المرأة الفلسطينيّة: بين مجدِ الانتفاض وقفصِ الانتقاص
27-12-2018

 

 

حين قرّرتُ الكتابةَ في الآداب عن "دور المرأة" في الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، وجدتُ نفسي أسيرةَ مسارٍ بحثيٍّ نمطيٍّ مثيرٍ للجدل. وعلى الرغم من أنّ الكثير قد كُتب عن هذا "الدور" في مختلف مراحل التحرّر الفلسطينيّ، فثمّة "حاجةٌ" دائمةٌ، على ما يبدو، إلى الحديث عنه. لذا يأتي هذا المقالُ بمثابة رؤيةٍ نقديّةٍ لا تتوخّى طرحَ الأسئلة عن ذلك الدور (أو الأدوار) فحسب، وإنما طرحَ الأسئلة عن الكتابة عن هذه الأدوار أيضًا، وعمّا يتخفّى تحت قناع هذه الكتابة من إشكاليّاتٍ تحيط بصورة المرأة ومكانتِها في المجتمع.

بدايةً، لا بدّ من استعراض أهمّ أدوار المرأة خلال انتفاضة الحجارة، لا لأهداف التذكير والتأكيد، بل لاعتبار "دور المرأة" في تلك  الفترة نموذجًا يُتّخذ ههُنا لطرح الرؤية النقديّة المتوخّاة.

شهدت انتفاضةُ الحجارة حضورًا قويًّا للمرأة في مقاومة الاحتلال. وتجلّى ذلك في نشاطها السياسيّ عبر انخراطِها في صفوف التنظيمات، وحضورِها في الفعّاليّات الميدانيّة، بالإضافة إلى نشاطِها الإعلاميّ والاجتماعيّ والثقافيّ.[1] وإذا كان الشعبُ الفلسطيني قد أظهر آنذاك أعلى مستوًى من التكافل الاجتماعيّ تعزيزاً لقدرته على المواجهة، وأعلن الحربَ الاقتصاديّة ضدّ الاحتلال بمقاطعة منتجاته والعودة إلى الاقتصاد البيتيّ،[2] فقد كانت المرأةُ فاعلًا رئيسًا في المجالين، اللذين شكّلا بدورهما دعامتيْن أساسيتيْن للانتفاضة الأولى.

من بين الأدوار التي تميّزتْ بها المرأةُ خلال الانتفاضة أيضًا: إنقاذُ الشبّان والأطفال من الاعتقال، وتهريبُهم، وفتحُ بيتها لهم، وإخفاؤهم. وبذلك، كانت حاضنةً ضروريّةً للمنتفضين. وقد صرّحت السلطاتُ الإسرائيليّة آنذاك بالقول: "إنّ الحرب هي الحرب، وإنّ للنساء الفلسطينيّات دورًا فعّالًا في الانتفاضة. لذلك لا بدّ من اعتقالهنّ، وتعذيبِهنّ إذ لزم الأمر، لنزع الاعتراف منهنّ."[3]

 

ناتاشا المعاني، "مريم"، أكريليك على قماش، 2014. 

 

سؤالٌ أوّل: لماذا الكتابة عن"دور المرأة"؟

لكنْ، ما هي منطلقاتُ الكتابة عن المرأة وأدوارها؟ وكيف يُطرح هذا الموضوعُ، مصطلحاتٍ ومفاهيمَ ورؤيةً بحثيّة؟

ليس الهدف هنا اقتراح إجاباتٍ شاملة عن الأسئلة التي يطرحها المقال؛ فذلك يحتاج إلى شبكةٍ من الجهود البحثيّة والمؤسّسيّة. لكنْ يمكن القولُ إنّ الكتابة التي تهجس بـ"دورالمرأة" قد تصبح فخًّا يُوقِع مَن يمارسها (ويقرأها) أسيرَ النظرةِ النمطيّة إلى المرأة. ومع أنّ الوقوع في النمطيّة لم يكن هدفَ تلك الكتابة طبعًا، بل تسليط الضوء على المرأة عنصرًا فاعلًا في مسيرة النضال ضدّ الاحتلال، فإنّ الإشكاليّة تكمن هنا تحديدًا: في الإصرار على تسليط ذلك الضوء مرارًا وتكرارًا! فالحال أنّ الإصرار والتكرار ينطويان، في حدّ ذاتهما، على حاجةٍ تعويضيّة كما سيتّضح لاحقًا.

 

سؤالٌ ثانٍ: لماذا المرأة تحديدًا؟

إلحاقًا بما سبق نسأل: ألا يَخلق ذانِكَ التكرارُ والإصرارُ سؤالًا مشروعًا آخر هو: لِمَ لا توجد مقالاتٌ أو أبحاثٌ تتناول دورَ الرجل في الانتفاضة؟

إنّ تناولَ أدوار فئاتٍ معيّنة، أو أدواتٍ محدّدة، في أيّ مسيرةٍ نضاليّة، أمرٌ مفهومٌ ومطلوب. فمن الممكن، مثلًا، تفهّمُ تناول دور الحركة الأسيرة في الانتفاضة، نظرًا إلى خصوصيّة واقعها كفئةٍ تُواصل نضالَها داخل جدران الأسْر؛ ومن المفهوم التركيزُ على أداةٍ معيّنة لبحث أدوارها ومدى تأثيرها، مثل دور الإعلام أو الثقافة أو الفنّ في الانتفاضة. لكنّ السؤال هنا هو، تحديدًا، عن دوافع الكتابة عن دوْر المرأة دون الرجل، وكأنّ دورَ الرجل (في المنظور الاجتماعيّ) أمرٌ بديهيّ لكونه "صانعَ الحدث،" في حين أنّ المرأة محضُ "مشارِكة،" ومشاركتُها أمرٌ "مثيرٌ للاهتمام" و"مدعاةٌ للإعجاب والتمجيد"!

إنّ الحديث عن دور المرأة دون الرجل يعزِّز في الوعي واللاوعي مفاهيمَ تترسّخ رويدًا رويدًا مع الوقت. ومن بينها أنّ الرجل هو صاحبُ "الدور الأساس،" ومن ثمّ فلا حاجةَ إلى أبحاثٍ عن دوره؛ في حين أنّ دورَ المرأة ثانويّ، ومن ثمّ فهو تالٍ على دور الرجل أو تابعٌ له. وهذا ما يفتح البابَ على أسئلةٍ أخرى عن طبيعة أدوار كلٍّ منهما، وتوزيعِها، وتراتبيّتِها ــ وهو ما سنتعرّض إليه لاحقًا.

ما سبق من مفاهيمَ ترسّختْ في وعينا ولاوعينا يُوضِح لنا الإحساسَ بالحاجة إلى الإفراط من استخدام مفرداتٍ "تشاركيّة" مثل: "شاركتْ" و"انخرطتْ" و"تفاعلتْ" و"قدّمتْ التضحيات"... فيتمّ التعاملُ مع المرأة كما نتعامل مع "الأقلّيّات": ندرك ضمنًا الظلمَ الواقعَ بها، فنُكثر من الحديث عن تضحياتها وأدوارها. بكلامٍ آخر: إنّ تسليطَ الكثير من الأضواء على نضال المرأة الوطنيّ يأتي تعويضًا من انتقاصٍ اجتماعيٍّ لمكانتها وحقوقها.

 

سؤالٌ ثالث: كيف يُنظر حقًّا إلى أدوار المرأة؟

هل يُنظر إلى أدوار المرأة في الانتفاضة الأولى، أو في غيرها من مراحل النضال الفلسطينيّ، على أنها أدوارٌ رئيسةٌ حقًّا؟ أمْ أنّها تُعتبر، في الوعي الجمعيّ، ثانويّةً؟ بعبارةٍ أخرى: هل يُنظر إلى المرأة فاعلًا رئيسًا، أمْ مجرّدَ "شريكٍ" في الحدث؟

على سبيل المثال، ذُكِر سابقًا أنّ المرأة شكّلتْ "حاضنةً" للمنتفضين. فهل يُعتبر دورُها هذا أقلَّ أهمّيّةً من أفعال مقاوِمةٍ تتطلّب مواجهةً مباشرةً وخطرةً مع جنود الاحتلال؟ أليس دورُها حاضنةً يضعها، هي الأُخرى، في مواجهةٍ مباشرةٍ وخطرةٍ معهم؟ ثُمّ، هل السببُ في استمرار الانتفاضة الأولى يعود إلى أدوارٍ وأشكالٍ نضاليّةٍ معيّنة دون غيرها، أمْ أنّ تكاملَ الأدوار المختلفة هو ما ضَمِنَ ذلك الاستمرارَ، وأعطى الانتفاضةَ شموليّتَها الشعبيّة، وجعلها مرحلةً فلسطينيّةً ذاتَ خصوصيّةٍ لا تزال محلَّ تأمّلٍ وفخرٍ وحنين؟

الأمثلة هنا كثيرة. ففي الوعي الجمعيّ، يبدو حملُ السلاح أهمَّ من التظاهر وضربِ الحجارة؛ ويبدو التظاهرُ وضربُ الحجارة أهمَّ من إيواءِ المتظاهر وضاربِ الحجارة؛ وتبدو الفنونُ والآدابُ أقلَّ أهمّيّةً من السلاح والتظاهرِ وضربِ الحجارة. ثمّة تراتبيّةٌ في الأدوار، إذًا، وقد تَواطَأَ عليها الوعيُ الجمعيّ؛ تراتبيّةٌ تَقيس أهمّيّةَ الفعل النضاليّ بمعيارٍ واحد، هو الخسارة المترتّبة على القيام بالدور: فكلّما زاد احتمالُ الخسارة، زاد الدورُ أهمّيّةً. ولمّا كانت الحياةُ، بطبيعة الحال، هي أغلى ما يملكه الإنسان، فذلك يفسِّر، ولو جزئيًّا، عُلوَّ مكانةِ المقاوِم الميدانيّ والشهيد في المجتمع (ويفسّر أيضًا حالةَ جلْد الذات، الشائعةَ لدى العديد من مستخدمي مواقع التواصل، خصوصًا بعد استشهادِ مقاوِم).

هكذا، يبدو، في الوعي الجمعيّ (وهو، في الحقيقة، صحيحٌ إلى حدٍّ كبير في الواقع أيضًا)، أنّ المقاومَ الميدانيّ أكثرُ عرضةً للاستشهاد والاعتقال من فتاةٍ تؤدّي مهامَّها الإعلاميّة وسط التظاهرة، أو تؤمّن لذلك المقاوِم مكانًا للإيواء، أو تمدُّه بالطعام والشراب، أو تقدِّم له الإسعافاتِ الأوّليّة، أو تقودُه إلى أقربِ مستشفى، أو تحضِّر له دِلاءَ الماء والبصل. لذا يبدو دورُه أهمَّ من دورها... على الرغم من أنّ القتلَ والإصابةَ والاعتقالَ والتنكيلَ والنفيَ والإبعادَ، وغيرَها من ممارسات الاحتلال، تَطُول، وإنْ بدرجاتٍ مختلفة، الفلسطينيَّ بغضّ النظر عن طبيعة دوره النضاليّ ــ ــ سواء كان مقاومًا في الميدان، أو داعمًا للمقاوِم بالإيواء وغيرِه، أو صحافيًّا، أو مُحرِّضًا على الفعل الثوريّ، أو كاتبًا، أو فنّانًا؛ بل قد تطول عابرَ الطريق، إذ إنّ مجرّدَ العيش في المكان المستعمَر يصبح مقاومة في ذاته.

ولكنْ، لنسلّمْ جدلًا أنّ الافتراض أعلاه صحيح، وهو "أنّنا كلّما اقتربنا من ميدان المواجهة ازداد احتمالُ الخسارة،" فهل يَصْلح هذا الافتراضُ معيارًا أوحدَ لقياس الدور النضاليّ؟ بكلامٍ آخر: هل يبرِّر "ترتيبَ" الأدوار بحيث يكون أعلاها وأهمّها هو الدور الذي يعرِّض فاعلَه للاستشهاد، ويكون أدناها وأقلّها أهمّيّةً هو الدور الذي يكلِّف فاعلَه الحدَّ الأدنى من الخسارة البشريّة أو المادّيّة؟

إنّ علينا، بالفعل، أن نثير هنا الأسئلةَ الآتية: هل هناك أدوارٌ أهمّ، وأدوارٌ أقلُّ أهمّيّةً، في الفعل الثوريّ أو النضاليّ المقاوِم؟ هل سلاحُ المقاطعة الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة والرياضيّة للكيان الصهيونيّ، مثلًا، أقلُّ فعّاليّةً من أشكال المقاومة الميدانيّة الأخرى؟ ألا يدور الجدلُ دومًا حول فعّاليّة أدوار النضال وأشكاله (بحسب الظروف الزمانيّة والمكانيّة): فتُعتبر المقاومةُ "اللاعنفيّة" (مثل المقاطعة والتظاهر) أكثرَ جدوى وقابليّةً للتنفيذ في هذه الظروف من المقاومة المسلّحة، أو تكون هذه الأخيرةُ أنجعَ وأقوى أثرًا من المقاومة الأولى في ظروفٍ أخرى، أو يكون الجمعُ بين أكثر من شكلٍ من أشكال المقاومة أفضلَ في ظروفٍ مختلفةٍ عن هذه وتلك؟

من العمليّ والمفيد والضروريّ، إذًا، أن نُخضع مفاهيمَ "النضال" و"المقاومة" و"الانتفاضة" و"الثورة" إلى إعادة تعريف مستمرّة، تجعل منها مفاهيمَ حيّةً غيرَ جامدة. ومن الضروريّ أيضًا أن نعيدَ التفكيرَ في فكرة "تراتبيّة الأدوار بحسب أهمّيّتها،" بل أن نتمرّدَ على هذه الفكرة، منطلقين من نقاطٍ أساسيّة، أثبتتْها التجربةُ الفلسطينيّةُ وتجاربُ الشعوب الأخرى في التحرّر. وهذه النقاط هي:

ـــ أوّلًا، إنّ أيَّ مسيرةٍ مقاوِمةٍ للاحتلال يجب ألّا تقتصرَ على فئاتٍ دون أخرى، مثل الرجال دون النساء، أو مثل الطلبة والعمّال والفلّاحين دون شرائح المجتمع الأخرى.

ــــ ثانيًا، إنّ النضال يجب ألّا يقتصرَ على شكلٍ دون غيره. والحقّ أنّ الفلسطينيّ أثبت قدرةً على تجديد أشكال نضاله وابتداعِ أخرى، كما يحدث اليوم في مسيرات العودة في غزّة، وكما حدث في اعتصام باب الأسباط خلال تمّوز 2017.[4]

ــــ ثالثًا، إنّ أي حَراكٍ نضاليّ لن يقيَّضَ له النجاحُ والاستمرار من دون حاضنةٍ شعبيّةٍ تحميه وتدعمه، ومن دون إعلامٍ مدروسٍ يروِّج عدالتَه، ومن دون فاعلين ثقافيين يغرسونه في النفوس ويرسمون آفاقَه ومخاطرَه المحتملة، ومن دون سياسيين ينسجمون مع متطلّباته وأهدافه.

وبالعودة إلى المرأة، فإذا افترضنا أنّها تميّزتْ بأدوارٍ نضاليّةٍ محدّدة دون أدوارٍ أخرى، فهل نعتبر أدوارَها تلك ثانويّةً إذا اعتمدنا النظرةَ الشموليّة التكامليّة إلى مجمل مفهوم "النضال"؟ وهذه مناسبةٌ لنسألَ أيضًا: ألا يجري توزيعُ الأدوار، أصلًا، طبقًا لتقسيماتٍ اجتماعيّة ومعتقداتٍ ثقافيّة تدفع المرأةَ إلى أن تنشطَ في مجالاتٍ معيّنةٍ دون غيرها؟

 

منذر جوابرة، من معرض "ما كان يُعرف"، أكريليك على قماش، 2012.

 

سؤالٌ رابع: هل غيّر دورُ المرأة النضاليّ مكانتَها الاجتماعيّة؟

إذا افترضنا، في المقابل، أنّ الأدوار التي أدّتها المرأةُ في الانتفاضة، وفي المسيرة النضاليّة بشكل عامّ، أساسيّةٌ ومؤثِّرة، فهل أسعفتْها هذه الأدوارُ اجتماعيًّا؟ هل شكّل نضالُها فارقًا حقيقيًّا في مكانتها الاجتماعيّة؟ وهل غيّرتْ تضحياتُها الوطنيّة من النظرة التقليديّة إليها وإلى أدوارها، في اتجاه اعتبارها عنصرًا فاعلًا في المجتمع، قادرًا على الاختيار وتقرير المصير؟

على الأغلب أنّ الإجابة أقربُ إلى النفي. صحيح أنّ النساء الفلسطينيّات يخترقن اليوم بشكلٍ أكبر مجالاتِ التعليم والعمل المهنيّ، غير أنّ ظواهرَ العنف والتمييز ضدّهنّ ما تزال منتشرةً وبنسبٍ عالية.[5] كما أنّ هناك تدنّيًا في حضورهنّ في المواقع القياديّة والمؤثّرة في مختلف المجالات.[6]

ثمّ إنّ اطّلاعًا سريعًا على مواقع التواصل يَعكس واقعًا مأساويًّا عن صورة المرأة الميدانيّة نفسِها. فثمّة فتياتٌ خرجن في الهبّات الأخيرة إلى نقاط التماسّ ليشاركن في التظاهرات ضدّ جيش الاحتلال، فتعرّضن لهجومٍ لفظيّ بسبب لباسهنّ (جينز ضيّق وما إلى ذلك).

إضافةً إلى ما سبق، فقد ساهم تصاعدُ الحركات الإسلاميّة منذ الثمانينيّات في تعزيز صورة نمطيّة عن المرأة المناضلة ذاتِها. فظهرتْ مصطلحاتٌ جديدة ذاتُ دلالات دينيّة ــــ تاريخيّة محدّدة، مثل "الحرائر" و"المرابطات" و"المجاهدات،" تعلي من شأن نساءٍ ينتمين إلى الحركات الإسلاميّة على حساب فلسطينيّاتٍ مناضلاتٍ أخريات. وترافق ذلك مع إبراز وسائل الإعلام ومواقع التواصل صورَ المقاوِمات اللاتي يحملن السلاحَ ويرتدين اللثامَ أو النقابَ الأسود في غزّة، وصورَ "المرابطات" في المسجد الأقصى. كلُّ ذلك دفع شريحةً كبيرةً من المجتمع إلى عدم تقبّل التنوّع في مظاهر المناضلات، مع أنّ نظرةً سريعةً إلى صور الانتفاضة الأولى تُظهر تنوّعًا في أزيائهنّ: ما بين زيٍّ فلسطينيّ تقليديّ (الثوب المطرّز)، وآخرَ مدرسيّ، وثالثٍ منزليّ، ورابعٍ عصريّ (كما في الصورة الشهيرة للسيّدة ذات الحذاء الأصفر بكعبٍ عالٍ).

***

كانت تلك محاولةً لطرح الأسئلة وفتح النقاش حول المرأة الفلسطينيّة، التي تتأرجح صورتُها في المخيّلة الجمعيّة بين تمجيدها في أدوار الانتفاض إلى حدّ الأسطرة من جهة، وأسْرِها في قفص الانتقاص واعتبارِها كائنًا تابعًا عاجزًا عن الاختيار والتأثير في شتّى المجالات والمواقع من جهة ثانية.

يقول غسّان كنفاني: "إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضيّة، فالأجدر بنا أن نغيِّر المدافعين لا أن نغيّر القضيّة." و"تغييرُ المدافعين" لا يعني بالضرورة فقط استبدالَ شخوصٍ بآخرين يفوقونهم موهبةً وإبداعًا ومهارات. إنّ مجتمعًا يَرفض الدخولَ في صيرورةِ تَغيُّر حيويّةٍ، ويرفض نقد أفكار ومعتقداتٍ يعتبرها مسلَّمات، سيُنتج دومًا "المدافعين الفاشلين" أنفسَهم. إنّ "تغييرَ المدافعين" يعني أنّه إذا كان علينا كفلسطينيين أن نخوضَ مسيرةً لتحرير الأرض من الاستعمار، فإنّ علينا أيضًا أن نقودَ، بالموازاة، مسيرةً داخليّةً تُحرِّر الإنسانَ ــــ ذكرًا وأنثى ــــ من سجون النمطيّة والتفرقة والتمييز والتعصّب الدينيّ والفكريّ.

نعم، لا بدّ من ذلك كلّه، لكي يَقبل الفلسطينيُّ الفلسطينيَّ، ولكي تنطلق الطاقاتُ الإبداعيّةُ الكامنة فيه، فَتُدَعِّم أسسَ مسيرته النضاليّة بقناعاتٍ وممارساتٍ أعمقَ وأوسعَ حول مفهوم "الحرّيّة"؛ ولكي لا يبقى هذا المفهومُ، ومفاهيمُ أخرى مثل "المساواة" و"تقبّل الآخر" و"تحرير الأرض والإنسان،" مجرّدَ شعاراتٍ خاوية، لا تُغيّر المدافعين عن القضيّة فعلًا.

القدس المحتلّة


[1] ﺭﻀﻭﻯ ﻋﺒﺩ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭ، "ﺍﻟﻤﺭﺃﺓ ﺍﻟﻔﻠﺴﻁﻴﻨﻴّﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻨﺘﻔﺎﻀﺔ ﺍﻟﺤﺠﺭ وانتفاضة ﺍﻷﻗﺼﻰ ﻭﺍﻻﺴﺘﻘﻼل،" ﺼﺎﻤﺩ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ، ﻋﺩﺩ 142، ﺘﺸﺭﻴﻥ ﺍﻷﻭل ــــ كانون ﺍﻷﻭل 2005، ﺹ165 ــــ 176. ويأتي دورُ المرأة الفلسطينيّة في الانتفاضة الأولى استكمالًا لمسيرة طويلة خاضتها منذ ما قبل ثورة العام 1936، التي شاركتْ في صنع أحداثها، عن طريق تنظيم المظاهرات، ومدّ الثوّار بالطعام والماء، وحملِ السلاح أيضًا. وتعرّضت المرأة خلال الثورة إلى الضرب والاعتقال والقتل والاغتصاب. انظروا: محمد عقل، "دور النساء في ثورة 1936،" موقع عرب 48، 26 تشرين الأول 2013: https://bit.ly/2PUS2Gu

[2] محمود عبده، "الانتفاضة الفلسطينيّة والهويّة الوطنيّة،" ﺼﺎﻤﺩ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ، ﻋﺩﺩ 141، تمّوز ــــ أيلول 2005، ﺹ 194 ــــ 203.

[3] "دور المرأة في الانتفاضة،" وفا: http://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3477

[4] تبقى لهذا الحدث، أي اعتصام باب الأسباط، خصوصيّتُه التاريخيّة، المقدسيّة الفلسطينيّة، المستمدّةُ من مكانة القدس نفسها، ومن واقعها كبؤرةٍ في الصراع، ومن مركزيّتها في الوعي الجمعيّ. وقد انعكس ذلك على شكل الاحتجاج والاعتصام أمام باب الأسباط، وذلك عبر مظاهر التكاتف التي تعيد إلى الذاكرة روحَ الانتفاضة الأولى. ومن أهمّ أشكال الاحتجاج في هذا الاعتصام: الاصطفافُ في أوقات الصلاة، التي ضمّت شبّانًا ليسوا متديّنين بطبيعتهم أو ليسوا في العادة من المحافظين على أداء الصلوات؛ كما ضمّت مسيحيين اصطفّوا مع المصلّين المسلمين، حاملين الكتابَ المقدّس، وصلبانُهم معلّقةٌ على صدورهم ــ ــ وهو مشهدٌ تحوّل إلى أيقونةٍ للتلاحم الفلسطينيّ في مواجهة الاحتلال. كما برزتْ مظاهرُ أخرى لافتة، مثل: توزيع الطعام والمشروبات على المعتصمين، مصدرُها متبرّعون من أهل المدينة ومن فلسطين المحتلّة عام 1948؛ ومثل حملات التنظيف المستمرّة لمكان الاعتصام؛ وفتحِ بيوت المقدسيّين للمعتصمين؛ والوجودِ الإعلاميّ المكثف؛ ونقلِ الحدث أوّلًا بأوّل وبالبثّ المباشر على مواقع التواصل الاجتماعيّ. انظروا: مليحة مسلماني، "باب الأسباط: أيقونةُ القدس الثائرة وذاكرةُ الانتصار،" ضفّة ثالثة، 24 آب 2017: https://bit.ly/2gdNrTs

[5]عبد الغني سلامة، "العنف ضدّ النساء في فلسطين،" مركز الدراسات والأبحاث العلمانيّة في العالم العربيّ، 10/12/2015:

http://www.ssrcaw.org/ar/print.art.asp?aid=496171&ac=2

[6] 82.8% من القضاة ذكور، مقابل 17.2% إناث؛ و77.5% من المحامين المزاولين للمهنة ذكور، مقابل 22.5% إناث؛ و83.3% من أعضاء النيابة العامّة رجال، مقابل 16.7% نساء، وذلك خلال العام 2015. كما لم تزد نسبةُ السفيرات الفلسطينيّات عن 5.8%، مقارنةً مع 94.2% للسفراء؛ و21.1% من المهندسين المسجّلين في نقابة المهندسين نساء، مقارنة بـ 78.9% رجال؛ و23.2% من أعضاء مجلس الطلبة في جامعات الضفّة الغربيّة إناث، مقابل 76.8% ذكور. انظروا: "اليوم العالميّ للقضاء على العنف ضدّ المرأة،" وفا، 25/11/2017:

http://www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=KMNU5ha805054551345aKMNU5h

مليحة مسلماني

أديبة وفنّانة فلسطينيّة تقيم في القدس. حصلتْ على درجة الدكتوراه سنة 2011، وكان موضوع أطروحتها: تمثّلات الهُويّة في الفنّ الفلسطينيّ المعاصر في المناطق المحتلّة عام 1948. نُشر لها العديد من الدراسات والمقالات في الفنون البصريّة والثقافة، بالإضافة إلى إصداراتها الأدبيّة.