عيد العمّال: نحو عالمٍ أقلّ وباءً*
01-05-2020

 

كلُّ عيد عمّال والطبقةُ العاملة في لبنان والوطنِ العربيّ والعالمِ بخير.

ورمضان كريم، وفصح مجيد.

المصادفة البحت هي التي جمعتْ هذه المناسباتِ الثلاثَ في أوقاتٍ متقاربةٍ جدًّا هذا العام: عيد العمّال، ورمضان، والفصح. لكنْ، تاريخيًّا، النبيّ محمّد كان عاملًا، وراعيَ غنم تحديدًا، قبل أن يصبحَ تاجرًا. ويسوع المسيح كان نجّارًا. أصلًا، الأنبياء لم يكونوا ملوكًا وأصحابَ مالٍ وجاه. وقد ربط بعضُ القدماء، وضمنَهم علماءُ اللغة، بين رعْي الغنم ورعايةِ البشر، أي سياستِهم بالحكمةِ والعدل، وجمْعِ ما تفرَّق منهم وتشتَّتَ كما تُجمع الغنمُ الضالّة.

باختصار، قد تفيدنا العودةُ السريعةُ إلى أصول نشأة الأديان بتقدير هذه الأديان للعمل والعمّال والفقراء والمِهن "المتواضعة،" وقد تفيدُنا أيضًا بهَجْس الأنبياءِ بنصرة المظلومين في وجه الاستكبار والجشع والثروة. وهذا كلُّه مخالفٌ لِما يقوم به معظمُ رجال الدين حاليًّا، في لبنان على سبيل المثال لا الحصر: من وقوفِ بعضِهم إلى جانب حاكم مصرف لبنان، أحدِ رموز مأساتنا الاجتماعيّة حاليًّا في لبنان، أو تضامُنِ بعضِهم الآخر مع رموز السلطات الفاسدة المتعاقبة منذ العام 1992 بداعي الحفاظ على مكانة "الطائفة الكريمة."

ولأنّ حديثَنا اليوم عن العمّال والعالم ما بعد أزمة الكورونا، فعلينا أن ندليَ ببعض الملاحظات الضروريّة العاجلة في هذا اليوم العظيم.

***

الملاحظة الأولى أنّ هذه الأزمة بيّنت استهتارَ الرأسماليّة-الإمبرياليّة الغربيّة بحياة مواطنيها أنفسهم. ليس مصادفةً أن تكون بريطانيا، وهي الدولةُ ذاتُ التاريخ الاستعماريّ العريق، قد تبنّت، على الأقلّ في بداية الأزمة، سياسةَ "مناعة القطيع،" بما يُظْهر احتقارَها للمسنِّين وللفقراء العاجزين عن توفير بديهيّات الرعاية الصحّيّة. أمّا أميركا، زعيمةُ الإمبرياليّة العالميّة منذ عقود، فقد استخفَّ رئيسُها دونالد ترامب بالمرض من أساسه، وفضّل العملَ المتواصلَ و"المنتِجَ" على سلامة البشر (وهي سلامةٌ تقضي باتّباع سياسة "التباعد الاجتماعيّ")، وبلغ به الأمرُ قبل أيّام أنْ دعا مستشاريه الطبّيّين إلى استكشاف نجاعة حقن المصابين بمادّةٍ مطهِّرةٍ (!)، قبل أن يزعمَ أنّه كان "يَسأل سؤالًا ساخرًا" لا غير.[1] ولا عجب، مع هذا الاستخفاف، أن تتصدّرَ الولاياتُ المتحدة اليومَ قائمةَ البلدان الموبوءة بالكورونا، بحوالى مليون ومئة ألف حالة إصابة و64 ألف وفاة تقريبًا حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات، على الرغم من تقدّمها العالميّ وإمكانيّاتها الضخمة.[2]

في هذا الصدد، علينا أنّ نتذكّر أنّ استهتارَ الرأسماليّة-الإمبرياليّة بصحّة الناس وبالأوبئة ليس وليدَ اليوم، ولا يقتصرُ على أزمة الكورونا الحاليّة. يذكّرنا الرفيق خضر سلامة، في هذا العدد الجديد من الآداب،[3] بأنّ بريطانيا كانت تَعْلم أنّ "الإنفلونزا الإسبانيّة" تتغلغل في البلدان التي تستعمِرها (وتبلغ ربعَ مساحة العالم في البرّ)، لكنّها عتّمتْ على الخبر من أجل مواصلة عمليّاتها الحربيّة بين العاميْن 1918 و1920. بكلامٍ آخر: كانت مصلحةُ بريطانيا في مواصلة الحرب الاستعماريّة النهّابة أهمَّ من سلامة البشريّة الصحّيّة، خصوصًا في بلادنا الخاضعة للاستعمار.

الملاحظة الثانية أنّ الدول التي تنحو المنحى الاشتراكيّ، وأيًّا كانت الملاحظاتُ (المحقّةُ) على بعض سياساتها الداخليّة والخارجيّة، قدّمتْ صحّةَ مواطنيها على "الإنتاج" وجني المال، فاستطاعت تجاوزَ الوباء تقريبًا، بل قدّمت المساعدةَ إلى بقيّة الشعوب المكتويةِ بناره. يكتب د. هشام صفيّ الدين عن "الأمميّة الطبّيّة" التي مارستْها كوبا تجاه الدول الموبوءة، وهي أمميّةٌ تستند إلى تراثٍ غيفاريٍّ قوامُه حبُّ الناس و"التضحيةُ في سبيل الدفاع عن حقّهم في الحياة كغايةٍ في حدّ ذاتها لا وسيلةً للربحيّة أو للإنتاج كما هي الحال تحت الرأسماليّة." وينبّه صفيّ الدين إلى أنّ هذا التضامن الأمميّ لا يقتصر على اليوم، بل يعود إلى بدايات الثورة في الستينيّات، وشَملَ 164 بلدًا، بينها دولٌ تناصبُ نظامَ كاسترو العداءَ![4]

الملاحظة الثالثة، وهي مرتبطة بالثانية، تشدِّد على الدور الذي أدّاه الحزبُ الشيوعيُّ نفسُه، لا الدولةُ فحسب، في بلدانٍ كالصين وكوبا. الشيوعيّون الصينيّون مثلًا، وعددُهم يقدَّر بـ 90 مليونًا، تواصلوا مع مليارٍ ونصفِ مليار مواطن صينيّ من أجل تزويدهم بالطعام والأدوية والفحوص. وهو ما يعني، ببساطة، أنّ الحزبَ الشيوعيّ "الديكتاتوريّ" هناك قد كان، في هذه القضيّة تحديدًا، ونعني قضيّةَ مواجهة وباء كورونا، أكثرَ اهتمامًا بسلامة البشر من كافّة الأنظمة الرأسماليّة "الديمقراطيّة" المتغنِّية بالفرد والحريّات.[5]

***

في عيد العمّال، نقف أمام توحّشٍ متزايدٍ للرأسماليّة-الإمبرياليّة، وأمام استهتارها المتنامي ببديهيّات الصحّة العامّة والبيئة السليمة ومصالحِ الفقراء والمهمَّشين في العالم. لكنّنا نأمل في أن يزداد النموذجُ الاشتراكيّ الإنسانيّ سطوعًا وتقدّمًا، مع ما يقتضيه ذلك من تخفّفٍ ضروريٍّ من كافّة عيوبه ومظالمه عبر التاريخ، من أجل بلوغ عالمٍ أكثرَ اعتناءً بالعمّال والمنتِجين والصالح العامّ والصحّةِ والبيئةِ والزراعة.

بيروت

* في ا أيّار (مايو) 2020، وبمناسبة عيد العمّال، طلبتْ إليّ "صوت الشعب" في لبنان أن أدلي برأيي هاتفيًّا أثناء الحَجْر المنزليّ بسبب وباء كورونا. هنا بعضُ ما قلتُه.

 
سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.

كلمات مفتاحية