القنّاص الأخير
31-07-2016

 

 

(1)

أشعل سيجارته وبدأ يمجّها وينفث سحبَ الدخان في الهواء. كانت الليلة هادئةً على غير العادة؛  لا حركةَ في محيط البرج. فتح هاتفَه، وأرسل رسالةً عبر الواتس آب:

ــــــــ مرحبًا حبيبتي. طمّنيني عنك بخير؟

ــــــــ أهلًا روحي. أنا بخير ومشتاقتلك وكنت عم فكّر فيك.

ــــــــ يلا حبيبي، باقي يومين وأنزل.

ــــــــ ناطرتك على نار الشوق.

ــــــــ حاسس أنّهن سنة. مشتاقلك لعند الله.

ــــــــ وأنا اشتقتلك يا عمري.

ــــــــ يلّا هانت. خلصت استراحتي.

ــــــــ طيّب باي حبيبي. انتبه على حالك.

ــــــــ وأنتِ كمان. باي عمري. بحبِّك.

ــــــــ بحبَّك.

أعاد قراءة المحادثات، حتّى القديمة، غيرَ مرّة. كان يقرأ الحروف ويتخيّل همسَها له. كان يعتقد أنّه سيُنهي خدمته العسكريّة خلال عام ونصف، بعد أن تخرّج من كليّة الصيدلة، فيعود ويتزوّجها ويعيشان في رغد. لكنّ خدمته طالت خمس سنوات ولا يعرف متى تنتهي.

حين همّ بإطفاء سيجارته والتمركز في موقعه، انهالوا عليه بوابلٍ من النيران. لم يكن في وسعه أن يلتفتَ ويرى قاتليه. سقط جثّةً هامدة، ودمُه الحارّ ملأ المكان. تناول أحدُهم هاتفَه ولم يكن بحلجة إلى "باسوورد." التقط صورةً لجثّته على الفور، ووضعها صورة شخصيّة في الواتس آب، وبدّل الحالة من "الوطن غالٍ الوطن عزيز" إلى: "تمّ دعس الخنزير." وسارعوا إلى نشر صوره على حسابه على الفيسبوك، وتبديل صوره الشخصية أثناء حفل التخرّج من الجامعة بصورة جثّته المضرّجة بالدماء. لم يصدّق أحدٌ من الأصدقاء والأقارب أنّ هذه صورته؛ فمنذ نصف ساعة كتب على صفحته: "وإنّنا نعشق الحياةَ ما استطعنا إليها سبيلًا."

ــــــــ حتمًا أحدُهم اخترق صفحتَه ويحاول اللعبَ بأعصابنا.

 استنفر الأصدقاء المقرّبون. أما هي، فقد نامت بعد أن اطمأنّتْ عليه، وهي تحلم باللقاء المُرتقب بعد يومين.

اتّصل به بعضُهم على الفور. ردّ أحد قاتليه على هاتفه:

ـــــــ يا كلاب ما رح نترك منكم واحد... جايكم الدور بإذن الله.

نشر الأصدقاء صوره، وسارعوا إلى تصوير محادثاتهم معه ونشرها، ونعوْه رسميًّا شهيدًا للبرج الأوّل على خطوط التماس. لكنْ لم يجرؤ أحد منهم على الاتصال بها. إلّا أنّ كابوسًا أيقظها؛ فقد رأته في منامها يكاد يموت عطشًا ويطلب الماء، وكلّما اقتربت كي تسقيه منعها أصحابُ الوجوه السوداء.

فتحتْ هاتفها بعد أن رأت بعض الإشعارات. لم تستوعب الأمر. حاولت الاتّصالَ به بلا جدوى. صرختْ إلى أن أُغمي عليها.

 

 (2)

تجمعوا فوق جثّته كالغربان. صرخ رئيسُ مجموعتهم: "اتركوه لا تدفنوه، دعوا جيفته تأكلها الكلاب. لقد قتل منّا الكثير قبل أن نتمكن من قتله."

ردّ أحدُهم: "لكنّ إكرامَ الميت دفنُه!"

أجابه:

"الميت وليس الخنزير. من لديه اعتراض منكم عليه أن يتذكّر ما فعله هذا الخنزير بأخي، الذي كان واقفًا خلف شجرة الكينا الضخمة في مدخل الحيّ. أراد التبوّل قبل أن يمضي إلى الغداء، فاخترقتْ رصاصةُ هذا القنّاص قضيبَه وسقطتْ خصيتاه على الأرض أمامه.

لم نستطع الاقتراب لسحبه. سحب مسمار الأمان من قنبلة يدويّة في جعبته. لم ننتبه إلى ذلك لأنّنا كنّا مشغولين في إيجاد طريقة لإسعافه. لم ننتبه إلّا حين سمعنا انفجار القنبلة.

لم أعرف ماذا سأقول لأمي؛ فقد كانت توصيني به قبل أن توصيني بنفسي. لو كنت أعرف أنّ هذا القاتل يتربّص به ما تركتُه يذهب إلى تلك الشجرة. فقدتُ أخي في لحظةٍ كانت أشبه بالحلم. لا، هو كابوس طويل يراودني بتفاصيله كلّما أطبقتُ جفنيّ.

أعتقد أنّني سأنام مرتاح البال بعد أن أخذت بثأر صلاح. وعدتُ أمّي بألّا أراها إلّا إذا جئتها برأس قاتله، والآن أصبح بوسعي أن أراها رافع الرأس.

لن يشفى غليلي قبل أن نقضي عليهم جميعًا. إنهم لا يستحقون الحياة."

 

(3)

ــــــــ اهدأ يا خالد. منذ أن اخترنا هذا الطريق ونحن نعرف نهايته. علاء ومحمود وطارق، وبالأمس صلاح، وغدًا لا ندري من، ربّما أنا، وربّما أنت. كل فرد منّا حمل السلاح لا خيار أمامه سوى أن يَقتل أو يُقتل. هذا قانونُ الحرب. هذه الحرب بركان ينفث حممه، ولا يبدو أنّها ستبرد قريبًا. قد نفنى جميعًا قبل أن ندرك نهايتها، ومن يدري إنْ كان القادمون سيذكرون تضحياتنا أم لا؟

ــــــــ لا يهمّ. ما خرجنا طلبًا للمجد. نريد إنهاءَ الاستبداد الجاثم فوق صدورنا مهما طال الزمن. وسنقاتل حتّى آخر رصاصة.

ــــــــ أنت تعلم جيّدًا أنّ الرصاص لن ينتهي ما دامت الأصابعُ على الزناد.

ــــــــ إذن، هو نصر أو شهادة. لا خيار آخر غيرهما. إنْ كانت همّتك قد فترتْ، فهذا شأنك. حضن الوطن مفتوح ينتظرك. لكنْ لا تجعلني أراك حينها، وإلّا ستستقرّ رصاصات مسدّسي في رأسك.

ــــــــ ما هذا الكلام يا خالد؟ لماذا تحدّثني بهذه الطريقة ونحن شريكان في مشروعنا منذ البداية؟

ــــــــإذًا لا ترجع إلى مثل هذا الحديث مرّة أخرى وإلّا...

ــــــــوإلّا ماذا؟

أخرج خالد سيجارة مارلبورو من علبة السجائر، وبدأ ينفث دخانها فوق الجثّة الهامدة. قال:

ــــــــ لا شيء يا صديقي لا شيء. دعنا ننتقم لشهدائنا كما يليق بهم. انزعوا عن هذا المأفون ثيابه، ثمّ طوفوا به في شوارع الحي، وعلّقوه وسط الساحة، كي تهدأ أرواحُ إخوتنا وتهدأ نفوسُ أهاليهم.

 

(4)

مرّت ثلاثة أيّام والجثّة معلّقة. لم تعد رائحتُها تسمح بالاقتراب منها والتقاط الصور التذكاريّة معها. بدأت الديدانُ تأكل الأحشاء، واللوعةُ تأكل قلبَ والدةٍ ثكلى وحبيبةٍ مفطورةِ القلب.

كلّ ساعة صورةٌ تذكاريّةٌ جديدة مع جثّته. لم يبقَ في الحيّ مَن لم يلتقط صورةً معها، عن يمينها وشمالها وتحتها، يرفعون أصابعهم بإشارة النصر ويبتسمون. بعضهم التقط صورًا ونشرها عبر الانستغرام والتويتر بعد أن علّق: " سيلفي... وجثّةُ الخنزير خلفي!"

فاحت رائحةُ الموت من الصفحات الافتراضيّة. فتحت الحبيبةُ صفحتها على الفيسبوك وكتبتْ: "ها نحن نطلق الرصاصَ على أحلامنا وقلوبنا الطيبة، ونصرخ فوق الأشلاء والجثث. طوبى للموت. طوبى للموت. طوبى للموت. بالقتل وحده يحيا الإنسان."

دمشق

فراس الهكار

صحفيّ سوريّ من مدينة الرقّة ورئيس تحرير مجلّة قلم رصاص الثقافيّة. مواليد ١٩٨٨. نشر العديد من المقالات والتحقيقات في الصحف السوريّة والمواقع الإلكترونية. يعمل حاليًّا في صحيفة الأخبار اللبنانية.