ندوة الآداب: فلسطين ومهمّات المرحلة الراهنة -- مداخلة خالد بركات
05-09-2020

 

 

برعاية مجلة الآداب، أقيمتْ في 29/8/2020 ندوةٌ رقميّةٌ تفاعليّة بعنوان: "فلسطين ومهمّات المرحلة الراهنة،" وذلك في الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد القائد أبي علي مصطفى، الأمينِ العامّ السابق للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. أدارت الندوةَ وقدّمتْها السيّدة خالديّة أبو بكرة، وتحدّث فيها الكاتبان الفلسطينيّان خالد بركات وعابد الزريعي. هنا مداخلة خالد بركات. أمّا لقراءة مداخلة عابد الزريعي، فانقرْ هنا.

***

خالد بركات: حقائق ومهمّات

في البداية شكرًا للرفيق العزيز د. سماح إدريس وطاقمِ مجلة الآداب في بيروت والمؤسّسات المُنظِّمة لهذه الندوة، "فلسطين ومهمّات المرحلة الراهنة." والحقيقة أنّ مجلّة الآداب قامت في السنوات الخمس الأخيرة بإعداد أكثر من ملفٍّ ثقافيّ أو عددٍ خاصّ، تناولتْ فيه تجربةَ كوكبةٍ استثنائيّةٍ من رفاق أبي علي مصطفى: كالحكيم الدكتور جورج حبش، والدكتور وديع حدّاد، وغسّان كنفاني، وناجي العلي (والأخيران حاضران دائمًا في الآداب). كما اعتنت بتجارب قادةٍ استثنائيّين، كمحمد الأسود (جيفارا غزّة)، والرفيق ماهر اليماني. واليوم، تجمعنا ذكريان عزيزتان: ذكرى الفنّان العربيّ الاستثنائيّ الشهيد ناجي العلي، والقائد العربيّ الأمميّ الكبير الشهيد أبي علي مصطفى.

ثمّة ضرورةٌ لتخصيص مساحاتٍ واسعةٍ لقراءاتٍ مُعمَّقةٍ في تجربة أبي علي، الإنسانِ والفدائيّ، خصوصًا في مرحلةٍ تَمَسُّ فيها الحاجةُ إلى تأمّل معنى "أن تكون مناضلًا حقيقيًّا في زمن التخاذل والتطبيع،" وإلى تأمّل معنى "القيادة" -- وأعني القيادةَ التي يقول عنها غسّان كنفاني إنّها تكمن في مدى القدرة على التأثير، وفي طبيعة الدور الذي لا تحدِّدُه المرتبةُ الحزبيّةُ أو الموقعُ السياسيّ أو الألقابُ والأسماء.[1]

وإنْ حاولنا الإطلالةَ على تجربة أبي علي، فلن نستطيع ذلك في ندوةٍ واحدة. فضلًا عن أنّ هناك مَن هم أقدرُ منّا على الحديث عن تلك التجربة، وأقصد رفاقَه وأصدقاءَه الكثر، داخل الجبهة الشعبيّة، وفي عموم فلسطين المحتلّة، وفي وطنه العربيّ الكبير أيضًا، وبعضُهم لا "ألقابَ" لهم ولا عناوين. لذا سأحاول في مداخلتي التركيزَ على عنوان الندوة، "فلسطين ومهمّات المرحلة الراهنة."

لكنّ لديّ، في البدء، مُلاحظاتٍ سريعةً على هامش الذكرى.

الملاحظة الأولى: ثمّة شخصيّاتٌ استثنائيّة، لها بصماتُها الخاصّةُ على واقع مجتمعاتها، لأنّها - ببساطة - حاضرةٌ وفاعلةٌ فيه، لا تكتفي بمراقبة الأحداث ورصدِها، ولا هي بعيدةٌ عن حركة الناس وهمومِهم. هذه الشخصيّات ليست "ديكورًا،" ولا تغيبُ ثمّ تَحْضر بناءً على قرار سلطةٍ عربيّة أو خارجيّة أو جهازِ مخابرات، ولا هي صناعةُ فضائيّاتٍ إعلاميّةٍ باهظةِ التمويل، على ما نرى اليوم في الحالة الفلسطينيّة والعربيّة العاثرة.

وهي شخصيّاتٌ استثنائيّة أيضًا لأنّها تؤمن بقضيّةٍ كبرى، وتترجِم قيمَها النبيلةَ إلى سلوكٍ نضاليٍّ يوميّ؛ فـ"الثورة الفلسطينية " (كما يقول أبو علي) "ليست مشروعًا اقتصاديًّا، بل هي بوصلةُ دم، وبوصلةُ عظم. إنّ قولنا بالوفاء لدماء الشهداء يُمْلي علينا أن نكون في مستوى دماء الشهداء."[2]

وهي شخصيّاتٌ استثنائيّة، كذلك، لأنّها - شأن الرفيق أبي علي - تجاوزتْ وباءَ الفئويّة، ومرضَ المناطقيّة، وسياسةَ الحارات الصغيرة والزورايبِ الضيّقة، وانطلقتْ إلى فضاء التغيير الثوريّ العامّ.

الملاحظة الثانية: أنّ الوفاء لهذه الشخصيّات لا يكون بتحويل ذكرى ميلادهم أو استشهادهم إلى "مناسبةٍ" واحدةٍ يتيمةٍ في السنة، نكيلُ لهم فيها المديحَ، ثم نمضي إلى أشغالنا إلى حين حلول العام الذي يليه. وهنا، لا بدّ من توجيه تحيّةٍ خاصّةٍ إلى "شبكة صامدون،" و"حركة الشباب الفلسطينيّ" في أمريكا الشماليّة وأوروبا، و"حركة نساء فلسطين الكرامة،" و"تحالف حقّ العودة،" ومنظّمة "موحَّدون من أجل فلسطين،" وإلى عشرات القوى الأخرى التي قرّرتْ أن تكون الذكرى الثامنةُ والأربعون لاستشهاد غسّان كنفاني والثالثةُ والعشرون لاستشهاد ناجي العلي أيّامًا لتنظيم المظاهرات والمسيرات الشعبيّة والفعّاليّات السياسيّة والثقافيّة في عشرات المدن في العالم. هكذا فقط تتحوّل ذكرى ميلاد هذه القامات الوطنيّة، أو ذكرى استشهادها، إلى حياةٍ ثانية: إلى فعلٍ شعبيّ، إلى موقفٍ يُحرِّرها من المكاتب أو جدرانِ الصمت أو "المديح" الفارغ والمناسباتيّةِ المملّة، ويُطْلقها مرّةً أخرى مع الناس، في الميادين والشوارعِ والجامعاتِ والنقابات.

الملاحظة الثالثة: أنّه مضى على استشهاد الرفيق أبي علي مصطفى عشرون سنةً تقريبًا. وهذا يعني أنّ هناك جيلًا فلسطينيًّا جديدًا، بعضُ أفراده اليومَ في الجامعات، وبعضُهم أسرى وأسيراتٌ في سجون الاحتلال، وبعضُهم صاروا فدائيّين في الأذرع العسكريّة للمقاومة، ومنها "كتائبُ الشهيد أبي علي مصطفى." ومَن يدري: فقد يكون هذا الجيلُ من الشباب هو القادرَ على استعادة الفكرة والثورة والانتفاضة، ووضعِها مرّةً أخرى على السكّة الصحيحة، في مسارها الطبيعيّ والثوريّ السليم.

***

كانت الانتفاضة الثانية (أو انتفاضة الأقصى) في 28 سبتمبر 2000 آخرَ محطّةٍ نضاليّةٍ في مسيرة الرفيق أبي علي. وقد وَجد نفسَه في منتصف هذه المعركة بعد عودته إلى الوطن، غير أنّه لم يشهدْ نتائجَها ولا تطوُّرَ الأحداث فيما بعد. وهذا ما أريد التركيزَ عليه الآن.

فمن وجهة نظر أبي علي، والجبهةِ الشعبيّةِ عمومًا، كانت الانتفاضةُ الثانية نتيجةً طبيعيّةً تؤكّد فشلَ مسار التفاوض العبثيّ، الذي بدأ في مؤتمر مدريد (نهاية أكتوبر 1991)، حين جلس "المفاوضون" العربُ مع الصهاينة، بـ"رعاية" أمريكيّة، وفي ظروفٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ مؤاتيةٍ بالكامل للاستراتيجيّة الأمريكيّة. لكنّ أبا عليّ كان يُصرّ كذلك على أنّ هذا الانهيار جاء أيضًا نتيجةً لسياساتٍ فلسطينيّةٍ وعربيّةٍ مَهّدت الأساسَ لاتّفاق أوسلو (1993). وكان يرى أنّ الناس اكتشفتْ أنّ أوسلو لم يكن عابرًا، أو يمكن أن نَدْخلَه ونَطْلعَ منه "بكيفنا،" وإنّما كان خديعةً كبرى ومستنقعًا وطعنةً مسمومةً في ظهر شعبنا وتبديدًا لإنجازاتٍ صنعها الناسُ بالدم والعذاب في الانتفاضة الأولى (1987-1993). وكان يعتقد أنّ الانتفاضة الثانية قادرةٌ على نقل الواقع الفلسطينيّ من حالة التراجع إلى حالة التقدّم، وعلى الدخول في مرحلةٍ نضاليّةٍ جديدةٍ تُحقِّق - في الحدّ الأدنى - الوحدةَ الوطنيّةَ الحقيقيّةَ وتَكْنس الاستيطانَ من الضفّة وغزّة. لكنّ لذلك شروطًا كما قال: وهي أن تستطيع الانتفاضةُ أن تستمرّ، وأن تقْطعَ مع الرهان على التفاوض، وأن تعيدَ الاعتبارَ إلى منظّمة التحرير وإلى مؤسّساتها الوطنيّة التي "بلعتْها" السلطةُ الفلسطينيّة، وأن تثوِّر الأجهزةَ والأذرعَ الأمنيّةَ والعسكريّة، وأن تتوفّرَ لها الركائزُ الماليّةُ والاجتماعيّةُ والقيادةُ الوطنيّةُ الموثوقة. ذلك لأنّه كان يدرك أنّ المشكلة الرئيسة تكمن في أحوال المؤسّسة الفلسطينيّة، لا في استعداد شعبنا للقتال والتضحية.

غير أنّ هذا الطموح الذي راوده، وعبّر عنه في غير مناسبةٍ، لم يتحقّقْ. العكس تمامًا هو ما جرى: فقد تعّمقتْ أزمةُ المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وزاد الاستنقاعُ الفلسطينيّ الرسميّ في وحْل "التنسيق الأمنيّ" مع العدوّ والمفاوضاتِ والفسادِ والتطبيع، وعمدتْ طبقةُ المال التي تدير مصالحَها سلطةُ اوسلو إلى حلّ أزمتها على حساب الحقوق الفلسطينيّة ومن جيوبِ الطبقات الشعبيّة الفقيرة -- وخصوصًا من جيوب اللاجئين.

رحل أبو علي قبل أن يَشْهد مئاتِ العمليّات الفدائيّة البطوليّة ضدّ الاحتلال. ورحل قبل أن يَشهد كذلك تغوّلَ أجهزة السلطة الفلسطينيّة على قوى المقاومة، بما في ذلك اعتقالُ الأمين العامّ للجبهة الشعبيّة أحمد سعدات ورفاقِه ومئاتِ المناضلين والكوادر. وكانت أجهزةُ القمع والفساد قد بدأتْ تستهدف المناضلين قبل العام 2000 (اعتُقل سعدات، مثلًا، ثلاثَ مرّات قبل العام 2002). ولكنّ سياسةَ السلطة هذه باتت منهجًا عامًّا بعد ذلك، بل صارت شرطًا أمريكيًّا وصهيونيًّا لاستمرار السلطة نفسِها!

ولم يشهدْ أبو علي أيضًا كيف جرى فكُّ وتركيبُ الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة وفق عقيدة الجنرال كيث دايتون، ووفق ما يُسمّى نظريّة "الفلسطينيّ الجديد" سنة 2005.[3]ولم يَشْهدْ كيف انتقلنا من وضعٍ سيّئ أصلًا إلى وضعٍ أسوأ، بحيث بات اليوم أكثرُ قادة الانتفاضة الثانية شهداءَ أو في السجون أو المنافي أو أسرى حُرِّروا وأُبعِد بعضُهم إلى قطاع غزّة!

وطبعًا لم يشهدْ أبو علي أحداثَ 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة، ولا تداعياتِ تلك الأحداث على العالم والمنطقة، من احتلالٍ للعراق وأفغانستان، ومن حروبٍ إسرائيليّةٍ متواصلة على لبنان وغزّة (2006، 2008، 2012، 2014،...). ولم يشهدْ كيف جرى ترحيلُ عرفات عن المشهد السياسيّ، وجُلِب رئيسُ السلطة الحاليّ محمود عبّاس وفق مقاسات أمريكا و"إسرائيل" والنظامِ العربيّ الرسميّ، وبرضًى ومباركةٍ من آرئيل شارون شخصيًّا.[4]فالحال أنّ ما جرى في الواقع الفلسطينيّ الداخليّ هو المزيدُ من جرائم العدوّ من جهة، والمزيدُ من سياسة التدمير الذاتيّ ومن هيمنة "طبقة أوسلو" على المؤسّسات الفلسطينيّة (وبخاصّةٍ منظّمة التحرير) من جهةٍ أخرى.

لم يشهدْ أبو علي ما يسمّى "الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة" في الضفّة والقطاع في العاميْن 2005 و2006. ولا هو أدرك الدروسَ التي يمكن استخلاصُها اليوم من تلك التجربة، ومن كذبة "الديموقراطيّة" تحت بساطير الاحتلال، ومن "الانقسام" الفلسطينيّ، ومن هذا الحصار المجرم من كلّ الجهات على شعبنا في قطاع غزّة حتى اليوم.

***

إذًا، كيف تصاغُ اليومَ مهامُّ المرحلة الراهنة وفق رؤيةٍ وطنيّةٍ تساعد شعبَنا على الانتقال من حالة الدفاع والانكفاء والارتجاليّة والشرذمة، إلى حالة الفعل والمبادرة والتنظيم والتأثير وتحقيقِ الوحدة الميدانيّة والشعبيّة في مواجهة العدوّ؟

كيف نغادر نفقَ أوسلو ونتحلّل من قيوده الأمنيّة والاقتصاديّة وغيرها؟

كيف يثوَّر الوضعُ فلسطينيًّا وعربيًّا؟

هذه بعضُ الأسئلة المركزيّة التي كان أبو علي سيطرحها على نفسه وعلينا لو كان بيننا اليوم، لأنّها الأسئلةُ الجوهريّةُ في كلّ مرحلة، ولأنّها ظلّت تَشْغله في السنوات الأخيرة من حياته بشكلٍ خاصّ. فنحن في الحقيقة في مرحلةٍ ممتدّة منذ اتفاق مدريد-اوسلو: العدوّ أبقى على جوهر الاتفاق، أيْ على الشقّيْن الأمنيّ والاقتصاديّ فيه، ثم داس على كلّ شيءٍ آخر.

***

والآن، ما هي حقائق اللحظة الراهنة؟

- الحقيقة الأولى هي سقوطُ "حلّ الدولتين." لقد سقط مشروعُ إقامة الدولة الفلسطينيّة على الأراضي المحتلّة عام 67، أو ما أَطلقتْ عليه جماعةُ أوسلو "المشروعَ الوطنيّ" -- وهو، في الواقع، مشروعُ أصحاب البنوك والبرجوازيّةِ الفلسطينيّةِ الكبيرة، "طبقةِ السلام الاقتصاديّ،" الـ1 % التي ارتبطتْ مصالحُها بمصالح العدوّ.

اليوم، وصل مشروعُ هذه الجماعة إلى تكريس الحكم الإداريّ الذاتيّ وروابطِ البلديّات أو روابطِ المدن. وكلُّ ما تحاول جماعةُ أوسلو فعلَه هو أن تُلْبس مشروعَ الحكم الذاتيّ طربوشًا كُتب عليه "دولة فلسطينيّة."

وصولُ هذا النهج إلى فشلٍ ذريعٍ إنّما هو أمرٌ حقيقيّ. فعلى الرغم من أنّه يحمل في أحشائه الإيجابيَّ والمبشِّرَ بالخير، فإنّه خطير، خصوصًا لأنّ العدوّ فرض "حقائقَه على الأرض": من مستعمراتٍ، وجدارِ فصلٍ، وقوانينَ عنصريّةٍ، ونهبٍ، وضمٍّ، وحصار.

واليوم، علينا في رأيي الشخصيّ أن نحاسِبَ كلَّ مسؤولٍ فلسطينيٍّ يتحدّث عن "حلّ الدولتين" ويعترفُ بالكيان الصهيونيّ، وأن نسمّيَه أداةً رخيصةً ومأجورةً عند الاحتلال. فالخيانة ليست وجهةَ نظر، وليس من حق أيّ شخصٍ أن يتنازلَ عن شيءٍ لا يملكه شخصيًّا، ويجب كشفُ هؤلاء وتعريتُهم أمام الجماهير.

وفي رأينا أنّ البديلَ الثوريّ الوطنيّ والديموقراطيّ هو استعادةُ نهج العودة والتحرير، بديلًا ممّا يُسمّى "إقامة دولةٍ في الضفّة والقطاع." ذلك لأنّ مشروعَ التحرير هو المشروعُ الذي يعبِّر عن الأكثريّة الشعبيّة الفلسطينيّة الساحقة في الوطن والشتات. إنّه مشروعُ الـ99 % من الفلسطينيّين. وهو المشروع الذي جرى اغتيالُه والتآمرُ عليه لصالح مشروع الدولة المسخ منذ العام 1973-1974. بل يمكن القولُ إنّ "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر" هو مشروعٌ واقعيٌّ جدًّا، وممكنُ التحقيق أكثرَ من تحقيق "دولة في الضفة والقطاع." لكنّ هذا نقاشٌ ليس مجاله هنا.

- الحقيقة الثانية هي سقوطُ الشرعيّات الفلسطينيّة المنبثقة عن "نهج أوسلو." هذا النهج بات يسيطر على كلّ المؤسّسات الفلسطينيّة، بل يعتبرها مزرعةً خاصّةً به. إنّه نهجُ التطبيع الرسميّ الفلسطينيّ، الذي فتح البابَ واسعًا للتطبيع العربيّ والدوليّ. اليوم، هناك لجنةٌ داخل منظّمة التحرير لا شغلَ لها إلّا التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ، واسمُها "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيليّ." فكيف تُمثِّل هذه اللجنةُ الشعبَ الفلسطينيّ؟!

يمكن القول إنّ منظّمة التحرير، في واقعها الراهن، انتقلتْ من كونها الممثّلَ الشرعيَّ الوحيدَ للشعب الفلسطينيّ إلى الممثّل الرسميِّ الوحيد. وهذا الأمر جرى بحُكم الأمر الواقع، لا لأنّ شعبَنا هو مصدرُ هذه الشرعيّة أو يقرِّر سياساتِها ومؤسّساتِها؛ إذ لا أحد يسأل شعبَنا عن رأيه. أمّا "الممثِّلُ الرسميّ،" فهو كذلك بحُكم الاعتراف الدوليّ والعربيّ الرسميّ فقط، شأن أيّ نظامٍ عربيٍّ رجعيّ من الأنظمة الموجودة. والمواطنُ يتعامل مع مؤسّساتٍ وسفاراتٍ وأجهزةٍ لم يخترْها بكامل حريّته، بل لأنّه مضطرٌّ إلى أن يتعاملَ معها. وما يصحّ على منظّمة التحرير يصحّ، بالضرورة، على السلطة الوكيلة العاجزة؛ فهذه سلطةٌ مفروضةٌ على شعبنا، وليست موجودةً بخياره وإرادته.

ومن هنا، فإنّ إحدى أهمّ مهامّ المرحلة اليوم، في رأينا، هو إطلاقُ حَراك شعبيّ فلسطينيّ، عنوانُه "تحرير مُؤسّساتنا الوطنيّة الفلسطينيّة من سطوة تيّار أوسلو ونهج التطبيع والفساد." وهذا التحرير لا يكون بالتمنّي والرغبات، ولا بالبيانات، أو لأنّنا نعتقد أنّ "الحقَّ معنا،" بل يحدث بنهج أبي علي مصطفى: بالتنظيم، والبناء، والنفَسِ الطويل؛ بالقوّة الشعبيّة التي تفرض حالةً جديدةً يصعب على أيّ طرفٍ تجاهلُها؛ بأن يشاركَ شعبُنا وطلائعُه الوطنيّةُ من الشباب والطلّاب، ذكورًا وإناثًا، ويرميَ بثقله - في الوطن وفي كلّ تجمّعات اللاجئين في الشتات - خلف هذا الهدف.

وعليه، تصبح مهمّةُ انتخاب مجلس وطنيّ فلسطينيّ جديد في الشتات، بإرادةٍ فلسطينيّةٍ شعبيّةٍ حرّة، مهمّةً وطنيّةً عاجلة. كما تصبح مهمّةُ إعادة الاعتبار إلى الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ، باعتباره الدستورَ الفلسطينيَّ الجامعَ والمحدِّدَ لعلاقة الفلسطينيين بقضيّتهم وببعضهم بعضًا، جزءًا من مهمّةٍ نضاليّةٍ لا تحتمل التأجيلَ والتسويف.

- الحقيقة الثالثة هي حقيقةُ المقاومة والحصار. إنّ مركزَ ثقل المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة، اليوم، هو في قطاع غزّة. لكنّ القطاع محاصَرٌ من كلّ الجهات. والحصار يُشْرِف عليه، ويكرِّسه، كلُّ معسكر العدوّ: أمريكا وأوروبا و"إسرائيل" وسلطة مصر وسلطة رام الله والنظام العربيّ الرجعيّ.

وعليه، يجب ألّا تظلَّ المقاومةُ المسلّحة مسؤوليّةَ ناسِنا في القطاع دون غيرهم، ولا أن يكون كسرُ الحصار مهمَّتَهم وحدهم، بل مهمّة جميع الشرفاء والأحرار أينما كانوا. ومن دون استعادة دور المقاومة بكافّة أشكالها، وبخاصّةٍ المقاومة المسلّحة، من أجل ردع العدوّ واستنزافِه، فسيظلّ يشعر أنّه قادرٌ على المزيد من التغوّل على الحقوق الفلسطينيّة.

***

وماذا عن دور الشتات؟

القرار السياسيّ الفلسطينيّ يجب أن ينتقلَ إلى الشتات، وألّا يبقى يومًا إضافيًّا واحدًا في رام الله! ذلك سيكون الحلَّ الوحيدَ لتحرير شعبنا في الداخل من أيّ ضغوطٍ صهيونيّةٍ مباشرة. وهذا بالضبط ما يقصده الناسُ في غزّة والضفّة تحديدًا حين يقولون: "والله كنّا مرتاحين قبل ما تيجي السلطة!"

طبعًا هم، بذلك، لا يقولون إنّهم يريدون بقاءَ الاحتلال؛ فهم أطلقوا أكبرَ انتفاضةٍ شعبيّةٍ في التاريخ المعاصر ضدّ الاحتلال، ودفعوا الأثمانَ الباهظة. لكنّ الاحتلال بقي، وتحلّل من مسؤوليّاته، بل زاد من جرائمه وعدوانِه على الشعب الفلسطينيّ. وفوق الاحتلال، صارت لدينا منذ العام 1993 سلطةٌ فلسطينيّةٌ، أمنيّةٌ واقتصاديّةٌ، وقوًى وكيلةٌ "تتعاون" مع العدو، وصارت عبئًا إضافيًّا على كاهل الناس.

لقد آن الأوانُ لخلق بديلٍ وطنيّ لهذه السلطة القائمة، وهو "جبهة وطنيّة فلسطينيّة موحّدة،" مهامُّها: التغييرُ الداخليّ، وتعديلُ موازين القوى المحلّيّة، وإنجازُ العودة والتحرير.

***

إذا أردنا تلخيصَ المهامّ والأولويّات الوطنيّة، فسنُدْرجها كالآتي:

- إعادة الاعتبار إلى مفهوم "الوطن التاريخيّ لشعبنا،" أيْ فلسطين من النهرِ إلى البحر، لا "الدولة الفلسطينيّة" المسْخ التي جوهرُها الحكمُ الذاتيّ. شعبُنا لم يقاتلْ منذ مئة سنة من أجل دولة، بل لتحرير وطنه ونفسه.

- إعادة الاعتبار إلى مشروع العودة والتحرير، بالمعنى النظريّ، وبالممارسة السياسيّة، أيْ لجهة بناء الحوامل الكفاحيّة القادرة على فرض حقيقة المقاومة، وفي مقدّمتها المقاومةُ المسلّحة.

- إعادة بناء المؤسّسة الوطنيّة القائمة على الاتحادات النقابيّة والشعبيّة، لا على منطق القبائل ومحاصصاتِ الفصائل.

- إعادة الاعتبار إلى الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ، لا إلى القانون الأساسيّ للسلطة.

- أن يكون لشعبنا في فلسطين المحتلّة عام 48 دورٌ مركزيٌّ قياديٌّ في مشروع التحرير، باعتباره الأدرى بواقعنا وواقعِ العدوّ. وهذه ليست منّةً ولا مكرمةً من أحد.

- تحرير صوت الشتات والتجمّعات الفلسطينيّة في الخارج وعلى مستوى الوطن العربيّ.

- تجديد الخطاب الوطنيّ الفلسطينيّ الذي يفهمه شعبُنا ويُقرّه بإرادته الحرّة.

- استعادة الدور القياديّ المركزيّ للحركة الفلسطينيّة الأسيرة. قيادتُنا الوطنيّة الموثوقة والمحترمة والمجرَّبة ليست "غائبة،" لكنّ معظمَها في السجون، ويجري تهميشُ دورها وموقعها.

- إعادة تعريف معسكر الأعداء ومعسكر الحلفاء على مستوى العالم.

***

لم يترك لنا الرفيق أبو علي مصطفى كتابًا تمْكن العودةُ إليه من أجل قراءة مقالاته وخُطبه ومقابلاته الإعلاميّة. ومهمّةُ نشر كتابٍ كهذا هي مهمّةُ رفاقه في الجبهة الشعبيّة أوّلًا. غير أنّ حياتَه تظلّ الكتابَ الأصدقَ الذي تركه هذا القائدُ الكبير، بكلِّ ما حملتْه من دروسٍ واستخلاصاتٍ وصوابٍ وخطأ.

مونريال


[3] للتذكير: كيث دايتون هو جنرال أمريكيّ جرى تكليفُه بإعادة بناء الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة.

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.