المرآة
15-10-2016

 

 

الأستاذ مسعود خرّيجُ كلّيّة الآداب في جامعة الإسكندريّة، قسم التاريخ. رجلٌ تخطّى الأربعين، ويعمل مدرِّسًا للتاريخ في مدرسة النصر الثانويّة في الأنفوشي، وهو حيٌّ فقيرٌ في مدينة الإسكندريّة، وفيه يقع بيتُه القديمُ على بعد خطواتٍ من عمله.

مسعود كان في شبابه دائمَ الابتسامة، كثيرَ المزاح مع أقرانه الذين كانوا يداعبونه بقولهم: "مسعود السعيد سعدالله." وكان أكثرَهم وسامةً. جسدُه متوسّطُ البنيان. يملك عينين خضراوين كحبّتَي البازلاء. شعرُه الأسود الناعم ينهال على جبينه؛ يرفعه بيمناه، فيثير الغيرةَ في قلوب رفاقه، لأنّ أغلبهم مصابٌ بالصلع المبكّر.

في مثل هذا اليوم من شهر مارس، منذ عشرين سنةً بالتمام والكمال، تزوجّ مسعود من إسراء، ابنةِ الثالثة والعشرين من عمرها. وكان يكبرها بسبع سنوات فقط. كان، حينئذ، يعيش وحيدًا بعد وفاة والديه قبل أن يبلغ الثلاثين، ولم يتركا له غير هذا البيت المتهالك، لا يسكن فيه سواه: فلا أخٌ له، ولا أخت.

مرّت السنواتُ تباعًا، فلا ترى أسماءُ حلمَ الإنجاب يتحقّق، فتغرق في الحزن. حاولتْ مع مسعود أن يجدا علاجًا، لكنّ الأطباء أكّدوا أنْ لا حائل بينهما وبين الإنجاب؛ إنّها مشيئة الله!

هكذا مرّت السنوات سريعةً برغم رتابتها: مسعود يذهب إلى المدرسة صباحًا، ثمّ يعود، فيأكل، وينام ساعتين، ليستعدّ لطلبة الدروس الخصوصيّة في مادّة التاريخ، وقد قسّمهم إلى مجموعتين من خمسة طلّاب. لم يكن في حاجة إلى أكثر من ذلك كي يواصل حياتَه، مع زوجته، من دون قروض أو تقسيط.

عصرَ هذا اليوم، حاولتْ إسراء أن تداعبه وهو نائم. رسمتْ قبلةً ناعمةً، كلُّها مكر، تحت أذنه. شعر بدفء أنفاسها فاستيقظ:

ــــ هي الساعة كام؟

أجابته، وهي تلقي بصدرها على صدره، محاولةً أن تحتضنه:

ــــ الخامسة والنصف.

دفعها برفق ليعتدلَ في جلسته، وقال :

ــــ مجموعة عيال الساعة السادسة.

منذ عشرة أيّام وهو يشعر بالإحباط، ويتجنّب لقاءَ زوجته ليلًا، بل يتعمّد السهرَ مع أصدقائه في المقهى إلى ما بعد منتصف الليل، كي يتأكّدَ من أنّها استسلمتْ للنوم. لفت ذلك انتباهَها، فحاولتْ أن تمسك به في وقت العصر، حين يستلقي على سريره لبعض الوقت، لعلّها تثيرُه. لكنّ جرسَ الباب هذه المرّة بدّد ذلك الصمتَ الذي يخيّم على البيت، بغرفه الثلاث الرطبة، وبألوان حوائطه الكئيبة.

كان مسعود مع طلّابه حين خرجتْ إسراء من غرفتها متّجهةً إلى غرفة الدروس القريبة من باب الشقّة. نادت عليه من وراء الستارة :

ــــ أستاذ مسعود... أستاذ مسعود.

تعجّب مسعود، وانتفض واقفًا:

ــــ ثواني يا أولاد، ح شوف فيه إيه!

يخرج إليها قلقًا:

ــــ خير يا إسراء؟ طمّنيني، فيه حاجة؟

تتلعثم:

ــــ أبدًا يا مسعود. بس، في الإنترنت خبر عن دكتور كبير قوي في علاج العقم. وبيقولوا عليه شاطر.

يدفعها بلطف إلى الخلف. يحاول أن يكتمَ صوتَه حتّى لا يسمعه أحد من طلّابه:

ــــ طيب... جميل... وإيه بعد؟

يزداد خجلُها، ولكنّها تستجمع كلَّ طاقتها. تسأله أن يأذن للأولاد بالانصراف، كي يأتي "فيحاول..".

ــــ اليوم عيد زواجنا العشرين. نسيت؟!

يرجع إلى الخلف. لم يسعه إلّا أن يقول لها، كما تعوّد :

ــــ حاضر ...حاضر يا روحي .

تتصنّع الأنوثة والرقّة:

ــــ اصرف الأولاد وادخل الحمّام لتحلق ذقنك. وتعال لي.

ــــ حاضر!

يعود إلى الطلبة محاولًا أن يرسم على وجهه الهدوء. يقول، وهو يلملم الأوراقَ والأقلامَ التي أمامه:

ــــ آسف يا أولاد. نكمل باقي الدرس غدًا. عندي أمر مهمّ.

يغلق الباب وراءهم ويلقي بظهره عليه. ينظر إلى سقف الصالة. حين تزوّج كان أبيض، والآن بات رماديًّا، مع بعض البقع السوداء الكبيرة كالغيوم.

ــــ ادخلْ يا مسعود واحلقْ ذقنك واستحمّ .

ــــ حاضر!

يطأطئ رأسه ناظرًا إلى خطوات قدميه المنكسرة. يتّجه إلى الحمّام كجنديّ ينفّذ أوامرَ قائده.

لأوّل مرّة منذ أسبوعين يرى وجهَه في المرآة. الشعر الأبيض كسا كلّ وجهه، واللونُ الرماديّ كاد يطيح سوادَ شعره. ما هذا؟!

أضاء المصباحَ الذي يعلو المرآة. اقترب منها حتّى كاد يصطدم بها. حاول أن يتحسّس ملامحَ وجهه المجهَد، كأنّه يتفحّص شيئًا غريبًا. وضع يديه على شفتيه كأنّه لا يريد أن يخرج ذلك الصوتُ الذي انفجر داخل صدره:

ــــ هذا ليس أنا!

يدخل على إسراء في غرفة نومها، فيجدها قد تزيّنتْ وتحلّت بكلّ جميلٍ لديها، ما زاد من سخطه. تمتم بكلماتٍ غير مفهومة وهو يرتدي ثيابَه متهيّئًا للخروج :

ــــ خارجٌ لبعض الوقت وسوف أعود.

لا تقدر على الردّ سوى بكلمة سمعتْها منه دومًا، ولم تقلها من قبل :

ــــ حاضر.

يتركها بزينتها وأنوثتها كالأرض التي تشقّقتْ وتهيّأتْ لنزول المطر.

لم تزل إسراء على حالها حتى سمعتْ جرس الباب. فتحتْ، فإذا بمسعود يمدّ يديه لتأخذ منه ما يحمله.

يغلق بيده الباب، ويقترب منها. يضع على ثغرها قبلةً لم تذقْ مثلَ حلاوتها منذ فترة، فتضغط بصدرها على جسده لتدفعه إلى الحائط، وتأخذ منه قبلةً أخرى.

ترجع قليلًا وتقول:

ــــ وجهك الآن ليس كوجهك قبل أن تخرج! أعرفُ أسبابَ هذه السعادة. عادةً إنّها البيرة التي أكرهُ رائحتَها.

يضحك كأنّه يملك الدنيا وما فيها. يقبّلها مرّةً أخرى. يقول، مشيرًا إلى ما في يدها اليمنى:

ــــ أمّا هذه فزجاجةُ نبيذ. ستعيدك الليلةَ إلى أيّام الشباب. ستشعرين كأنْ لم يمرّ على زفافنا عشرون عامًا. نبيذ معتّق، سيّدتي!

ــــ وما تلك التي تغطّيها بورق الجرائد؟

يتّجه إلى غرفة نومه وهو يفكّ حزامَ البنطلون :

ــــ مرآتُكِ في الحمّام قديمة وأصبحتْ عجوزًا. آتيتكِ بمرآةٍ جديدة.

مصر

 

 

علي حسن

شاعر وكاتب من مصر. حاصل على بكالوريوس العلوم من جامعة طنطا قسم الجيولوجيا. يعمل خبيرًا دوليًّا في مجال استخراج النفط. تصدر له أوّلُ مجموعة قصصيّة مطلع العام 2017.