كيف نحبّ القدس؟ حوار مع واصف جوهرية*
04-02-2016

 

يجلس على كرسيّه. يرفع الرأسَ والكتفين واثقًا من نفسه.

 

ينظر إليّ. يحدق بعينيْه، الطاغي سوادُهما. لا يملّ. يحدّق دائمًا.

أرمي غلافَ الكتاب جانبًا.

أحاول أن أتجاهله. لكنّي، أجدني أُدير رأسي نحوه مرّةً أخرى.

أُغيّرُ اتجاهاتي. أدور حول الكتاب. أبتعدُ قليلًا. ولكنّه ثابثُ النظرة.

كما الموناليزا، يحدّق في كلّ الاتّجاهات.

أستسلم. أعيد الكتابَ إلى المكتبة.

***

"أعلمْ أنّ الكراكوز هي كلمة تركيّة الأصل بمعنى... العيون السود، وأنّ أصل هذه الألعوبة من بلاد فارس... أما السرّ... والأهميّة الكبرى في هذا الفنّ النادر فهو الشخص الذي يُحرّك ويلاعب هذه الأقزامَ الخياليّة. وإنّك لتعجب، أيّها القارئ الكريم، عندما تعلم بأنّه شخص واحد... والأنكى من هذا كلّه فإنّه هو بذاته يقلّد الصوت أو الأصوات الطبيعيّة لكلّ من هذه الخيالات...

لقد شاهدنا وحضرنا كثيرين من لاعبي هذا الفنّ الجميل، ويُعرف بالـ "كاراكوزاتي." ولكنْ أقولها صراحة إنّ الحظّ ساعدنا بمشاهدة أشهر كاراكوزاتيّ عالميّ، ألا وهو الحاج محمود الكاراكوزاتي، من أهل طرابلس الشام. فكان الحاج محمود، رحمه الله، يزور القدسَ ويقضي طيلة شهر رمضان المبارك في القدس، وقد فضّلها عن سائر البلاد الأخرى طيلة حياته لِما لمس من حبِّ وإقبالِ أهالي بيت المقدس له وعليه."(1)

هذا ما قاله الكتاب، حين درستُ المسرحَ العربيَّ في الجامعة. مرّ ذكرُ الكراكوز بشكلٍ عابر، ولم نمرّ بالقدس. لم أعرفْ أنّ مقاهيها وساحاتها كانت مرتعًا لفنون العرض تحت سطوة السلطة العثمانيّة. القدس في بالي "أيقونة." متى جاء الكراكوزُ إليها؟ وذلك الفنانُ الطرابلسيّ، مَن يكون؟  كيف كان يذهب إلى فلسطين؟

وأنت المثبَت على غلاف كتاب، لماذا تنظر إليّ تلك النظرةَ الحادّة؟ هل تعلم أنّ الكوفيّة على رأسك تشبه كوفيّة جدّي؟

***

أقلّب صفحات الكتاب:

"حدث الانقلابُ العثمانيّ في 11 تموز 1908 في الأستانة. وكانت فرحة لدى الحكومة، وخاصّة الشعوب العربيّة في البلاد، فكانوا يسمّون هذا الانقلاب بالحريّة، "حريّة عدالة مساواة." أمّا يهود بيت المقدس فكانوا يسْخرون سرًّا من هذا الانقلاب ويسمّونه بـ (خرقيّة)، أي حرقيّة، ويقولون إنّ الويل سيحدث بعد هذا الانقلاب. كما هو معلوم لدى العموم، فإنّ الذي قام بهذا الانقلاب هم قوّادُ الجيش المعروفين [كذا] بجمعيّة الاتّحاد والترقّي، وعلى رأسهم نيازي وأنور وجمال وغيرهم، وانتصروا على خلع الطاغية السلطان عبد الحميد** الذي حكم مدّةً من الزمن تنوف [على] الثلاث والثلاثين سنة، حكم البلادَ بالنار والظلم والاستبداد، فأصبحتْ بحالة فقرٍ وجهلٍ ليس له مثيل...

وعلى أثر  هذا الانقلاب... جرت الزيناتُ والاحتفالاتُ وليالي السمر في جميع البلاد بصورة يعجز القلمُ عن وصفها... فكانت مدينةُ القدس شعلةً من الأنوار. فلم يبقَ منزلٌ ولا عمارة ولا معهد ولا دكّان ولا شارع إلّا وكان منارًا بالشموع (ولم يكن عهد الكهرباء). فوانيس صغيرة، وداخل كلّ فانوس شمعةٌ، والأعلام والزهور وأغصانُ الشجر تزيّن المدينة لمدّة أسابيع، والشعب بهرجٍ ومرجٍ وفرحٍ وسرورٍ وابتهاج..."(2)

ألا تُشبه هذه الاحتفالات ما أراده في الشام أيقونة المسرح السوريّ، "أبو خليل قباني***؟" ألا تصلح، بديكوراتها وزينتها، لمشهدٍ من مسرحيّاته التي قدّمها في الشام قبل أن يُغلق مسرحُه بأمرٍ من السلطان عبد الحميد؟ هل كان سيذهب إلى القدس بدلًا من القاهرة بعدما اضطهده العثمانيّون؟ هل كان سيحلّ فيها، فيحتفل مع أبنائها بالانقلاب؟ أمْ أنّ الزمن غدر به مرّةً أخرى، فمات قبل ذلك الحدث بخمس سنوات؟

ولماذا سخر اليهودُ من الانقلاب؟ لماذا اختلف موقفهم عن موقف أهالي المدينة العرب؟

***

"من حسنات المرحوم حسين هاشم الحسيني**** بعد حصوله على كرسيّ رئاسة مدينة القدس ومصادفة الوقت الذي كان فيه الانقلاب العثمانيّ هذه الثورة التاريخيّة... جاء حسين أفندي بالموسيقار الذائع الصيت والممثّل القدير المرحوم سلامة حجازي من القاهرة إلى القدس. كان وفرقته الكبيرة برفقة جورج أبيض، فنصب له ولفرقته صالون سرادق، أو ما يسمّونه الخيمة الآن، على الخندق الملاصق لسور مدينة القدس، خارج باب الخيل على الجهة اليسرى... وهكذا مثّل الشيخ سلامة حجازي وفرقته النادرة جملة تمثيليّات وروايات خالدة..."(3)

لم ندرس شيئًا عن القدس في كتب التاريخ. عرفنا فقط عن النكبة والنكسة، ليس قبلهما شيء، وليس بعدهما شيء.

زمن مجمّد عند لحظتَي هزيمتين قاتلتين.

أعرفُ القدس في أغنية فيروز، "زهرة المدائن."

ما بالك مجدّدًا أيّها "المازيكاتي؟" لماذا تحاصرني بنظراتك الحادّة؟

ألم أَقُل لك إنّك تشبه جدّي؟

لكنّ جدّي كان فلّاحًا فقيرًا، مات وهو يردّد "بعلبك زينة سورية." وأنت عازفٌ، جال بلاد العرب ورافق كبار الفنّانين.

ما بك تحاصرني؟ أنا التلميذة المجتهدة لم أدرس شيئًا عن الانقلاب  العثمانيّ، وعرفتُ سطورًا قليلةً عن القدس تحت الانتداب البريطانيّ، وعن وعد بلفور، وعن التمهيد لإنشاء "إسرائيل". لو لم يكن كمال الصليبي، لو لم تكن كتبُه في مكتبة أبي، لكان الكلام عن ذاك الانقلاب مجرّد وهم بالنسبة إليّ.

***

أنا ابنة جيلٍ تربّى على الهزيمة. يواجهنا بها كلّ يوم ليبراليّون جدد كاتّهام، كجريمةٍ علينا أن نُسجن بسببها. وأنا ابنة الجيل الذي لم يدرس في المدرسة شيئًا عن القدس..سمعنا عنها من أهلنا، فأحببنا المدينة كلوحة معلّقة على الجدار، كهيبة مقدّسة. لم نعرف شيئًاعن الحياة التي تدبّ فيها، عن ناسها، عن مقاهيها، عن حاراتها، عن روحها.

جعلناها أيقونة بلا مدينة، وجئت أنت أيّها الفنّان لتلقي عليّ دروسًا عنها...

هل كتبتَ تلك المذكّرات لأقرأها أنا وحدي؟ لأحبّ القدس أكثر؟ لأعيشها؟

أقلِّب صفحات كتابك، أنت المزّيكاتي الذي ترك لي أوراقًا لأُبحر فيها.

حسنًا، أنتَ لم تتركها لي، أنت تركتها لنا جميعًا. وأنا شاهدتُ غلافَ الكتاب. رأيتُ صورتك, شعرتُ بك تحدّق بي. اشتريتُ الكتاب، ورميتُه في غرفتي. وصرتُ كلّ يوم أسترق النظر، فأجدك تحدّق بي. وكنت أعرف أنّي لا أعرف شيئًا عن القدس، وأنك ستأخذني في رحلةٍ إليها، رحلةٍ كتلك الرحلات التي أحبّها: تدوينات حيّة، من يوميّات ومشاهدات ابن المدينة، سياسة وفنّ ومسرح ومقاهٍ وحروب وزيارات وأعراس ومآتم ورجالات كبار وخوف وقلق وتهجير وعزف وحفلات وفنّانون وأعياد، ثمّ قصف وتهجير واحتلال.

أنت لم تترك تدويناتك لي وحدي؛ لقد قرأها كثيرون قبلي، دقّقها باحثون، وحلّت في نهاية المطاف في مجلّدين أنيقين: القدس العثمانيّة في المذكّرات الجوهريّة، والقدس الانتدابيّة في المذكّرات الجوهريّة.

المذكّرات هي مذكّراتك أنت أيّها العازف، صاحبُ الصوت الشجيّ، واصف جوهرية. وأنا، قبل أن أقرأها، كنت أحبّ القدس من دون أن أعرفها. أحبّها كما تعلّمنا أن نحبّها: بجهل.

واليوم، صار لتاريخها في مخيّلتي صورٌ ومشاهدُ وأناسٌ وحاراتٌ وأحداث.

***

أكمل القراءة كالجنديّ المستسلم لهزيمته في بلاط صاحب الجلالة.

أُغلق الكتاب.

ألقي نظرةً على السطر الأخير في الغلاف الخلفيّ. تصعقني يا سيّد جوهريّة مرّة أخرى:

أنت لم تمُت في القدس! لقد رحلتَ في مدينتي بيروت، حين وُلدتُ.

بيروت

المقاطع من كتاب القدس العثمانيّة في المذكّرات الجوهريّة (2003) الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة (صدر الجزء الثاني سنة 2005 بعنوان: القدس الانتدابيّة في المذكّرات الجوهريّة).

* واصف جوهرية: ملحّن، وعازف عود، ومؤرّخ من القدس (1897-1973).

1- القدس العثمانيّة في المذكّرات الجوهريّة، ص 79.

** السلطان عبد الحميد: السلطان السادس والعشرون من سلاطين آل عثمان. حكم الإمبراطوريّة العثمانيّة من العام 1876 حتى العام 1908.

2- القدس العثمانيّة في المذكّرات الجوهرية، ص 107.

*** أبو خليل القبّاني: فنّان سوري، يُعتبر رائدَ المسرح الحديث في سورية (1833-1903).

**** حسين هاشم الحسيني: رئيس بلديّة القدس بين العامين 1908 و1917.

3- القدس العثمانيّة في المذكّرات الجوهريّة، ص 108.

بيسان طي

صحفيّة ومعدّة أفلام وثائقيّة. حاصلة على ليسانس في الإعلام، وماجستير في المسرح. تعدّ أطروحة دكتوراه في المسرح السياسيّ في جامعة باريس الثامنة.