الفلسطيني في استديوهات الإعلام الإسرائيلي
31-05-2019

 

الإعلام الإسرائيليّ في الاستراتيجيا الصهيونيّة

لا شكّ في أنّ الإعلام ذراعٌ أساسيّةٌ من أذرع أيّ دولةٍ طبيعيّة، تستخدمها في تثبيت قواعدها وشرعنةِ أعمالها وصياغةِ هويّتها الوطنيّة، من أجل خلق رأي عامّ يتوافق ورؤيتَها السياسيّة. وبذلك، يخضع الإعلامُ لإيديولوجيا الدولة، مهما ادّعت الديمقراطيّة. فكيف يكون الأمرُ في حال الدولة غير الطبيعيّة - الاستعماريّة، التي تسعى بكلِّ ما أوتيتْ من أسلحة لإثبات شرعيّتها والقبولِ الدوليّ بوجودها بعيدًا عن حقيقتها الاستعماريّة؟!

لقد أدرك مؤسِّسو "إسرائيل" دورَ الإعلام منذ هرتزل، فتعاملوا معه في وصفه إحدى أهمّ أدوات بناء الدولة. من هنا أنشأت الحركةُ الصهيونية إذاعةً مُوجّهةً إلى المستوطنين اليهود الجدد قبل العام 1948، وأصدرتْ 14 صحيفةً، ومن بين هذه الصحف اثنتان تُعَدّان اليوم مرجعًا للأخبار التي تخصّ "إسرائيل" في العالم: هآرتس ويديعوت أحرونوت.[1]

وبعد هرتزل، حمل ديفيد بن غوريون - وهو أوّلُ رئيس وزراء لـ"إسرائيل" - لواءَ الإعلام، مؤمنًا بوظيفته تجاه الدولة. فأعلن تأسيسَ "هيئة رؤساء تحرير الصحف،" وهي الهيئة التي كانت تابعةً، بشكلٍ أو بآخر، لجهاز الموساد الإسرائيليّ.[2] وهذا الأخير تحكّم، بشكلٍ كبير، في المعلومات التي يجب نشرُها، أو إخفاؤها، أو التحايلُ في طريقة نشرها.

وعلى الرغم من التطوّر الكبير في وسائل الإعلام الإسرائيليّة، وما مرّ به من فضاءات الخصخصة واللبرلة، فإنّه ما يزال يَخضع للرقابة العسكريّة، التي فُرضتْ عليه ذاتيًّا، ليُعبِّرَ عن انحيازه إلى المؤسّسة "الأمنيّة" وما تفرضُه من خطوطٍ حمراءَ في القضايا الكبرى، كالحروب والصراع العربيّ - الإسرائيليّ. ويمكننا القول إنّ معظمَ العاملين في وسائل الإعلام الخاضعة للرقابة هم، بشكلٍ أو بآخر، مرتبطون بالمؤسّسة السياسيّة أو العسكريّة. حتّى الأصوات التي تغرِّد خارج السرب أحيانًا في الإعلام الإسرائيليّ لا يمكنها، إلّا باستثناءاتٍ محدودةٍ جدًّا، الخروجُ عن المنظومة السياسيّة، وذلك من منطلق "الخدمة الوطنيّة" للدولة. بمعنًى آخر، الإعلام هنا جزءٌ من منظومةٍ استعماريّة.

 

لقد أدرك مؤسِّسو "إسرائيل" دورَ الإعلام منذ هرتزل، فتعاملوا معه في وصفه إحدى أهمّ أدوات بناء الدولة

 

اهتمامُ الإعلام الإسرائيليّ بالساحة العربيّة

لم يقتصر دورُ الإعلام على ما رسمتْه له الحركةُ الصهيونيّة، بل تعدّاه إلى أبعد من ذلك بكثير. وقد تمثّل ذلك في ولادة الإعلام الإسرائيليّ الناطق بالعربيّة، فأشهرتْ بذلك "إسرائيلُ" سلاحًا إضافيًّا من أسلحتها الناعمة. وتندرج هذه السياسةُ الإعلاميّةُ الإسرائيليّة ضمن مشروع تدجين الواقع العربيّ المحيط، إذ لم تُهملْ "إسرائيلُ" المخطّطَ الصهيونيَّ الداعي إلى إقامة روابط مع الدول العربيّة بفرض نفسها وجودًا "طبيعيًّا" في المنطقة ـــ وليس أفضل من الإعلام في تحقيق ذلك.

بدأتْ "اسرائيل" منذ العام 1948 تأسيسَ أوّل إذاعةٍ ناطقة بالعربيّة، وأربعَ صحفٍ باللغة العربيّة، بهدف بثّ الخطاب الصهيونيّ إلى الجمهور العربيّ، ودفعِه إلى تقبّل وجودها، بما يمهِّد لخلق بيئة تفاهمٍ مستقبليّ معه. وهذا ما حصل بالفعل!

ومع تقدّم المستوى التقنيّ والأداء الإعلاميّ العربيّ والفلسطينيّ في نقل الأحداث بالصوت والصورة، خصوصًا بعد بدء انتفاضة الأقصى (2000 - 2005)، تأسّست الفضائيّةُ الإسرائيليّة باللغة العربيّة للدفاع عن سياسة إسرائيل العدوانيّة تحت مبرِّر "الضرورة التي تحتّمها مصلحةُ إسرائيل العليا." وقد أُنشئتْ بقرارٍ من سلطة البثّ الرسميّ في بداية العام 2001، وكانت تبثّ برامجَها من خلال القمر الأوروبيّ.[3] فأصبحت المنصّةَ التي أرادها الاحتلالُ جاهزةً لتصويب رسائله المشوَّهة نحو الوعي العربيّ بهدف تشتيته، وتفتيتِ المبادئ الوطنيّة الراسخة، كي تتحوّل إلى قضايا قابلةٍ "للنقاش" والمساومات. ومن هنّا تشكّل الصدعُ الذي سمح لوحش التطبيع بأنْ يتغلغل في صلب الوعي العربيّ، وتعدّاه ليصل إلى الوعي الفلسطينيّ، المشتّتِ هو الآخر ولكنْ بطريقةٍ أكثر إيلامًا.

في العام 2013، أطلق الاحتلالُ قناةَ i24، لتكون الابنةَ البارّةَ للدولة الإسرائيليّة في نقل صورةٍ مميّزةٍ عنها، ولخلق صورةٍ ذهنيّةٍ مغايرةٍ للحقيقة. ومع ذلك، فلا يمكننا القولُ إنّها لم تنجح: فهذه القناةُ تُعتبر من الأذرع الإعلاميّة الصهيونيّة المهمّة في أوروبا والعالم، وقد نجحتْ في استضافة محلّلين فلسطينيين من مناطق الداخل المحتلّ عام 48 والعالم العربيّ، بهدف الظهور قناةً موضوعيّةً ونزيهة. تبثّ قناةَ i24 بثلاث لغات (العربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة)، وهي تصف نفسَها بـ"القبّة الحديديّة في وجه الصحافة العالميّة،" مشيرةً بذلك إلى أجندتها السياسيّة وهدفِ إقامتها، ولكنّها تؤدّي - في الوقت نفسه - دورًا ناعمًا في استقطاب الجمهور العربيّ والفلسطينيّ بدعوى "التعدديّة." فكأنّها تضرب بيدٍ من حديد من جهة، وتجرّ إلى التطبيع بهدوءٍ بيدها الأخرى.

في العام 1990، استضافت القناةُ الإسرائيليّة الثانية الرئيسَ الفلسطينيَّ الراحل ياسر عرفات في برنامجٍ حواريّ. وعلى الرغم من خطاب المقاومة الذي تحدّث به عرفات، فإنّ السياق لم يخلُ من كليشيهات "السلام" و"التعايش." ومن الطبيعيّ ألّا تسمحَ وسيلةُ إعلامٍ إسرائيليّة بتوفير منبرٍ كاملِ الحريّة لشخصيّةٍ تُعتبر عدوًّا لها، وإنْ بدعوى "الرأي والرأي الآخر،" كما نفعل نحن في بعض إعلامنا العربيّ! ذلك لأنّ "حريّةَ التعبير والإعلام" وهمٌ استخدمه الإسرائيليون للتغطية على العلاقة بين المؤسّسة الإعلاميّة والمؤسستيْن السياسيّة والعسكريّة في الكيان المذكور. وعليه، فلم يكن وجودُ عرفات إلّا شكلًا من أشكال تسويق فكرة "ديمقراطيّة إسرائيل" أمام العالم. يقول أهارون باراك، الرئيسُ السابق للمحكمة الإسرائيليّة العليا، في هذا السياق: "عندما لا يكون هناك مفرٌّ من الاختيار بين قيمة الأمن وحرّية التعبير، فإنّه بلا شكّ يتوجّب اختيارُ الأمن لأنّ الأمن يمثّل قيمة الحياة."[4] أيْ إنّ المؤسّسة الإعلاميّة الإسرائيليّة لا تتردّد في تفضيل الأمن على حرّية التعبير، ولو أدّى ذلك إلى خدش شعار "الدولة الديمقراطيّة."

لكنْ، على الرغم من وجود رقابة على وسائل الإعلام الإسرائيليّة، فإنّها لا تُعدّ رقابةً قمعيّةً، بل هي عمليّة "توافقيّة" بين النُّخب الإسرائيليّة المسيطرة. ويعزِّز هذا الطرحَ أنّ معظمَ الإعلاميين الإسرائيليين هم من خرّيجي المؤسّسة العسكريّة، ومن ثمّ يحملون نتاجًا فكريًّا من وحي الخبرة السياسيّة، ويتفهّمون هواجسَ المؤسّسة الأمّ في ما يتعلّق بـ"المصلحة الأمنيّة."

ربّما كان حدثُ استضافة عرفات في القناة الإسرائيليّة الثانية حدثًا فريدًا في ذلك الوقت، إلّا أنّنا اعتدنا مشاهدته في الآونة الأخيرة. فبرنامج "المناظرة اليوميّة" الذي تبثّه قناةُ i24 يستضيف شخصيّاتٍ فلسطينيّةً مقابل شخصيّاتٍ إسرائيليّةٍ ذاتِ خلفيّاتٍ سياسيّة، وتجيب كلُّ شخصيّة عن سؤال الحلقة بما يتلاءم مع روايتها - - أيْ يدور النقاشُ عن "وجهة نظر" أيّ الفريقيْن هي الأصحّ!

الإشكاليّة هنا ليست في شكل ظهورنا الفلسطينيّ في وسائل إعلام إسرائيليّة، بل في فكرة ظهورنا ذاتها. فإذا كان الهدف من الحضور الفلسطينيّ هو تعريةَ الاحتلال ومواجهةَ الرواية الإسرائيليّة المشوَّهة المقدَّمة إلى العالم، فهل الهامش الذي نُمنَحُه يُمكِّننا من ذلك؟

من خلال مشاهدة حلقات البرنامج، نستطيع ملاحظةَ "الشّرَك" الذي يقع فيه "الضيفُ" الفلسطينيّ. ففي حين يؤدّي هذا الضيفُ دورًا ثانويًّا في مسلسل "الديمقراطيّة" الذي يلعبه البرنامج، فإنّ محلِّل الشؤون العربيّة الناطقَ بلسان الحكومة الإسرائيليّة يكون هو بطلَ البرنامج الذي أتقن عرضَ وجهة النظر الرسميّة الإسرائيليّة؛ الأمرُ الذي يخلق انعدامًا في التوازن بين الطرفين طوال فترة النقاش. ويبرز ذلك في التوجّه العدائيّ والاستفزازيّ للضيوف الإسرائيليين، وانحياز المُذيع الواضح إليهم.

 

أشرف العجرمي، والمحلّلَ الإسرائيليّ رؤوفن بيركو، على قناة  i24 الإسرائيلية

 

خذوا مثلًا حلقةً حملتْ عنوان "هل نجحتْ حماس في الحصول على مُرادها من خلال حشدها للمسيرات الأسبوعيّة طيلة عام؟" كان ضيفا الحلقة وزيرَ الأسرى الفلسطينيّ الأسبق أشرف العجرمي، والمحلّلَ السياسيّ الإسرائيليّ رؤوفن بيركو. اختيارُ الضيف الفلسطينيّ، أساسًا، يَطرح تساؤلًا عن مدى علاقة وزير أسرى بالموضوع الرئيس. ثمّ إنّ الأسئلة التي وُجّهتْ إلى العجرمي لم تتمحورْ حول مسيرات العودة، فتفرّد بيركو في طرح وجهة نظره اليمينيّة لكونه كاتبًا يمينيًّا مختصًّا بالموضوع الأساسيّ. ومثلُ هذا الأمر يتكرّر في كلّ حلقة يكون فيها الفلسطينيُّ والإسرائيليُّ محلَّ سجال.

المسألة لا تقف هنا. فتكرارُ ظهور شخصيّات فلسطينيّة محددّة في البرنامج يولِّد تساؤلًا آخر: هل هذه الشخصيّاتُ هي الوحيدة التي قبلت الظهورَ في وسيلة إعلام إسرائيليّة، أم أنّ هذه الأخيرة تتعمّد اختيارَ تلك الشخصيّات بناءً على مواقفها السياسيّة؟

أسئلة كثيرة تتعارك للحصول على إجاباتها في هذا الموقف. لكنّ التساؤلَ الأخير هو: لماذا نجحتْ "إسرائيل" في اختراق وعينا الوطنيّ، ووعي الجمهور العربيّ، بهذه السهولة، وفشلْنا في التصدّي له؟ وأيّ دورٍ قام به إعلامُهم... وإعلامُنا؟

رام الله (فلسطين المحتلّة)

 

[1] كفاح زبون، "الإعلام الإسرائيليّ: قوة التأثير والاستقطاب،" جريدة الشرق الأوسط، 2017.

[2] صالح النعامي، العسكر والصحافة في إسرائيل (القاهرة: دار الشروق، 2005).

[3] مركز المعلومات الوطنيّ الفلسطينيّ - وفا، الإعلام الإسرائيليّ.

[4] نجود قاسم، الإعلام في إسرائيل وعلاقتُه بالمؤسّستيْن العسكريّة والسياسيّة (أطروحة ماجيستير، جامعة بيرزيت: كلّيّة الدراسات العليا، 2010).

رواند حلس

إعلاميّة فلسطينيّة. ناشطة في مشروع أنا القدس. خرّيجة جامعة بيرزيت.