المرنيسي وإستراتيجيّة التابع (ملفّ)
28-02-2016

 

فاطمة المرنيسي مفكّرة سندباديّة أبحرتْ بسفينة المعرفة بين الشرق والغرب، بين التراث والحداثة، بين العلوم والحكايات واللغات والثقافات. هي عالمةُ اجتماع، ومثقّفة نسويّة، وروائيّة، تتنقل بين الحدود المعرفيّة والجغرافيّة.

 

الحريم منتوج شرقيّ وغربيّ

في عملية الإبحار تلك، اتضح للمرنيسي أنّ "الحريم" ليس منتوجًا شرقيًّا، أو ماركةً مسجّلةً باسم المجتمعات الإسلاميّة، بل هو أيضًا منتوجٌ غربيّ. الفرق بينهما أنّ الحريم الشرقيّ واقعٌ تاريخيّ، بينما الحريم الغربيّ متخيّلٌ استيهاميّ: "إنّ حريمي يحيل على واقعٍ تاريخيّ. أمّا حريمُهم فيستمدّ قوّته من الصور التي خلقها الرسّامون الذين كانوا يستمتعون بخلق نساءٍ "سجينات،" ناسجين بذلك رابطًا لامرئيًّا بين المتعة والاستعباد." (شهرزاد ترحل إلى الغرب، ص27)

 

لغة المرنيسي

تمرّدت المرنيسي على الحدود الأكاديميّة "المقدّسة" بين لغة المعرفة العلميّة ولغةِ الأدب، بين السوسيولوجيا والخيال، بين النظريّة والحكاية. لم تكن السوسيولوجيا بالنسبة إليها مسألةَ نماذج نظريّة مجرّدة، بل كانت أيضًا ميدانَ ممارسةٍ للكتابة، ولأسلوبٍ أبدعتْ فيه لغتها الخاصّة.

هذه اللغة الخاصّة لغة انتهاكيّة، لا تصطنع الحيادَ الموضوعيّ، بل هي مفتونةٌ بسحر الحكاية وأجنحةِ الحلم و"إغواءِ اللغة." لم تكن المرنيسي لتستطيع الإفلاتَ من لغتها الأدبيّة، لغةِ شهرزاد، ومن ذاكرتها الطفوليّة، حين كانت تستمع إلى حكايات جدّتها (الياسمين). هكذا تعقد ميثاقَها مع القارئ، في كتابها الحريم السياسيّ، بلغة طقوسيّة تحلّق بأجنحة التخييل في الماضي والذاكرة:

"هذا الكتاب ليس بكتاب تاريخ؛ فالتاريخ هو دائمًا لغةُ جماعة، حكايةُ عرضٍ تخاط تحت أغطيةٍ ذهبيّة، وتُعرض عند طقوس التبريك الذاتيّ. هذا الكتاب يريد أن يكون لنفسه قصّة ـــــ ذكرى؛ انزلاقًا نحو أمكنةٍ تنسحب فيها الذاكرةُ، وتعتَّم التواريخُ، وتتلاشى الأحداثُ ببطء، كما في الأحلام التي تحمل لنا القوّة. هذا الكتاب ـــــ السفينة لا يرجع إلى القرون إلّا من أجل أن يَستخرج عصارةً أسطوريّةً تعمل على إنبات الأجنحة وتتيح لنا الانطلاقَ صوب الكواكب الجديدة."

 

ممارسة المعرفة في وجه الإسلام السياسيّ

فاطمة المرنيسي لم تكن مجرّدَ عالمة اجتماع نخبويّة، معزولةٍ عن ديناميّات الصراع الاجتماعيّ، بل كانت ناشطةً في المجتمع المدنيّ، وخاضت نضالاتٍ ميدانيّة من أجل المساواة وحقوق النساء. وقد جسّدتْ في ممارستها السوسيولوجيّة وحدة النظريّة والتطبيق، سعيًا وراء تصفية الحساب مع السلطة، وبالتحديد مع الإسلام السياسيّ.

لكنها أثناء هذا السعي أوضحت فارقًا مهمًّا بين "إسلاميْن":

"تحاشيًا لكلّ سوء فهم وكلّ تشويش، فإنّه من الطبيعيّ ـــــ في كلّ مرّة أتحدّث فيها عن الإسلام دون وصفٍ في هذا الكتاب ـــــ أنّني أقصد الإسلامَ السياسيّ، الإسلامَ كممارسةٍ للسلطة، وأعمالَ الرجال المدفوعين بمصالحهم، والمشبعين بالأهواء؛ وهو ما يخالف الإسلامَ ـــــ الرسالة، الرسالةَ الإلهيّة، الإسلامَ المثاليّ، المدوّنَ في القرآن. وعندما أتكلّم عن هذا الأخير فإنني أعبّر عنه بالإسلام كرسالة أو الإسلام الروحيّ." (السلطانات المنسيّات، ص 18)

هذه الرؤية النقديّة هي ما يوجّه كتابَها الحريم السياسيّ، الذي  اتّخذ منحًى حفريًّا (أركيولوجيًّا) حول النصّ الدينيّ، بهدف كشف "نظام الحقيقة" الذي حكم  تشييداتِه الإبستيمولوجيّة وبرّر استعمالاتِه السياسيّة. وقد قادها هذا المنهجُ الحفريّ إلى تأكيد تاريخيّة الأحكام حول المرأة، إذ كشف وجودَ ترابطٍ بين أحكام الفقهاء وبين العناصر الإيديولوجية المحدِّدة لشروط هذه الأحكام: "إنّ النصّ الدينيّ لم يجْرِ تداولُه فحسب، بل إنّ تداوله هو خاصةٌ بنيويّةٌ لممارسة السلطة في المجتمعات الإسلاميّة. فككلّ سلطة، منذ القرن السابع عشر، لم تكن تبرَّر إلّا بالتديّن، دفعت المغامراتُ السياسيّة إلى تصنيع أحاديث كاذبة. " وهذا ما يفسّر استخدامَ السلطة النصَّ الديني لأغراض سياسيّة، "الأمر الذي يسمح على الفور بإضفاء الشرعيّة على هذا الفعل أو ذلك الموقف." (الحريم السياسيّ، ص 19).

 

الاشتباك المعرفيّ على أرض "الخصم"

تتبدّى قوّةُ خطاب المرنيسي أيضًا في اشتباكها مع العقل الدينيّ المحافظ على أرضه. وهنا يظهر مفهومٌ أساسيٌّ في منهجها، هو ما تسمّيه الناقدةُ النسويّةُ ما بعد الكولونياليّة، سبيفاك، التفاوض negotiation، وهو "أن يحاول المرءُ تعديلَ شيءٍ ما فُرض عليه... لأنّه مرغم على الإبقاء على تلك البنيات ولا يستطيع قطعَها تمامًا."

المرنيسي، من خلال اقتحامها مجالَ الخطاب الدينيّ، المسيّجِ بإجراءات سلطةِ الفقهاء والسلطةِ السياسيّة، دخلتْ في اشتباكٍ مع الفقهاء على حلبتهم المعرفيّة، في عمليّة تفاوضٍ عنيفةٍ مع الإسلام السياسيّ، مسلّحةً بإرادةٍ شرسةٍ للمعرفة، ومجهّزةً بمعارف التراث والحداثة، لتخْلص إلى  تأكيد تاريخيّة الخطاب الديني: إنه "نصّ تجتمع فيه السياسةُ بالمقدّس، ويجتمعان ويذوبان فيه لدرجة يصبحان غير متميّزيْن." (الحريم السياسي، ص 19)

وهنا كانت المرنيسي تمارس تكتيكًا ما بعد كولونياليًّا، يتمثل في  "أنّ الخصم يجب أن يحارَبَ على أرضه وبأساليبه." وهذا التفاوض، وما ترتّب عنه من تعريةٍ لأنساق الإيديولوجيا والسلطة في الخطاب الدينيّ، قادها إلى إعادة كتابة تاريخ المرأة في الإسلام، لا من وجهة نظر الذكورة المهيمنة، أو ما تسمّيه رجاء بن سلامة "بنيان الفحولة،" أو وجهة النظر الاستشراقيّة، وإنّما من خلال الدور التاريخيّ للتابع (the subaltern)، أيْ من خلال دور المرأة المنسيّة والمهمّشة في تاريخ الإسلام.

في هذا السياق عملت المرنيسي على التنقيب عن صور فاعليّة المرأة ومقاومتها لسلطة الرجل. وهذا ما سلّط الضوءَ على تاريخٍ منسيٍّ ومشطّب، تولّت فيه المرأةُ أدوارًا سياسيّةً في تاريخ الإسلام، ومارستْ فيه حقوقها السياسيّة والمدنيّة (عائشة الحرة، أمّ سلمة، سكينة، أسماء، أروى، راضية، شجرة الدرّ). وفي كتابها السلطانات المنسيّات تؤكّد بالنصوص والوقائع "أنّه قد وُجد في الماضي نساءٌ تولّين قيادةَ دولةٍ مسلمةٍ، ولكنّهن شُطبن من التاريخ الرسميّ، وأنّ إخفاءهنّ يمثل كلَّ مظاهر الاغتيال التاريخيّ."(ص 14).

 

التقليد الشفويّ

هذا الاهتمام بإعادة قراءة الفكر الإسلاميّ من منظور التابع/ المرأة هو ما يفسّر أيضًا اهتمامَها بالتقليد الشفويّ في ممارستها الاجتماعيّة، وعدمَ الاكتفاء بالمتن المكتوب وحده. ذلك أنّ التقليد الشفويّ يجسّد بلاغةَ المقموعين، والحيّزَ الذي يتحرّر فيه التابعُ المقموعُ ويستعيد صوتَه ويتكلّم:

"كانت جدّتي لا تعرف القراءة والكتابة، [لكنّها] كانت أكثرَ تحرّرًا من النساء المتعلّمات. ويعود ذلك أساسًا إلى كونها كانت تعتمد التقليدَ الشفويّ لتمرير التحريفات والبِدَع (...). الشفويّ يُفلت من الرقابة، وخلال التاريخ الإسلاميّ بأكمله أعجز التقليدُ الشفويُّ أشرسَ المستبدّين، الذين كانت رقابتُهم لا تطال المكتوب." (شهرزاد ترحل للغرب، ص 10)

وإذا كانت الكتابة في المجتمعات البطريركيّة ممارسة سلطويّة، فإنّ التقليد الشفويّ شكّل للمرأة حيّزًا للتحرّر من سلطة القانون المكتوب: "ما كان يفاجئنا هو أنّ الجنس الأذكى في الحكايات الشفويّة هو الجنسُ المغلوب على أمره في الواقع، أيْ النساء. وإذا كان القانونُ المكتوبُ يمنح الرجالَ سلطة التحكّم فيهنّ، فإنّ العكس هو الصحيح في التقليد الشفويّ." (شهرزاد ترحل للغرب، ص 10)

 

كتابة ضدّ النسيان والتهميش والاستبداد

نخلض إلى أنّ الكتابة في تجربة المرنيسي كتابةٌ مقاومةٌ ضدّ النسيان التاريخيّ، والتهميش الاجتماعيّ، والاستبداد السياسيّ، من أجل أن "نرفع الحُجُبَ... حجبَ معاصرينا التي تزيّف الماضي لكي تحجب عنا حاضرنا." (الحريم السياسيّ، ص21).

إنّها كتابة محمّلة بعبء التجربة، تجربةِ جرح المرأة الوجوديّ. تمارس فاعليّتَها الخطابيّة، متوسّلةً استراتيجيّةَ "الردّ بالكتابة" على أرشيف الهيمنة الذكوريّة في تاريخ الإسلام، فتكشف تواريخَ جديدةً، بديلةً لتاريخ الحريم السياسيّ: تواريخَ تنويريّةً، منقوشةً بنون النسوة، وبمقاومةِ المرأة، وبانزياحاتٍ في الهندسة السياسيّة، قادتها نساءٌ تمردنَ على سياج الهندسة الاجتماعيّة البطريركيّة.

المغرب

 

محمد بو عزّة

أستاذ في جامعة مولاي اسماعيل.