التاريخ في أعمال حاتم علي: حوارات وتأمّلات لم تكتمل
28-02-2021

 

بعد انتقال الأستاذ حاتم علي [1] من مصر إلى مونريال التقيتُ به في جمعيّة جلجامش التي قدّمتْ على مدى عقديْن من الزمن محاضراتٍ وأمسياتٍ شعريّةً متميّزة. فوجئتُ بحضوره، وتقدّمتُ منه لأعبّرَ له عن إعجابي بأعماله الفنّيّة، وبخاصّةٍ لأنّها تُعنى بالشخصيّات والوقائع التاريخيّة. كان ذلك تمهيدًا لدعوته إلى حوارٍ في مركز الدراسات الإسلاميّة في جامعة ماكغيل. اتَّفقنا على اللقاء، وجلسنا معًا بعد أسبوع في مقهًى لنرتِّب تفاصيلَ الحوار، ولتنموَ بيننا صداقةٌ ممتعةٌ قطعها غيابُه المفجعُ المفاجئ.

ما كان أسعدَني ذلك اليومَ الذي بدأتُ أرسمُ فيه خطَّةَ الحوار معه. كنتُ أشعر منذ البداية بأنَّني أمام إنسانٍ حسّاسٍ، منفتحٍ، ناقدٍ، متواضعٍ، يعرف كيف يُصغي إلى الآخرين، وكيف يدافع عن آرائه بهدوء. وبعد أن انتشرتْ جائحةُ الكورونا وبدأ الحجْرُ الصحّيّ، كان قد رجع من مصر، فاتَّصل بي ليطمئنَّ إليّ وإلى عائلتي.

في الأمسية التي انعقد فيها هذا الحوارُ الرائع، قدّمتُه إلى الجمهور، وأدار الأسئلةَ الموجَّهةَ إليه الأستاذ عمّار عبد العزيز. بدأ الأستاذ علي بإلقاء الضوء على رؤيته الفنّيّة الخاصّة لعمليّة تصوير التاريخ وطريقته في التعاطي مع النصوص التلفزيونيّة والسينمائيّة. التقينا بعدها من جديد لنتطرّقَ إلى مواضيعَ شتّى تتعلّق بالمشهد المأساويّ لأوطاننا العربيّة، وبما حلّ بسوريا، وبآفاق عمله في الإخراج والتمثيل هنا في مونريال.

بدأ إعجابي بحاتم علي بعد مشاهدتي مسلسل عصيّ الدمع (2005)، فرُحتُ أبحثُ بعدها عن مسلسلاتٍ أخرى ترك عليها بصمتَه. وربّما كنتُ أحنّ إلى تواريخَ وأزمنةٍ مضت أعاد حاتم صياغتَها على طريقته الخاصّة، بكثيرٍ من الأناقة والشاعريّة. ذلك الحنينُ إلى الأمكنة الجريحة التي جئنا منها كنتُ أراها في كاميرا حاتم علي، المتدفّقةِ بالعاطفة الصادقة والألم. أمّا بالنسبة إلى مواضيع المسلسلات وطبيعةِ القصص التي جسّدتْها، فقد كنتُ أرى أعمال حاتم علي جزءًا لا يتجزَّأ من التجربة التلفزيونيّة السوريّة الغنيّة التي جذبت الملايينَ من العرب. وكنت إخالُ أنّ كلّيّة الفنون السوريّة متأثّرة بتراث الأدب الواقعيّ (وربّما السوفياتيّ).

كانت أصداءُ مسلسل عمر والجدلُ الذي دار حوله ما تزال تهيمن على المشهد الدراميّ المتعلّق بالشخصيّات الدينيّة والتاريخيّة في عالم التلفزيون والسينما. وقد شاهدتُ المسلسل حين عُرض للمرّة الأولى في شهر رمضان 2012، وفوجئتُ بجرأته، وبما اختار أن يتطرَّقَ إليه من أفكارٍ ووقائعَ تاريخيّة ومواقفَ إنسانيّة. وقد حدّثني الأستاذ حاتم عن اصطدامه بالواقع، وعن موقف "اللجنة الشرعيّة" من المسلسل -- بدءًا باستهجانها لتجسيد الخلفاء الراشدين، وانتهاءً برفضها مضمونَ بعض الحوارات. قال لي: "تصّورْ أنَّنا بعد أن صوَّرنا معظمَ الحلقات، وجدنا أنفسَنا من دون منتِجٍ للمسلسل، وفقدنا الأملَ في عرضه، فقفلْنا عائدين. لكنّنا فوجئنا حين تقدَّم منّا إنسان وعرض أن ينتجَ المسلسل، فوافقنا." في سوريا أيضًا واجه علي اعتراضَ الهيئة الدينيّة على بعض ما جاء في مسلسلٍ آخر، لكنَّه تمسَّك برأيه، وفي النهاية سمحت السُّلطةُ بعرضه.

في مسلسل عمر لم يُخفِ حاتم علي وجوهَ الخلفاء الراشدين وراء بابٍ أو حجاب. توخّى أن يقرِّب عُمرَ الإنسانَ إلينا، بتناقضاته وحنكته الإداريّة وولائه وتقشُّفه، وكذلك بأخطائه. ففي هذا المسلسل نرى عمرَ ينتقد نفسَه؛ إذ بعد أن اشتكى بعضُهم من زيادة مهور النِّساء، مَنع عمر رفعَ قيمتها أكثرَ من 400 درهم، فاعترضت امرأةٌ قائلةً إنّ القرآن يجوِّز الإصداقَ بالمال الجزيل،[2]فتراجع عن نهيه كثرةَ الإصداق وأجاب: "امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ." وفي مشهٍد آخر نرى عمرَ يحاول أن يمنعَ زوجتَه من القيام بصلاة الجمعة في المسجد فتجيبُه: "وما كان لعمرَ أن يَنهى عمّا أقرَّ رسولُ الله الذي قال: ’لا تَمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ الله‘،" ثمّ تخْرج إلى المسجد، فيَلْحق بها كأنّه تراجع عن رأيه. ويصوِّر لنا المسلسلُ أيضًا الاجتهادات الشخصيّة التي قام بها بعضُ الصحابة والقادة خلال الفترة الأولى من الفتوحات: كأنْ يُطْلق خالد بن الوليد حكمَ الموت على أسيرٍ، فيواجِهَ نقدَ أعوانه مستشهدين بالآيات القرآنيّة ومحذِّرين "ألّا يصيبَ دمًا إلّا بحِيطة."هكذا يتلافى مسلسلُ عمر المديحَ المملَّ ولا ينحاز إلى النقد الهدّام. ما أراده حاتم علي هو أن يُخْرج المُشاهِدين من الانبهار بالموروث الدينيّ إلى احترامِ ما يُحترم وإدانةِ ما تجب إدانتُه.

ولشدَّ ما أُعجبتُ بمسلسل صقر قريش، وباللَّقطات المثيرة لهروب الأمير الأمويّ، عبد الرَّحمن الداخل، من المَسوَدَة والخطرُ يحيقُ به. وقد جسَّد كاتبُ الحوارات، وحاتم علي، مشاعرَ الترقُّب والحزن والشوق بمهارةٍ في أجواءِ طبيعةٍ خلّابة. ولأنّني كنتُ مشدودًا إلى قصص المُلاحَقين والمطارَدين وسِيرِ حياتهم المليئةِ بالخطر والعناءِ والمغامرة، فقد أحببتُ هذا المسلسلَ مثلما أحببتُ مسرحيّةَ الأخويْن رحباني، يعيش يعيش، التي تحكي قصّةَ مسؤولٍ هارب. أخبرتُ حاتم علي أنّ الجوّ الذي خلقه خلال الحوار الدائر بين عبد الرَّحمن وخادمِه بدر كان مليئًا بالسِّحر، حتَّى حفظتُه. وفي المشهد يذهب بدر إلى الأمير فيراه واقفًا ينظرُ إلى السماء المدلهمَّة فيسأله:

- أيُّ النُّجومِ أحبُّ إليكَ يا مولاي؟

- نجمي هو نجمُ سهيْل يا بدر. أنظرْ إليه كيف يلمع. إنَّه يظهر فيختفي كرفَّة جفن؛ فهو لا يمنحُك ولا يمنعُك، بل يبقيكَ على شوقٍ وترقُّب. تريد أن تُثبِّتَه لتتمعَّنَ فيه، فيأبى.

هنا تضافرتْ عناصرُ التمثيل والتصوير الفنّيّ والخيالِ لتوصِلَ إلينا ما هو أبعدُ من كلمات صقر قريش؛ عنيْتُ: جماليَّةَ التراث الأدبيّ العربيّ. ولقد تركتْ هذه الصورةُ في نفسي أثرًا جميلًا لأنّ سهيلًا كان الصديقَ الأحبَّ إلى قلبي، وكان مِثْلي يعشق الأدبَ واستكشافَ مثل هذه الجماليّات. أمّا تجسيدُ حاتم علي، وكاتبِ حوارات هذا المسلسل، لشخصيّة بدر، فقد خلق لها أبعادًا مهمّةً. وحين سألتُه عن المصادر التاريخيّة لهذه الشخصيّة، قال إنَّهم عثروا على جملةٍ واحدةٍ عنه وهي "وكان معه خادمُه بدر،" رغم دوْر بدر المهمّ في إنقاذ الأمير من المُلاحقات والمكائد في رحلة الهروب الطويلة والشاقّة. وقد أصرَّ حاتم علي على الانحياز إلى هؤلاء المهمَّشين في المصادر التاريخيّة، كالخدم والمعاونين والجواري، لأنّه كان يدرك بعين العقل أنّهم لعبوا أدوارًا رئيسةً في صنع التاريخ؛ إذ كيف كان لعبد الرَّحمن، مثلًا، أن يهربَ وينجوَ من براثن العبّاسيّين لولا مساعدةُ بدر؟ إلى جانب ذلك أضاف المسلسلُ شخصيّاتٍ خياليّةً مثل زينب، المرأةِ الفقيرةِ التي أحبَّها بدر، وخبَّأت الأميرَ في بيتها، ثمّ ألبستْه زيًّا نسائيًّا ليتمكّنَ من عبور حاجز التفتيش العبّاسيّ. وقد انعكس تصويرُ التاريخ "من الهامش" و"من الأسفل" في عدَّة أعمالٍ لحاتم علي، الذي أبدى اهتمامًا خاصًّا بوضع الكاميرا أمام ممثلّاتٍ وممثّلين عن الفئات الشعبيّة.

حين كنّا نبحث في حيثيّات الحوار الذي سنقوم به في جامعة ماكغيل، لمستُ رغبةً قويَّةً لديه في البحث عن علاقة الفنّ بالموروث التاريخيّ، وكان متشوِّقًا إلى تبادل الآراء مع طلّاب التاريخ وأساتذةِ التاريخ. ولقد أشّرتْ مداخلاتُه في التاريخ الاجتماعيّ، وفي كيفيّة كتابته وتصويره، إلى عمق تجاربه وسَعةِ اطّلاعه، مع أنّه لم يتخصّصْ في دراسة التاريخ ولا في أنماطِ كتابته.

قبل أن أجري الحوار الذي اتّفقنا عليه، شاهدتُ مسلسلَه الذائعَ الصِّيت، التغريبة الفلسطينيّة، لأوّل مرّة. كنتُ أؤجّل مشاهدتَه، بل مواجهتَه، هربًا من الحزن الذي يصيب المرءَ حين يرى فلسطين من عيون أهلها في مخيّمات تلِّ الزعتر وصبرا وشاتيلا. انبهرتُ بالأدوار والقصّة ومستوى التمثيل، وشعرتُ بدفء الكاميرا التي تتلوَّن بأحداث النكبة والثورةِ ومشاعرِ الحبّ. قدّم إلينا حاتم علي الفلسطينيَّ إنسانًا يصارع لأجل الحياة، يحبُّ، ويدرسُ، ويعملُ، ويساعدُ أهله، ويغضبُ منهم، ويثور، فابتعدَ بنا عن الصُّورة النمطيَّة. جعلني حاتم علي أتمنّى لو كنتُ مع أبي صالح وعلي ورشدي وحسن، أو أجلسُ على هضبةٍ من هضاب فلسطين أراقب غروبَ الشمس، أو أكمنُ خلف أجباب الوزّال للانقضاض على دوريّةٍ للجيش البريطانيّ. حبستُ دموعي مرّاتٍ عديدةً لِما حلَّ بشعبنا الفلسطينيّ، ولقصص الحبّ التي لم تكتملْ. حبستُ دموعي لثلاثين حلقةً. وحين أخبرني الرَّفيق طنّوس بأنّ حاتم علي مات، بكيتُ بدموع التَّغريبة المحرقة، وبدموع المحبّة والتقدير لشخصه وأعماله. كان لِخبر موته وقعُ الاغتيال، كموتٍ حكى عنه الشاعر أنسي الحاج وقرأتُ عنه في مقالةٍ للصَّديق جمال جبران.

دعوتُ الأستاذ عمّار عبد العزيز إلى مساعدتي في إدارة الحوار. لم يُمانعْ حاتم علي، لكنَّه أوصى بألّا يكونَ الحوارُ "إذاعيًّا،" بل أن يغوصَ في مسائل كتابة التاريخ وتصويره، وأن يكون بمثابة مساهمةٍ أكاديميّة. وجَّهتُ الدعوة عبر الإيميل إلى أكثر من ثلاثمائة إنسان عربيّ مقيم في مونريال من أجل المشاركة في هذه المناسبة التي دامت ساعتين. ولقد تخوَّفتُ من أن تَقْسم المأساةُ السوريَّةُ جمهورَ هذه الأمسية، أو يطغى السوريّون واللبنانيّون على الحضور. وكنتُ على خطأ في الحالتين؛ فقد استقطبت المحاضرةُ العراقيّين والتونسيّين وغيرَهم. فوجئنا بالعدد الكبير الذي حَضَرَ الحوارَ حتَّى اكتظّت المداخلُ والأدراجُ بالحضور، الذي وجَّه إليه أسئلةً كثيرةً لم نتمكّن من طرحها كلِّها.

***

الحوار

بعد تقديم الأستاذ حاتم علي والأستاذ عمّار عبد العزيز، طرح الأستاذ علي المقدّمة الآتية:

كنتُ مقيمًا لفترةٍ قصيرةٍ في مصر. وكان المهتمّون يسألونني: "متى سنرى لكَ مسلسلًا دينيًّا؟" كنتُ أقرأ في الصحافة دائمًا تعبير "المسلسل الدينيّ." في الحقيقة ليس كلُّ مسلسلٍ تاريخيّ مسلسلًا دينيًّا، وأستطيع أن أتجرّأَ وأقولَ انْ ليس كلُّ مسلسلٍ دينيّ مسلسلًا تاريخيًّا. الدراما التاريخيّةُ العربيّة، والمصريّةُ بشكلٍ خاصّ، اهتمّت بشخصيّاتٍ مُجْمَعٍ عليها، غيرِ مثيرةٍ للجدل؛ وكلُّنا نتذكّر مسلسلاتٍ عن عمر بن عبد العزيز، والإمام الترمزي، والإمام الشافعي، ومسلسلاتٍ أخرى من هذا النوع. وكانت هذة الأعمالُ بمثابة وعظٍ، وتَحْمل رسائلَ مباشرةً يتابعها المشاهدُ باطمئنان، بغضّ النظر طبعًا عن بساطة إنتاجها وهشاشةِ شكلها الفنّيّ.

لكنْ عندما انتقل مشعلُ المسلسل التاريخيّ من المصريّين إلى السوريّين تغيّر الوضع. الدراما التاريخيّة السوريّة نَحَتْ نحو إثارة الجدل عبر تناول شخصيّاتٍ لم يَحْسم التاريخُ كلمتَه فيها. في هذه الدراما أصبحتْ هذه الشخصيّاتُ قابلةً للنقد، بمعنى أنّه لم يعد يمكن اعتبارُها مرجعًا مقدّسًا -- بدءًا بمسلسل صلاح الدين وانتهاءً بمسلسل عمر، كما بالتاريخ الحديث مع مسلسل التغريبة الفلسطينيّة ومسلسل الملك فاروق.

أحببتُ أن أبدأ من هذا المنطلق لمحاولة فهم ماذا يعني "المسلسل التاريخيّ." فأنا لا أميل إلى اعتباره مسلسلًا دينيًّا، وإنْ قَدّم أو ناقش فتراتٍ وشخصيّاتٍ ذاتَ طابعٍ إسلاميّ. أعتقد أنّ هذا التداخلَ بين التاريخ والدين هو إحدى المعضلات التي تواجهُنا كصنّاع عملٍ فنّيّ. الشخصيّات التاريخيّة استمدّتْ قداستَها باعتبارها جزءًا من التاريخ الإسلاميّ، فوجد الكاتبُ والمخرجُ نفسَيْهما وهما يتعاملان مع تلك الشخصيّات بحذرٍ ذي أشكالٍ ودرجاتٍ مختلفة، تبعًا لطبيعة الشخصيّة وقربِها من الفترات الإسلاميّة الأولى: فهما أكثرُ تبسّطًا وحرّيّةً عندما يقارِبان شخصيّاتٍ تاريخيّةً تنتمي إلى العامّة، كشخصيّة بدر، خادمِ صقر قريش؛ لكنّ هذه الحريّة كانت أقلَّ كثيرًا عندما قدّمنا شخصيّةَ الخليفة عمر بن الخطّاب، إذ كنّا كمن يمشي في حقل ألغام، وكنّا نحتاج الى روافعَ واستشاراتٍ دينيّة، مع إيماني بأنْ لا وصايةَ على الفكر.

 

حتى تاريخ صناعة مسلسل"عمر" كان إظهارُ الخلفاء الراشدين الأربعة أمرًا محظورًا

 

* عبد العزيز: لكنْ هناك أكثرُ من مؤسّسةٍ دينيّةٍ في الوطن العربيّ. فإلى أيٍّ منها تلجأ عادةً؟ توجُّهُ المؤسّسات الدينيّة في السعوديّة غيرُ توجُّه مثيلاتها في لبنان أو سوريا مثلًا.

- الحقيقة أنّي كنت أتحدّث عن مسلسل عمر. فحتى تاريخ صناعة هذا المسلسل كان إظهارُ الخلفاء الراشدين الأربعة أمرًا محظورًا. لكنْ في لحظةٍ تاريخيّةٍ معيّنة، تجرّأتْ جهةٌ إنتاجيّةٌ على مقاربة هذه الشخصيّات. كان هذا مفاجئًا لي ولمِؤلّف العمل، الدكتور وليد سيف، لأنّنا كنّا نعتقد أنّ هذا أمرٌ شبهُ مستحيل في الوطن العربيّ. وكنتُ، حتى لحظة العرض، غيرَ متأكّد من أنّنا سنتجرّأ على عرض مثل هذا المسلسل، أو أنّنا سنجد منصّةَ عرضٍ جماهيريّةً قادرةً على عرضه. رحلة التصوير نفسُها كان لا بدّ من أن تمرَّ على مؤسّساتٍ دينيّة. حاولتْ جهةُ الإنتاج التواصلَ مع هذه المؤسّسات، وعلى رأسها الأزهر. وكان الأزهر، في ما مضى، قد أصدر فتوى بتحريم عرض شخصيّات الخلفاء الراشدين، بل الصحابة والعشرة المبَشِّرين بالجنّة أيضًا. هذا التحريم أقصى، مع الأسف، واحدًا من أفضل الأفلام السينمائيّة التي عرفها العالمُ؛ وأقصد فيلم الرسالة للمرحوم المخرج السوريّ مصطفى العقّاد (1930-2005). ويبدو أنّ الأزهر ما زال حتى هذه اللحظة يتشبّث بفتواه بعدم الاقتراب من هذه الشخصيّات.

والحقيقة أنّه جرت الاستعانةُ بلجنةٍ كان على رأسها القرضاوي، وجمعتْ علماءَ مثلَ الدكاترة سلمان العودة وعبد الوهاب الطريري وعلي صلابي وسعد العتيبي وأكرم العمري لمراجعة النصّ. فحصل انقسامٌ كبيرٌ، ضمن اللجنة نفسها، على ظهور الخلفاء. وبعد سلسلة اجتماعات، صدرتْ توصية، كُتبتْ على غلاف النصوص التي جرى توزيعُها على الممثّلين والمشاركين والفنّيّين، وتقول ما معناه: يراعَى في التصوير أخذُ لقطات واسعةٍ وعامّة، وعدمُ إظهار وجوه الشخصيّات الرئيسة (الخلفاء)؛ وإذا اضطرّ المخرجُ إلى إظهارها فيُطلب وضعُ هالةٍ بيضاءَ أو نورانيّةٍ على الوجوه.

إضافةً إلى ذلك اضطُررنا أحيانًا إلى تغيير عنوان العمل. هكذا صُوِّر المسلسلُ في المغرب مثلًا تحت اسم بيوت في مكة (المعروف أنّ فيلم الرسالة تعرَّض إلى الكثير من الإشكالات والمضايقات حتى بعد تصوير جزءٍ كبيرٍ منه في المغرب، ثم أوقِف وانتقل إلى ليبيا).

رحلة إقناع المؤسّسات الدينيّة بعرض المسلسل كانت طويلة. صنّاعُ العمل ذهبوا إلى الأزهر، وعُقد اجتماعٌ مع شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، لكنه أصرَّ على موقفه مع الأسف. مفتي السعوديّة ورئيسُ هيئة كبار العلماء، عبد العزيز آل الشيخ، حرّم إظهارَ الصحابة في المسلسل، وهاجم صانعيه. إمامُ وخطيبُ مجلس الحرام، الشيخ صالح بن حميد، هاجم المسلسلَ هو أيضًا، وأقرّ بحرمة تمثيل هذه الشخصيّات. وكان هذا رأيَ جميع أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة. وتبنّى ذلك د. أحمد الريسوني من جامعة الرباط، ود. حسين حامد حسّان رئيسُ مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا وعضوُ المجلس الدوليّ للإفتاء. لكنْ لأسباب كثيرة تمّت المغامرةُ بعرضه، وتنادى كثيرون لتوقيع عرائض تَمْنع عرضَه، وحصلتْ بعض المظاهرات الصغيرة أمام مبنى MBC في السعوديّة. لكنّ طريقة تناول هذه الشخصيّات، وشكلَ الإنتاج، والتوازنَ الذي حقّقه الدكتور وليد سيف في مقاربة هذه الشخصيّات؛ كلُّ ذلك غيّر إلى حدٍّ ما آراءَ الكثير من المشاهدين، وجعلهم يترّيثون في إصدار حكمٍ على العمل إلى ما بعد انتهاء عرضه.

أعتقد أنّ هذه كانت تجربةً مهمّةً وضروريّة جدًّا؛ ذلك أنّ تهميشَ هذه الشخصيات دراميًّا هو، في رأيي، شكلٌ من أشكال تهميشها في الواقع وفي التاريخ أيضًا. إلى وقت قريب، كانت المسلسلاتُ التاريخيّة تكتفي بأن تروي عن شخصيّة الرسول نفسه، أو عن العَشرة المبشِّرين بالجنّة، أو عن الصحابة، أو تشير إليهم بفعلٍ غائب ("قال..." و"يقول...")، بما يعطي الانطباع أنّ هؤلاء بعيدون عن مركز الفعل نفسه. وبهذا جرى تطويرُ شخصيّات ثانية على حساب الشخصيّات الرئيسة؛ وهذا ما قصدتُه بالقول إنّ التهميش الدراميّ سيؤدّي بطبيعة الحال إلى التهميش التاريخيّ.

* عبد العزيز: تقع المسلسلات الدراميّة في أخطاء تاريخيّة أحيانًا. كيف يمكن أن نتجاوزَ هذه الأغلاط في المسلسلات التاريخيّة؟

- الموضوع أعمق من ذلك. إحدى الذرائع التي يستند اليها معارضو ظهور الشخصيّات ذاتِ القداسة أو الأهمّيّةِ التاريخيّة هي مثلُ هذه المغالطات التي يمكن أن يقع فيها صنّاعُ العمل عن جهلٍ أو قصد. لكنّنا نتناسى مثلًا أنّ هذا الأمر قد يحدث في الكُتب نفسِها. فالدراسات التي تتناول التاريخَ والاسلامَ مثلًا ليست في منجًى عن أهواء المؤرّخين، فلماذا نهاجم الأعمالَ الفنّيّةَ ونتناسى الكِتاب الذي يمكن أن يقع في الخطأ؟ المسلسل التاريخيّ ليس التاريخَ نفسه، بل وجهةُ نظر صنّاع العمل الفنّيّ في هذه الحادثة التاريخيّة.

بغداد [سنة 2003] سقطتْ على الهواء مباشرةً في زمن وسائل الاتصال والبثّ الفضائيّ. كنّا نراها وهي تسقط، وكلُّنا نتّفق على لحظة هذا السقوط. ومع ذلك فلكلٍّ منا روايتُه الخاصّة؛ فما بالُكَ في أحداثٍ وقعتْ منذ مئات أو آلاف السنين؟! أعتقد أنّه يجب أن يوضَع تحذيرٌ في كلّ مسلسلٍ تلفزيونيّ يفيد بأنّ ما يراه المشاهدون ليس التاريخَ، بل هو وجهةُ نظر صنّاع هذا العمل في هذا التاريخ.

ثم هناك الرقابات العربيّة. وهي رقابات متعدّدة ومتنوّعة، وليست محصورةً بالرقابات الرسميّة التابعة لوزارات الإعلام. فالرقابات الدينيّة والاجتماعيّة قد تكون أكثرَ تشدّدًا من الرقابات الرسميّة. من غير المسموح مثلًا أن تشكّك في أيّ شخصيّةٍ متَّفقٍ على تصنيفها، سلبًا أو إيجابًا، لأنّك سرعان ما تُرمى بتهمٍ طائفيّةٍ أو إلحاديّة. فهل من المسموح مثلًا، في مسلسل عمر، أن تكتشفَ فضيلةً واحدةً من فضائل مُسيْلمة الكذّاب؟ كلّا بالتأكيد، بل يجب أن تقدّمَه على أنّه شخصٌ كاذب. لكنّك تسأل نفسَك: كيف يمكن أن يصدّقَه أناسٌ كانوا جلُّهم مسلمين قبل أن يرتدّوا ويؤمنوا به؟! إذًا مسيلمة ليس كاذبًا وغبيًّا كما تصوِّرُه مسلسلاتُنا. المؤلِّف الدراميّ الجيّد يحتاج إلى ذلك [التصوير المركّب] لأنّ شخصيّات الدراما هي شخصيّاتٌ من الحياة ولا يمكن أن تقسِّمها إلى أبيض وأسود، وشرّيرٍ وخيّر. هل يمكن مثلًا أن نعيدَ النظرَ في شخصيّة طارق بن زياد؟ هل قال خطابَه الشهير أو أحرق سفنَه فعلًا؟ هل الملكة بلقيس كانت حقًّا موجودةً، أمْ أنّها مجرّدُ وهم؟ أسئلة كثيرة، لكنّ مقاربتها أمرٌ غايةٌ في الصعوبة في بلداننا العربيّة، في حين أنّه متاحٌ وسهلٌ جدًّا في بلدانٍ أخرى كالبلد الذي نحن فيه الآن [كندا].

* عبد العزيز: لا أعرف إذا كان المثالُ الآتي ينطبق على ما تقوله. المغوار فارس وفي شخصيّةٌ انطبعتْ في رؤوسنا بالبطولة والشهامة، لكنّه في مسلسل الزير سالم تغيّر في كثيرٍ من الأماكن: فهو أحبّ امرأةَ أخيه، وهو سلّم رفيقَ عمره امرأ القيْس،...

- صحيح. الحقيقة أنّ مسلسل الزير سالم سيقودُنا إلى أن نتحدّثَ عن الفرق بين التاريخ والسيرةِ الشعبيّة. فهو مسلسل يستند إلى سيرة شعبيّة شهيرة، يقال لها في بلادنا "المجراوية،" وهي اختصارٌ لِما جرى. الزير سالم حكاية تُقال عادةً في المقاهي الشعبيّة في الأرياف، في بلاد الشام تحديدًا، ولها أصولٌ تاريخيّةٌ بالتأكيد، لكنّ المخيالَ الشعبيّ - عبر سنوات طويلة من الرواية - طوّر هذه الحكاية، إلى أن افترقتْ في الكثير من مفاصلها الرئيسة عن التاريخ. وهذا، أساسًا، جوهرُ السيرة الشعبيّة، التي لا تُعنى كثيرًا بالتاريخ كحوادث، ولا بتسلسل هذه الحوادث ضمن منطقٍ تاريخيّ، لكنّها تُعنى بإظهار دور العامّة في صناعة هذا التاريخ.

 

 "الزير سالم" يقودُنا إلى أن نتحدّث عن الفرق بين التاريخ والسيرةِ الشعبيّة

 

الحكواتي الذي كان يَفتح كتابًا ويقرأ الزير سالم، وسيرةَ عنترة وعبلة، وسيرةَ أبي زيد الهلالي، انقرض مع بدايات القرن العشرين، فاسحًا المجالَ اليومَ لـ"حكواتيّ" جديد، هو التلفزيون، ولسردٍ جديدٍ لهذه الحكايات أو السِّيَر عبر صناعةٍ جديدةٍ متطوّرة، هي المسلسلُ التلفزيونيّ. هذا الأخير هو الآخرُ يروي الحكايةَ على دفعات، ثم يَقْطعها كلَّ مرّةٍ في لحظة الذروة بقصد تشويق المشاهدين لمتابعته في ليلةٍ قادمة، تمامًا كما كان يفعل الحكواتيُّ في المقاهي الشعبيّة.

الزير سالم كان حكايةً تقع في منتصف الطريق ما بين التـأريخ والسيرة. وللتأكيد على ذلك تمّت الاستعانةُ بصوتِ واحدٍ من أهمّ فنّانينا السوريين، واسمُه التصق أيضًا بدور الحكواتيّ، وهو المرحوم تيسير السعدي. وكانت هناك أيضًا محاولةٌ لعرض مجموعةٍ من الرسوم التاريخيّة في بداية الحلقة، وأحيانًا في بعض الفواصل، لفنّانٍ شعبيّ جدًّا، وهو أبو صبحي التيناوي الذي لم يغادرْ مسقطَ رأسه دمشق طوال حياته، ولم يتودّدْ إلى وسائل الإعلام، ولا طلبَ الشهرةَ، إلّا أنّه نال الكثيرَ من الاهتمام والاحتفاء خارج دمشق، ومات للأسف وحيدًا فيها من دون أيّ اهتمامٍ رسميّ. كان أبو صبحي يوقّع لوحاتِه، التي كانت في معظمها مستندةً إلى السيرة الشعبيّة، بعبارةٍ واحدة: "الرسّام أبو صبحي التيناوي، باب الجابية، دمشق، زاوية الهنود، سوريا."

الزير سالم أثار الكثيرَ من الجدل آنذاك، انطلاقًا من النقطة التي ذكرها عمّار [عبد العزيز]، وهي أنّ الخيالَ الشعبيّ صَوّر الزير سالم بطلًا لا يُشقُّ له غبار، فجاء هذا المسلسلُ وحاول أن يُنْزلَه من عليائه وأن "يضعَ قدميْه مرّةً أخرى على الأرض" وأن يتعاملَ معه كشخصيّةٍ دراميّةٍ من لحمٍ ودم: يَضعف كثيرًا، ويضطرّ إلى أن يشيَ بصديقه، ويبيع ابنتَه في آخر حياته، ثم يُقتل على يد شخصيْن وضيعيْن في صحراء مجهولة. كلُّ هذه المعلومات خالفت المخيالَ الشعبيَّ واقتربتْ كثيرًا من التاريخ نفسه. الكاتب ممدوح عدوان بذل مجهودًا كبيرًا كي يعيدَ هذه السيرةَ الشعبية ويُخلّصَها من الكثير من المبالغات والأوهام.

* سؤال من الجمهور: هل أخذتَ موضوعَ هذا المسلسل بصورته الجديدة من عبد الرحمن آغا؟

- كلّا. نحن نتحدث عن سيرة الزير سالم التي هي سيرة شعبيّة، أمّا المسلسل الذي أقصده فهو مسلسلٌ معاصر. الموضوع مختلف جدًّا.

* عبد العزيز: المهمَّشون في التاريخ كثر، وأنت أظهرتَهم في مسلسلاتك على أنّهم جزءٌ منه لا يجوز إغفالُه. أهمُّهم خادمُ صقر قريش، وأقاربُ صلاح الدين مثلًا. لماذا اهتممتَ بهذه الشخصيّات التي لم يُظهرْها أحدٌ من قبل؟ وعلى أيّ مَراجع اعتمدتَ من أجل الوصول إلى تفاصيلهم؟

- المؤلّف عادةً يهاب الشخصيّاتِ المكرَّسة، أو التي لها قداستُها الدينيّة أو مكانتُها التاريخيّة، فيلجأ إلى اختراع شخصيّاتٍ من العامّة، ويجد نفسَه أكثرَ حرّيّةً في مقاربتها، ويعمد إلى تطويرها أحيانًا كي تحملَ رسائلَه، فتكاد أن توازيَ في أهمّيّتها الشخصيّاتِ التاريخيّةَ الرئيسة.

إذا كنتَ تشير إلى صقر قريش تحديدًا، فإنّ كاتبَ هذا المسلسل، وليد سيف، هو أحدُ مَن درسوا التاريخَ بعمقٍ شديد، إضافةً إلى أنّه كاتبٌ متميّز. هو، كما أنا، نحاول مقاربةَ التاريخ من زوايا مغايرة، بمعنى أنّنا نحاول الابتعادَ عن الرواية الرسميّة المكرَّسة. مع الأسف، إلى زمنٍ قريب، كانت معظمُ روايات المسلسلات تذهب إلى التاريخ بحثًا عن الصفحات المضيئة فيه. وأعتقد أنّ هذا، في أحيانٍ كثيرة، قد يُغذّي نزعةَ التطرّف لدى المتفرّج لأنّه يقدم إليه ماضيًا مشرقًا مليئًا بالانتصارات، في مقابل حاضرٍ - يعيشه المتفرِّج - مهزومٍ ومليءٍ بالانكسارات. لكنّ الأمر لم يكن كذلك على الدوام، وإلّا لَما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

العودة إلى التاريخ يجب ألّا تكونَ لذلك الغرض "الدعائيّ." يجب أن نقاربَ أكثرَ الفترات الشائكة لأني أعتقد أنّها، هي تحديدًا، قد أرخت بظلالها على واقعنا المعاصر. عبد الرحمن بن معاوية، على سبيل المثال، أميرٌ من أحفاد هشام عبد الملك، ترك بلادَ الشام باتجاه المغرب هربًا من بني العبّاس، وكان إلى جانبه خادمُه الذي لم يُذكرْ في التاريخ سوى بجملةٍ واحدة: "وكان معه خادمُه بدر." أربعُ كلمات، لا خامسَ لها، عن بدر! لكنّه في مسلسل صقر قريش نازع البطلَ الرئيسَ في أهمّيّته الدراميّة، ومن ثمّ في أهمّيّته التاريخيّة. هذه المساحة [المفرَدة لبدر] كانت في الحقيقة من بنات أفكار الكاتب وليد سيف. نَعرف أنّ عبد الرحمن عندما استقرّ في المغرب أرسل بدرًا كي يُمهِّدَ له الطريقَ في الأندلس. وبعد رحلة سنواتٍ طويلةٍ عانَيا فيها الصعابَ، واختبآ في الكهوف، وخاضا الأنهارَ، واصطادا الثعابين، وسكنا في أحقر المنازل، تمكّن صقرُ قريش من حكم الأندلس وأنشأ فيها دولةً، فرقّى بدرًا وأسندَ إليه الوزارة. إلّا أنّ بدرًا "أسرف في التبسّط مع الأمير" كما تُخبرنا المَراجع، وأكثرَ من تذكيره بما بذله من أجله في محنته. فاضطُرَّ عبد الرحمن إلى معاقبته وسلبِه نعمتَه، ونفاه، إلى أن توفّي وصار عبرةً للناس. هذه الرواية هي روايةُ مؤرِّخ السلطان، مؤرِّخ عبد الرحمن بن معاوية. لكنّ بدرًا في المسلسل صوتُ مَن لا صوتَ لهم؛ هو المظلومُ عادةً، أو الطرفُ الذي لا يُذكَر عندما يَكتب المؤرِّخون السِّيَر. وجلُّ ما وصلنا هو التاريخُ الرسميّ، أيْ تاريخُ الحكّام. أمّا تاريخُ الناس فيكتبه عادةً الكاتبُ المتمكّن، وهو ما يقارب المنتوجَ الفنّيّ الجيّد.

 

في مسلسل صقر قريش نازع "الخادم بدر" البطلَ الرئيسَ في أهمّيّته الدراميّة

 

* سؤال من الجمهور: هل للإنتاج تأثيرٌ في المسلسلات؟

- سبق أن حكيتُ عن الرقابات الرسميّة التي هي وزاراتُ الإعلام، وعن الرقابة الاجتماعيّة التي هي رقابةُ المُتفرِّج نفسِه. في بلادنا، ليس بمقدورك، لا ككاتبٍ ولا كمُخرج، أن تقولَ ما تريدُه تمامًا. لكنّ الصراعَ موجود على الدوام بين الإبداع والمؤسّسة الرسميّة - أكانت مؤسّسةَ إنتاج أمْ مؤسّسةَ رقابة سياسيّة أمْ مؤسّسةً دينيّة. كلُّ مسيرة الإبداع هي نتاجُ مثل هذا الصراع.

دعني أضرب لك مثلاً. مسلسل الملك فاروق من إنتاج MBC. عندما أرسلتْ إليّ هذه الشركة النصَّ، كان من تأليف كاتبٍ مصريّ كبير هو محفوظ عبد الرحمن، وكان قد كتب ثلاثَ حلقاتٍ من هذا المسلسل. ومحفوظ عبد الرحمن ذو هوًى ناصريّ وقوميّ إلى حدودٍ كبيرة، ولا مشكلة لديّ مع هذا بطبيعة الحال، لكنّ مقاربتَه للملك فاروق كانت تتماشى مع الرواية الرسميّة المعروفة التي أرستها ثورةُ الضبّاط الأحرار في مصر لغاياتٍ سياسيّةٍ وإيديولوجيّة. وبالصدفة كان لديّ 15 حلقةً من نصٍّ جرى تصويرُه لكاتبةٍ هي د. لميس جابر، التي كنتُ أُحضِّر معها فيلمًا عن محمّد علي في مصر، وتعّذرَ إنتاجُه فيما بعد، فحمّلتْني الحلقاتِ التي كانت كَتَبتْها على ورق، وتركتُها في البيت في دمشق. وعندما طُرح مشروعُ المسلسل عن الملك فاروق قرأتُ ما كتبتْه جابر ووجدتُ فيه غايتي. فالمسلسل يحاول أن يعيدَ قراءةَ الشخصيّة والتاريخ في معزلٍ عن "الإيديولوجيا." قلتُ لهذه الشركة: "هذا هو المسلسل، وهذه زاويةُ الرؤية التي أودُّ طرحَها." فوافقت الشركة. وقد تابَعَت المؤلّفةُ كتابةَ المسلسل، وكنّا في الوقت نفسه نُصوِّر؛ أيْ لم يكن هناك وقت حتى تطّلِعَ جهةُ الإنتاج على الحلقات التالية. ومن ثمّ فإنّ مَن يتحمّل نتيجةَ العمل هو المؤلِّفة والمُخرج. وهذا بطبيعة الحال استثناء.

فيما بعد اكتشفتُ أنّ المنتِج كان كلُّ همِّه من هذا المشروع أن يقدِّم عملًا فيه ملابسُ جميلة وقصورٌ فخمة، فكان لا بدّ من أن يقدّمَ قصرَ الملك فاروق والأميرات وإلى ما هنالك. وفي ما بعد، اتُّهم المسلسل، على اعتبار أنّه من إنتاج MBC، بتجميل عصر المَلَكيّة -- وهذا غيرُ صحيح، ولم يكن مطروحًا آنذاك، لأنّ العلاقات بين السعوديّة ومصر كانت في أحسن أحوالها. وهذا الاتهام، في رأيي الشخصيّ، تبسيطٌ شديدٌ لمنطق الحكم وآليّاته؛ فجمهوريّاتُنا العربيّة في نهاية المطاف ليست أفضلَ حالًا [من المَلَكيّات]. ليست المسألة مسألةَ تسمية. فأنا لستُ ضدّ المَلَكيّة بالمطلق، ولا مع الجمهوريّة بالمطلق. أنا مع الجمهوريّة عندما تشبه الجمهوريّةَ في فرنسا، ومع المَلَكية عندما تكون مَلَكيّةً دستوريّةً تشبه المَلَكيّةَ في بريطانيا. أمّا النظام الجمهوريّ العربيّ، والنظام المَلَكيّ العربيّ، فكلاهما أسوأ من الآخر!

* سؤال من الجمهور: لماذا لا نخاطب المزاجَ السوريَّ الحاليّ الذي لا يميل كثيرًا إلى المسلسلات التاريخيّة والدينيّة؟ لماذا لا نخاطب الجمهورَ السوريّ بإضاءاتٍ على قرطاجة، وحضارةِ أوغاريت، وعلى الإنسان في أوغاريت الذي كتب "لا تشتمْ إلهًا لا تعبدُه"؟ أرى أنّ المتلقّي السوريّ بحاجةٍ إلى فنتازيا أكثرَ إنسانيّةً في اللحظة الحاليّة.

- يبدو أنّ ألمَكَ جعلكَ تبحث عن مكانٍ آخر، خارج العروبة، فعدتَ إلى تاريخ سوريا، فينيقيًّا وكنعانيًّا! لا أرى العودةَ إلى التاريخ، كما قلت، هروبًا من استحقاقات الواقع؛ فحين تقارب موضوعاتٍ تاريخيّةً فأنت تعاني المعاناةَ التي تعانيها حين تقارب موضوعاتٍ معاصرة، كأن تصطدمَ بالرقابة مثلًا. العودة إلى التاريخ هي أيضًا محاولةٌ لقراءة الحدث المعاصر قراءةً أكثرَ عمقًا، لأنّ كلَّ ما نعانيه في منطقتنا العربيّة اليوم جذورُه ممتدةٌ في التاريخ. كوارثنا العربيّة الكبرى هي من مشكلات الماضي التي لم تُحَلّ. الدراما، كما الرواية والبحث الفكريّ أو الأدبيّ، جزء من مقاربة هذه المشكلات. وما لم نواجهْ هذه المشكلات فأنّ مرضَنا سوف يطول.

* هل يمكن القول إنّ الإسلام الشيعيّ أكثرُ جرأةً على طرح موضوع القداسة من الإسلام السنّيّ؟

- لا أعتقد ذلك. الإسلام الشيعيّ مثلًا يحرِّم إظهارَ الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب، بينما يتسامح في إظهار شخصيّات الخلفاء الثلاثة الباقين، بل قد يعمد إلى تشويههم أحيانًا. الفكر الشيعيّ يُحَرِّم، حتى الآن، ظهورَ الأئمّة الإثنيْ عشر. النبيّ محمّد لم يظهرْ في الفيلم الذي أخرجه مجيد المجيدي منذ سنتيْن في إيران، وتوفّرتْ طاقاتٌ إنتاجيّةٌ كبيرةٌ جدًّا له قاربتْ مئةَ مليون دولار أو تزيد. ثم إنّ هذا الفيلم تَعَرّضَ لطفولة النبيّ، وكانت الفتوى أنْ لا قداسةَ لمحمّد ما لم يُبَلّغِ الدعوةَ أو الرسالة، ومع ذلك لم تظهرْ صورةُ وجهه حتّى وهو طفل!

الخليفة عمر نفسُه قبل أن يصبحَ مسلمًا ويؤمنَ بالدعوة، قال: "كنتُ أشربُ بالكبير وغيري يشرب بالصغير،" بمعنى أنّه كان يتناول الخمرَ في إناءٍ كبير. كانت هناك مَشاهدُ في الحلقة الأولى من مسلسل عمر تُظْهر الخليفةَ عمر وهو يتناول الخمر. اللجنة [الشرعيّة] قفزتْ عن كراسيها: "كفْر! كيف يشرب الخمر؟ إحذفْ هذا المشهد!" قلنا لهم يا أساتذة يا كرام، في سبع حلقاتٍ من المسلسل صُوِّر عمر على أنّه لا يؤمن بالرسالة بل يحاربها ويحارب الرسولَ نفسَه، فأيُّهما أكبر: عدمُ الإيمان بالرسالة أمْ شربُ الخمر؟! ثم كيف يمْكنني، كمُخرج أو كاتب، أن أُظْهِر التطوّرَ الذي حصل على شخصيّته بعد إسلامه؟ رُفض الموضوع: كافر، مسلم، لن يشربَ الخمرَ، وكفى! فحُذف المشهد.

* سؤال من إحدى المشاهدات: رحلة نزع القداسة عن ذاكرة جيل الشباب من أين تبدأ، إذا كان الكاتبُ نفسُه يخاف على حياته، والمنتجُ على مالِه، والمُخرجُ على وجوده؟

- كثير من الدراما العربية قارب هذا الموضوع بحذرٍ أو ذكاءٍ أو جرأة؛ فهذا عائدٌ إلى صنّاع العمل أنفسِهم، وإلى قدرتِهم على التحايل على الرقابات، ومقاربتِهم مواضيعَ شائكةً من دون استفزاز. وهذه القدرة كانت موجودةً في الكثير من الأعمال التي كنتُ سعيدَ الحظّ بأنني كنتُ شريكًا فيها لكتّابٍ كبارٍ كوليد سيف، والمرحوم ممدوح عدوان، والدكتورة لميس جابر.

لأعترفْ بأنّ المكسبَ الأكبر في مسلسل عمر كان في تجسيد هذه الشخصيّات، بحيث تحوّلتْ إلى شخصيّاتٍ من لحم ودم، تشْبهنا، ومن ثمّ أصبحتْ قابلةً للنقاش والحوار. لستُ من النوع الصِّداميّ الذي يدعو إلى حمل المعاول وتكسير الشخصيّات التاريخيّة أو الرموز الدينيّة؛ فهذا فعلٌ راديكاليٌّ إلى حدودٍ كبيرة، وله محاذيرُ، وقد لا يؤدّي إلّا إلى فتح صراعٍ جديدٍ يضاف إلى الصراعات الكثيرة جدًّا في وطننا العربيّ، مثل الصراع بين الشيعة والسنّة. أنا مع طرح كلّ المسائل الممكن طرحُها للنقاش، لكنْ بذكاءٍ وجرأةٍ وبالتدريج. النقاش وحده كفيلٌ بأن يوصلَنا جميعًا إلى توافقاتٍ جديدة. الدراما صناعة، ومن ثمّ تحتاج إلى رأسمال، والرأسمالُ غالبًا ما يكون جبانًا. وتحتاج الدراما أيضًا إلى منصّاتِ عرْض، وهذه في وطننا العربيّ حكوميّةٌ في معظمها؛ أمّا المنصّات الخاصة فتأخذ تمويلَها بالسرّ ومن تحت الطاولة من حكوماتٍ محدّدة. هكذا يصبح من الصعب جدًّا أن تقولي جملتَكِ كاملةً. أعتقد أنّ التدريج قد يوسِّع، إلى قدرٍ ما، هامشَ الحرّيّة.

* سؤال من الجمهور: الشخصيّات في مسلسلاتك واقعيّة كثيرًا، كذلك أداءُ الممثّلين. كيف توجِّه الممثّلين قبل التصوير وخلاله؟

- أشكركَ لأنّكَ قلتَ فكرةً صحيحةً فعلًا. التمثيل في هذه المسلسلات تمثيلٌ "واقعيّ." وأعتقد أنّ هذا نابعٌ من الكتابة نفسِها، أيْ من مقاربة المؤلِّف للشخصيّات، وهي مقاربةٌ تحاول أن تجعل من هذه الشخصيات التاريخيّة بشرًا مثلنا، وبعدها يبني المُخرج طريقةَ تمثيلٍ تتوافق مع طرح الكاتب. فأحيانًا تجد صلاح الدين جالسًا على قارعة الطريق، أو في الحمّام، أو يمدِّد رجليْه على فراشه. هذا لم نكن نراه سابقًا، إذ غلب تأطيرُ الشخصيات وتنميطُها، وهذا يتبعه - بطبيعة الحال - تنميطٌ في الأداء كذلك. وأعتقد أنّ مقاربةَ الشخصيّات بطريقة جديدة ساهمتْ في أن يأخذ المسلسلُ التاريخيُّ السوريُّ صداه الكبيرَ في الوطن العربيّ، بعد أن كانت الدراما المصريّةُ هي المركزَ الأساسَ لهذه الصناعة.

* عبد العزيز: أنا متابعٌ جيّدٌ للمسلسلات السوريّة. أجد الممثّل مبدعًا ورائعًا في أدائه في 6 مسلسلات، ثم أجد أداءه هو نفسه ركيكًا في مسلسلاتٍ أخرى! أين العطلُ في رأيك كمُخرج؟

- مستوى أداء الممثّل عادةً، كما قلتُ، له علاقةٌ بالكتابة. لكنْ له علاقةٌ بالمخرج أيضًا، وبقدرة هذا المُخرج على التعاون مع الممثّل وأخذِه إلى مناطقَ أدائيّةٍ جديدة.

* سؤال من الجمهور: هل لديكَ مشروع عن المقاومة اللبنانيّة، وطليعتها المقاومة الإسلاميّة في لبنان؟ إنجازاتُها كبيرةٌ جدًّا، لكنّ الأدب العربيّ والفنّ العربيّ لم يهتمّا كثيرًا بهذه الإنجازات.

- لا مشروعَ لديّ في هذا الخصوص. قد تكون هناك مشاريعُ سوريّة قاربتْ هذا الموضوع، لكنّي غيرُ مطّلع عليها.

*وماذا عن مسلسل التغريبة الفلسطينيّة؟

- هذا موضوع مختلف لأنه لم يتحدّثْ عن المقاومة، بل انتهت أحداثُه مع بداية تشكّل المقاومة وصورة الفدائيّ. التغريبة الفلسطينيّة، في رأيي الشخصيّ، كانت مشروعًا استثنائيًّا. لماذا؟ كنتُ أتوقّع أن لا يساعدَني الحظُّ على إنجازه لأنّه لم يكن هناك أيُّ اهتمامٍ أصلًا من الناحية التسويقيّة بمثل هذه المواضيع. ثم توفّر، في لحظةٍ ما، منتِج، ولا أدري ما هي دوافعُه، لكنّه غامَرَ أمام إلحاحي وإلحاحِ المؤلّف الدكتور وليد سيف ووافق على إنجاز المسلسل. هذا المسلسل حاول أن يقاربَ القضيّةَ الفلسطينيّة من زاويةٍ مختلفةٍ عن كلّ المقاربات السابقة التي كانت تركِّز على تقديم الفلسطينيّ "سوبرمانًا" أو مقاومًا ومناضلًا فقط. كنتُ أدرك الاعتبارات وراء مثل هذا التناول، وهي عادةً ما تكون "تعبويّةً" إذا صحّ التعبير؛ وهذا أمرٌ طاول أيضًا الأدبَ الفلسطينيَّ عامّةً، ولم يَنْجُ منه إلّا أدباءُ كبارٌ تمتّعوا بعمقٍ إنسانيّ شديد كمحمود درويش وغسّان كنفاني. التغريبة الفلسطينيّة حاولتْ أن تقدِّمَ الفلسطينيّ ليس فقط كضحيّة، بل كجانٍ ارتكب الأخطاءَ كذلك. وهذه المقاربة، في اعتقادي، هي التي ميّزتْ هذا المسلسلَ وجعلتْه يعيد روايةَ الحكاية بعمقٍ إنسانيّ، من دون ادّعاءاتٍ وشعاراتٍ كبيرة. وهذا ما فتح أمام المسلسل أبوابَ العرض التي كنا نظنّ أنّها موصَدة.

 

"التغريبة" قارب القضيّةَ الفلسطينيّة من زاوية مختلفة عن تلك التي قدّمت الفلسطينيّ مناضلًا فقط

 

* عبد العزيز: أذكر أنّني زرتكم عندما كنتم تصوّرون هذا المسلسل، الذي ضمّ أكثرَ من أربعين نجمًا، وقلتم لي يومها إنّهم مثّلوا أفضلَ أدوارهم على الإطلاق. ما سرُّ هذا الأداء المتميّز؟

- لأنّنا، في النهاية، وبغضّ النظر إنْ كنّا لبنانيّين أو سوريّين أو أردنيّين، فإننا كعرب ننتمي إلى بلدنا وإلى فلسطين. أنا سوريّ وأيضًا فلسطينيّ. نحنا العرب لدينا جنسيّتان: جنسيّتُنا، والجنسيّةُ الفلسطينيّة. كان كلُّ ممثّلٍ يشعر بأنّه جزءٌ من عملٍ دراميّ ذي أبعادٍ تتخطّى هذا العمل. وأعتقد أنّ هذه الحماسة أو العاطفة أدّت إلى أن يقدّم كلُّ ممثّلٍ أفضلَ ما لديه.

* سؤال من الجمهور: ماذا حلّ برشدي في التغريبة الفلسطينيّة؟ لقد أوقفتَه على باب المغارة فلم يدخلْها ولم يغادرْها؟ أنا لم أنم ليلةَ مشاهدتي تلك الحلقة!

- رشدي في النهاية ورث بندقيّةَ أخيه، أبي صالح، الذي كان قائدًا في ثورة 1936 ثم نزح إلى المخيّم بعد فشل الثورة وفقد أرضَه ومصدرَ رزقه ومكانتَه الاجتماعيّة التي اكتسبها من خلال فعل هذه الثورة. لكنّه في النهاية أورث رشدي البندقيّةَ، فأخرجها هذا في نهاية المسلسل من الكهف ووقف على باب النفق. كان أمامَه ضوءٌ، أمل. البعض رأى في هذه النهاية تفاؤلًا أو دعايةً تبشيريّةً، لكنّ الحقيقة بعيدةٌ عن ذلك: إنّها انعكاسٌ لِما حدث على أرض الواقع. فآنذاك كان قد بدأ يتشكّل، فعلًا، ما يُسمّى "المقاومة،" وفيما بعد صورةُ "الفدائيّ" كما نعرفه. المسلسل يحاول أن يقارب التاريخ. لا يبشِّر، ولا يطرح شعارات، ولا يقفز فوق الواقع.

* سؤال من الجمهور: شاهدتُ مسلسل هارون الرشيد السوريّ، وكنتُ قد شاهدتُ مسلسل هارون الرشيد المصريّ، فوجدتُ أنّ في المسلسل السوريّ استهتارًا بذوقنا وبفكرنا، بينما كان المسلسلُ المصريّ أفضلَ من نواحٍ عديدة -- أكان ذلك في الحوار، أم التصوير واللهجة والفلسفةِ العميقة. ماذا يحدث في الدراما السوريّة؟

- ربّما يعود السببُ إلى الكاتب. مسلسل هارون الرشيد ليس مسلسلًا سوريًّا، بل أردنيّ، إنتاج أردنيّ، وإنْ كان فيه بعضُ الممثّلين السوريّين. لم أتابعْه ولا أعرف مَن كتبه، لكنْ بالتأكيد لا تُمْكن مقارنتُه بمسلسل هارون الرشيد المصريّ، الذي هو من كتابة أحد الكتّاب المصريّين المهمِّين والمتخصّصين في الكتابة التاريخيّة.

* سؤال من الجمهور: أشكركَ على نقطة محدّدة، وهي أنّك في مسلسلاتكَ عن الأندلس أضأتَ على زوايا من التاريخ في المغرب والجزائر وتونس أثناء العصور الوسطى. بدأتَ بفترة صقر قريش، وقرطبة، ثم ملوك الطوائف، وأبرزتَ العلاقةَ بين الشعوب، العرب والأمازيغ مع الموَحِّدين، وكيف حدثتْ حضارةٌ خاصّةٌ في قرطبة، ثم بدأ صراعٌ معروفٌ بين ملك غرناطة الأمازيغيّ والعرب. لكنّكَ توقّفتَ. لماذا لم يكن هناك مسلسلٌ رابع عن سقوط غرناطة؟

- أُسألُ هذا السؤالَ دائمًا، لكنْ لا جوابَ لديّ للأسف. غير أنّنا حين وصلنا إلى سقوط غرناطة أذكر أنّ د. وليد سيف كتب الحلقةَ الأولى، ثم يبدو أنّه لم تكن هناك حماسةٌ لمقاربة مثل هذا الموضوع. يبدو أنّ العرب، رغم سقوط عواصمهم الكثيرة، لا يريدون أن يروْا سقوطَ غرناطة! عهدُ ملوك الطوائف ليس صورةً ناصعةً [من تاريخنا]، غير أنّني لا أعود فقط إلى الصفحات الناصعة في كتب التاريخ؛ فهذه - في رأيي - عودةٌ دعائيّةٌ أكثر منها عودةً إلى مناقشة قضايا شائكةٍ وحقيقيّة. لكنْ، كما قلتُ سابقًا، الإنتاج التلفزيونيّ مرهونٌ دائمًا بمنصّات العرض. ويبدو أنّ الموضوع غيرُ مرغوب لِما يثيره من حساسيّاتٍ وشجن، أو أنّهم لا يريدون أن يروْا صورةَ انكسارٍ كبيرٍ بهذا الحجم.

* سؤال من الجمهور: بعد أن غزت بلادَنا داعش، أقول إننا كنّا في إسبانيا دواعشَ تحت مسمَّياتٍ أخرى!

- يا سيّدتي، سمّيها ما شئتِ! أنا في مسلسلي أسمّيها الأندلس لأنّ اسمَها آنذاك كان الأندلس. أمّا الآن فأنتِ حرّةٌ في أن تغيّري اسمَها. في مرحلة ملوك الطوائف، كانت الممالك تعاني ضعفًا كبيرًا. لكنْ في مرحلة المنصور بن أبي عامر ومعظمِ الزعامات الأخرى، كانت الممالكُ في قمّة ازدهارها مقارنةً بالممالك الإسلاميّة في العراق أو سوريا أو مصر، وكانت الدولةَ الأهمَّ والأكثرَ تحضّرًا في أوروبا الغربية. وكانت أيضًا جسرًا لتلاقٍ حضاريٍّ بين حضارةٍ سابقةٍ وحضارةٍ سوف تولد، بين الشرق والغرب. كانت منارةً للعلم، ولم يكن فيها دواعشُ على الإطلاق. كان هناك تقدّمٌ في علم الفلك والطبّ والترجمة والشعر والفنون والآدابِ والرقص والكيمياء والفيزياء. وكانت منارةً للتسامح، إذ كان فيها المسيحيُّ واليهوديُّ والمسلم... هذا التمازج هو ما أنشأ هذه الحضارةَ المتميّزةَ في تاريخ البشريّة.

* سؤال من الجمهور: أنا فلسطينيّة، وأبناءُ شعبي الفلسطينيّ شاكرون جدًّا لمسلسل التغريبة الفلسطينيّة. سؤالي: كيف تقدّم الدراما السوريّة الحدثَ السوريّ الراهن؟

- لا أعرف ما تقصدين. هناك أعمالٌ سينمائيّةٌ أو تلفزيونيّةٌ تعبِّر عن وجهة نظر صنّاعها، وتُصنع في الداخل أو الخارج، ولكلٍّ منهما هدفُه ووجهةُ نظره. ومن ثمّ لا أعرف كيف أجيبُكِ. بالتأكيد ستكون هناك رواياتٌ مختلفة للحدث السوريّ، تمامًا كما نختلف في الأفكار، وسوف ينعكس هذا الاختلافُ في الأعمال نفسها. الحقيقة أنّ الصراع ليس فقط صراعًا عسكريًّا، بل هو صراعُ سرديّاتٍ وروايات.

* سؤال من الجمهور: حين كانت الدراما التاريخيّة تتناول الجوانبَ المضيئة، كانت تصطدم بالواقع المهزوم الذي نعيشُه اليوم. وحين كانت تتناول الجوانبَ السلبيّةَ والإشكاليّات، كانت تصطدم بالرقابة الدينيّة والرسميّة. لذلك لم تستطع هذه الدراما التاريخيّة أن تنتج عملًا ذا فائدةٍ اجتماعيّةٍ تنعكس على ظروفنا. وأعتقد أنّ ذلك سيستمرّ فتراتٍ طويلةً. فحين نشاهد مسلسلًا ما ننقسم: هناك مَن يدافع عن هذا الإرث القديم على اعتبار أنّه يُمنَع منعًا باتًّا أن ننتقد هذا التاريخ، وهناك مَن ينظر إلى هذا الإرث من منطلق نقديّ وقد يتطرّف في نقده إلى درجة الإساءة. هنا أقترح عليك فكرةً: بصفتك ممثّلًا ممتازًا للمُخرجين المبدعين السوريّين التقدّميّين، لِمَ لا تبحث عن دراما اجتماعيّة تخدم الوضعَ الذي نعيشُه في سوريا اليوم، وقد لا تكون لها علاقةٌ بالتاريخ؟ أقصد أنّ في إمكانكَ أن تضعَ "التاريخَ" (الماضي) جانبًا، وليعدْ إليه مَن شاء أن يعود. فإنْ كنّا نختلف على الجنّة والنار في السماء، فلنتّفق أن نبني الجنّة على الأرض!

- هل تعتقد أنّنا كسوريّين مختلفون على التاريخ فقط؟ نحن أيضًا مختلفون على الحاضر! فأيُّ مسلسلٍ اجتماعيٍّ سيَجمع كلَّ أفكار السوريّين؟ سنختلف على المسلسل المعاصر أيضًا.

* سؤال من الجمهور: خلال مسيرتك الطويلة صار أيُّ عملٍ عليه اسمُ حاتم علي يعني أنّه "مضمون" وعنوانٌ للجودة. المُشاهد العربيّ يريد أن يشاهدَ عملًا ذا قيمة، ذا هدف، ذا فكر. أصبحت الدراما السوريّةُ تنقسم إلى قسميْن: ما قبل حاتم علي وما بعد حاتم علي. ما يميّز حاتم علي أنّه يحترم المُشاهدَ ويحترم فكرَه. سؤالي: ماذا تُحسّ أنّك قدّمتَ إلى الدراما السوريّة؟

- أشكرك جزيلَ الشكر. هذا سؤال صعب جدًّا، والمفروض أن يجيبَ عنه دارسون أو نقّاد. لكنْ أستطيع أن أقولَ بعضَ الأفكار. أوّلًا، الرغبة في النظر إلى الموضوع أو الحدث من زاويةٍ لا تركن إلى الرواية الرسميّة. ثانيًا، ربّما من حسن حظّي، أو تعبيرٌ عن سعيٍ معيّن، أنّه كان لي شركاءُ غايةٌ في التميّز والمعرفة والموهبة، وما كنتُ لأصنعَ أعمالًا جيّدةً من دونهم؛ وأنا أتحدّث هنا عن الكتّاب، وعلى رأسهم الدكتور وليد سيف. هؤلاء هم الذين يقدّمون إليكِ المادّةَ التي ستعملين عليها فيما بعد.

سؤال من الجمهور: في الوقت الحاليّ لا نقْدر أن نقتربَ كثيرًا من الواقع السوريّ لأنّ ذلك سيُدْخلنا في مشاكلَ كثيرة. والمواضيع التي تتناولها الدراما السوريّة الآن سطحيّة. هل هناك عملٌ جديدٌ تحضّره؟ وما رأيك بالمسلسلات المشتركة؟

- حاليًّا لا عملَ أحضّره. آخرُ عملٍ عملتُه كان في مصر، أهو ده اللي صار، وهو يُعرض حاليًّا بحلقاته الأخيرة. أمّا المسلسلات التي تسمّيها "مشتركة،" فأكبرُ مشكلاتها أنّها بلا موضوع: تركيبةٌ ملفّقةٌ لمجموعةٍ من الشخصيّات في مكانٍ ما. ولا نفهم ما الذي "لمَّ" الشاميَّ على المغربيّ، والمصريَّ على السوريّ على اللبنانيّ، وأين يعيشون. كلُّ هذه الأسئلة يجب ألّا تطرحَها في أعمالٍ من هذا النوع. هذه أعمال مصنَّعة أصلًا كي لا تقولَ شيئًا!

 

آخرُ عملٍ عمله حاتم علي كان في مصر بعنوان أهو ده اللي صار

 

* سؤال من الجمهور: كيف يمكن أن يصل الفيلمُ العربيُّ إلى العالميّة؟

- للوصول إلى العالم يجب أن تستخدمَ تقنياتٍ اعتادها المُشاهدُ في هذا العالم. ويجب أن تمتلكَ الحريّةَ والقدرةَ على مقاربة موضوعاتك بصدقٍ وجرأة. ويجب أيضًا أن تحافظَ على محلّيّتك؛ ذلك لأنّ الطريقَ إلى العالميّة هو أن تكونَ ملتصقًا ببيئتك وأن تكونَ محلّيًّا إلى أبعد الحدود. في كلّ الأحوال، الآن، ومن خلال المهرجانات، أصبح لدينا الكثيرُ من الأفلام التي تلقى رواجًا وقبولًا، على مستوى النقّاد أو الجمهور. فيلم كفرناحوم على سبيل المثال، للّبنانيّة نادين لبكي، حاز جوائزَ في مهرجان "كانْ" وترشّح للأوسكار. أيضًا الفيلم الوثائقيّ الآباء والأبناء، للمخرج السوريّ طلال ديركي، ترشّح إلى جانب شقيقه الفيلم اللبنانيّ في الليلة نفسها عن جوائز الأوسكار.

* سؤال من الجمهور: بعد مشاهدة فيلم الآباء والأبناء، كيف ننقد بطريقةٍ بنّاءة المسلَّمات الغلط؟ المشاكل الراهنة هي بسبب سكوتنا عن هذه الأغلاط.

- كلُّ مأساة قد يكون لها جانبٌ مشرق. أعتقد أنّ خروجَ جزءٍ كبيرٍ من السوريّين، رغم ما في ذلك من مأساة، هو في الوقت نفسه تحطيمٌ لحدودٍ وأسيجةٍ كثيرة، وانخراطٌ في حوارٍ مجتمعيّ وعالميّ. وهذا بالتأكيد سينعكس على قدراتنا على التعبير، وعلى رؤيتنا للكثير من مشاكلنا التاريخيّة والمعاصرة. إحدى هذه الإيجابيّات هو كلامُكِ نفسُه سيّدتي؛ فأنتِ لديكِ الجرأةُ على أن تنتقدي التاريخَ عينَه. أعتقد أنّنا كلّنا في هذه الأيّام قد أصبحتْ لدينا القدرةُ على قول أمورٍ لم نكن نجرؤ على التفكير فيها في الزمن الماضي. الآن يجب علينا أن نمتلك القدرةَ على تجسيد هذه الأفكار في أعمالٍ فنّيّةٍ أو بحثيّةٍ أو فكريّة. وأعتقد أنّ الشباب السوريّ الآن قادر على اكتساب التقنيّات من خلال انخراطه في المجتمعات الجديدة التي يعيش فيها.

* سؤال من الجمهور: إلامَ يعزو حاتم علي صعودَ الدراما السوريّة وهبوطَها؟ وكيف ينظر إلى الدراما السوريّة من مرحلة صعودها إلى مرحلة هبوطها؟

- "الدراما السوريّة" قصّةُ نجاح، وقصّةُ تحايل. ففي مصر، وهي المركزُ الرئيسُ لهذه الصناعة، هناك صناعةٌ حقيقيّةٌ وتقاليدُ لهذه الصناعة (استديوهات،...). في سوريا لم يكن هناك استديوهاتٌ ولا تقاليدُ ولا أيُّ شيء؛ وربّما كان هذا من محاسن الصُّدَف لأنّه أجبر الدراما السوريّة على أن تخرجَ إلى الشارع لعدم وجود استوديو! وبذلك أصبحتْ هذه الدراما أكثرَ واقعيّةً، وقدّمت اقتراحًا فنيًّا مختلفًا أدّى إلى تطوّرها.

مونريال

 


[1] حاز حاتم علي شهادةَ البكالوريس في التمثيل من جامعة دمشق سنة 1986. وفور تخرّجه بدأ عملَه في المسرح والتمثيل وتعليمِ التمثيل، قبل أن يبدأ مشوارَه في الإخراج. وقد أصبح في فترةٍ ليست بالطويلة من الأسماء المرموقة في عالم التلفزيون والسينما العربيّة، وتُرجمتْ مسلسلاتُه إلى التركيّة والفارسيّة والأندونيسيّة والماليزيّة، مثل مسلسل عمر الذي تميّز بضخامة إنتاجه. برزتْ موهبتُه الفنيّة وتشعُّب ثقافته وعمقُ نظرته في مسار التاريخ العربيّ في مسلسلات أخرى مثل رباعيّة الأندلس، التي ظهر منها: صقر قريش (2002) وربيع قرطبة (2003) وملوك الطوائف (2005). واشتهرتْ مسلسلاتٌ أخرى له، منها: الزّير سالم، صلاح الدين الأيوبي، قلم حمرة، أهو ده اللي صار، الملك فاروق، التَّغريبة الفلسطينيَّة التي أسرت قلوبَ ملايين المشاهدين العرب.

حازت مسلسلاتُه العديدَ من الجوائز العربيّة، منها: "جائزة تايكي لأفضل مسلسل تاريخيّ عربيّ" وذلك عن مسلسل عمر (2012)، وجائزة "مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون" لأفضل مُخرج عربيّ عن مسلسل الملك فاروق (2007)، وجائزة "مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون لأفضل مُخرج عربيّ" عن مسلسل صلاح الدين (2002) والجائزة الذهبيّة لمسلسل ملوك الطوائف في مهرجان الإعلام التونسيّ (2005)، وجائزة "أفضل مسلسل دراميّ" عن مسلسل الزّير سالم في مهرجان الخليج في مملكة البحرين (2002). أما مسلسل التَّغريبة الفلسطينيّة فقد حظي بحفلة تكريمٍ خاصّة من القائد جورج حبش وقيادة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في دمشق سنة 2004 على الأرجح.

لحاتم علي أيضًا العديدُ من القصص، أذكر منها: "الحصار،" "ماذا حدث وماذا لم يحدث؟،" و"موت أستاذ التاريخ القديم." كذلك كتب سيناريو مسلسل القلعة، إلى جانب عددٍ من الدراسات والمقالات التي نُشرت في مجلاتٍ وصحفٍ عربيّة. وهناك عددٌ من الأبحاث والدراسات التي أُعدَّت عنه وعن أعماله، منها: رسالة الدكتوراه لِلباحثة الجزائريّة نسيمة بو صلاح بعنوان التشكيل البصريّ لِلدوال التراثيّة: إرساليّة الزّير سالم نموذجًا (من قسم الدراسات الأدبيّة، جامعة الجزائر، 2010)، وبحث عن ثلاثيَّة الأندلس التي يقوم بكتابتها حاليًّا الدكتور أريك كالدروود (أستاذ الأدب المقارن واللغة العربيّة في جامعة إلينيو-أوربانا شامباين في الولايات المتّحدة).

نجوميّة حاتم علي لم تمنعْه من الالتفات إلى حاجات الشباب في عالم الفنّ وتشجيع مواهبهم، فأسّس سنة 2007 شركة "صورة للإنتاج التلفزيونيّ والسينمائيّ" التي ساهمتْ في إنتاج العديد من المسلسلات التلفزيونيّة والأفلام السينمائيّة. وأشرف حاتم علي على أعمال فنيَّة عديدة لمخرجين يافعين، وأنشأ جائزةً ماليَّة سنويّة سمّاها "جائزة صورة" لأجمل فيلم وثائقيّ سوريّ. وفي العام 2010 أطلق منحةً سنويّةً لإنتاج أفضل نصّ (سكريبت) عربيّ لفيلم وثائقيّ.

[2]"وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚأَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا"

مالك أبي صعب

مالك أبي صعب: أستاذ التاريخ في جامعة ماكغيل في مونريال (كندا). من مؤلّفاته : مناضلاتُ أمّةٍ هشّة (بالإنكليزيّة، 2010)، وشيعة لبنان: الحداثة، الشيوعيّة، إسلاميّو حزب الله (بالإنكليزيّة أيضًا، بالاشتراك مع رلى الجردي، 2015).