" إلا ضمن هذا السياق التاريخيّ.

مونريال

 

(1) تعود نشأةُ هذا الجيش إلى بدايات القرن الثامن عشر عندما طالبتْ مجموعةٌ إيرلنديّة بالانفصال عن الإمبراطوريّة البريطانيّة. لكنْ، بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى، شكّل الإيرلنديون حركةٌ وطنيّة أعلنتْ حربَ الاستقلال (1919 ــــ 1921)، التي انتهت بتوقيع معاهدة نصّت على قيام دولة إيرلندا الحرة، ومنحتْ إيرلندا الشماليّة الحقَّ في الانفصال. رفض الجيشُ الجمهوريّ الاعترافَ بدولة إيرلندا الحرّة وبايرلندا الشمالية، واعتبرهما كيانين من اختراع الإمبرياليّة البريطانيّة، وخاض حربًا طوال 40 عامًا مارس فيها كلّ أشكال النضال لتحقيق هدفه. لكنّ انقسامًا حصل فيه سنة 1969، فخرجتْ منه اتجاهاتٌ عدّة، كان أبرزَها جناحٌ تبنّى الماركسيّة وعُرف باسم "الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ الرسميّ،" الذي تابع الكفاحَ المسلّح ضدّ الاستعمار البريطانيّ. لاحقًا، شُكّل جناح سياسيّ لهذا الجيش، عُرف باسم "الشين فين،" الذي أصبح فيما بعد "حزبَ عمّال ايرلندا." وفي العام 1998 توصّلتْ معظمُ أطراف الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ إلى اتفاق مع الحكومة البريطانيّة لوقف إطلاق النار، على أن تتْبعه تسويةٌ سياسيّة.

(2) اشتُهر سجن أرماغ ، الذي بُني سنة 1780، بأنه خُصّص لمناضلي الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ، وبخاصّةٍ النساء. وقد حصلت السجيناتُ فيه على بعض "الامتيازات": كالحقّ في عدم ارتداء ملابس السجناء الرسميّة، وحقّ الممارسة السياسيّة (وذلك بعد عدّة إضرابات). فاق عددُ السجينات المئة عام 1976، وتنوّعتْ خلفيّاتُهنّ الاجتماعيّة: فكان منهنّ الأمّهات، والمُطلّقات، والشابات اللواتي لم يتجاوزن الخامسة والعشرين من العمر. تعرّضتْ سجيناتُ هذا الجيش لأعنف وسائل القهر والتعذيب من أجل إرغامهنّ على الاستسلام أو الوشاية برفاقهنّ، لكنّهنّ عُرفن بصلابتهنّ وتمسّكهنّ بأهداف شعبهنّ في التحرّر والاستقلال.

*زهراء الكاظمي: تدْرس التنمية الدوليّة ودراسات الشرق الأوسط في جامعة ماكغيل. وتهتمّ بالنسويّة ودراسات ما بعد الكولونياليّة. إلينور ميوسك: باحثة وطالبة في التاريخ في جامعة ماكغيل. اهتاماتُها تشمل دراسةَ الإقطاع، وتاريخَ "العلم،" ودراسات ما بعد الكولونياليّة.

 

مالك أبي صعب

مالك أبي صعب: أستاذ التاريخ في جامعة ماكغيل في مونريال (كندا). من مؤلّفاته : مناضلاتُ أمّةٍ هشّة (بالإنكليزيّة، 2010)، وشيعة لبنان: الحداثة، الشيوعيّة، إسلاميّو حزب الله (بالإنكليزيّة أيضًا، بالاشتراك مع رلى الجردي، 2015).