اليمن: حربٌ لتأكيد الهيمنة (ملفّ)
18-03-2016

 

حذّر الرئيس اليمنيّ السابق علي عبد الله صالح، عند صعود الاحتجاجات المطالبة برحيله (2011)، من أنّ الحربَ ستكون من "طاقة إلى طاقة،" في إشارةٍ إلى ما سينتجه تخلّيه عن السلطة من أهوال. وكان قد حذّر من "الصوملة،" التي تعني أنْ لا أفق سياسيًّا من دون مفاتيحَ يحملها في يده. ولعلّ السلطة عمليّةُ ابتزازٍ تحظى بالتشريع الأكثر تماسكًا لكونها ظاهرةَ قمعٍ تَفرض نفسَها من خلال إثارة بدائلَ مرعبة. وفي المقابل كان الرئيس عبد ربّه منصور هادي يصرُّ على مخرجات الحوار الوطنيّ بديلًا من الاحتراب الأهليّ ـــ وهي صورةٌ توضح تفاوتَ ما يمتلكه الطرفان من أدوات قوة، إذ عندما أعلن صالح تنحّيه عن الحكم استبقى كلّ أدوات السلطة بيديه.

ثمّ إنّ "الحوار الوطنيّ" كان أساسَ مبادرةٍ خليجيّةٍ لتوافقٍ مختلٍّ منذ لحظته الأولى، ومَنح هادي شرعيّته رئيسًا. غير أنّ التوافق حين لا يعترف بالاختلاف يولد ميتًا؛ فما لم يتمّ احتواءُ تعدّد الناس، عبر تشريعاتٍ تصوغُ تعارضاتِهم، فستنمو الشقاقاتُ في الخفاء، قبل أن تطفو سرطاناتٍ مميتة. ومع اتّساع الشقاقات بين اليمنيّين تنامى دورُ الخارج، من دون أقنعةٍ يتستّر بها.

 

حرب التصدّع

انحصر الرئيسُ الانتقاليّ في العاصمة بين مركزيْن انفرط تحالفُهما: علي صالح وعلي محسن. كانت العمليّة السياسيّة محكومةً بالانشقاق في رأس الجيش والقبيلة. ومع تصفية المنشقّين تشكّلتْ سلطةٌ انقلابيّة، واندلعت المعاركُ في صعدة، بدءًا بطرد السلفيّين من دماج. تبع ذلك تمدّدُ الحوثيّين في قلب قبيلة حاشد، واستولوْا على مدينة عمران، ثم اجتاحوا صنعاء .

هل عملت الحربُ على تصدّع القبيلة؟ ربّما. لكنْ مع سقوط صنعاء، أزاحت القبيلةُ أسبابَ التصدّع داخل جدارها العصبويّ. كانت الحربُ أشبهَ بعمليّةٍ جراحيّةٍ لاستئصال المنشقّين، فدُحر حزبُ الإصلاح الطامح إلى السلطة بعد أن شكّل اختراقًا خطيرًا داخل هذه القبيلة، بإيديولوجيّته "الدخيلة،" بعد أن كانت القبيلة مضمونةَ الولاء للإمام بحكم المذهب.

وثّقت الكاميراتُ مسلّحي الحوثي وهم يحرّكون الدبّابات الخاصّة بالفرقة نحو عمران، في صورةٍ توضح استيلاءهم على ألويةٍ كاملة. أمّا معسكراتُ الحرس الجمهوريّ الموالية لصالح فظلّت من دون مسّ. وقد اقتضى ذلك التحالفُ منحَ الحوثيّ حصّة الشريك المنشقّ (معسكراتٍ وشركاتٍ)، لتبدو مؤسّسةُ الجيش والدولة أشبهَ بإقطاعيّات.

 

تأويل الخطاب الجهويّ

بعد أيّامٍ من سقوط صنعاء، ظهر صالح في خطابٍ يؤكِّد أنّها سقطتْ في يد أهلها، مجسّدًا الطابعَ الجهويّ للانقلاب. فهل يعني ذلك أنّ هادي لا يمثّل تلك الجهة؟ وفي الوقت نفسه أثار الخطابُ حشدَ مقاتلين قبليين. وهكذا ظهر الجيشُ في أوج تماهيه بالقبيلة، بل تمادى منساقًا في غلاف ميليشيا ذاتِ نزوعٍ طائفيّ.

احتكرت القبيلةُ العنفَ إلى جانب الدولة، وظهرت تلك الثنائيّة المتنافرة، والمركزيّةُ في الموروث السياسيِّ اليمنيّ، حالةَ عبءٍ جسَّدها سقوطُ صنعاء في مظهرٍ قروسطيّ. استطاع محرّكو الحرب إثارةَ مشاعر الخطر عبرَ التركيز على الهيمنة الجهويّة، التي تعتمد على أمرين: المؤسّسة العسكريّة النظاميّة، والعصبيّة القبليّة المنظّمة. ولم يكن الحوثيُّ إلا ظاهرةً تمترس وراءها خطابُ السلطة الأحاديّ.

غير أنّ القيبلة لا تحتكر الحكم وحده، بل التنافسَ غير المشروعِ حوله أيضًا. فحين قاد الصراعُ على مركز النفوذ والثروة إلى انشقاقٍ داخلها، تأطّر كلُّ طرفٍ خلف صيغةٍ راديكاليّةٍ يوظّفها لتزعّم المركز. وهنا نتساءل: هل كان محسن وحلفاؤه، عبر حزب الإصلاح، سيوافقون على صيغةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ تنكمشُ فيها هيمنةُ القبيلة؟

سلطة هادي كانت مهدّدةً من الطرفين على حدٍّ سواء، ما إنْ يقضي أحدُهما على الآخر. في مكالمةٍ مسرّبة، صرَّح حميد الأحمر (لمندوبِ الأمم المتّحدة السابق في اليمن جمال بن عمر) أنّه كان بمقدورهم الانقلابُ على هادي. ربما كشفتْ هذه المكالمة نوايا هذا الطرف، بل استعداده أيضًا، عبر إطار ثوريّ جاهز، لانقلابهم.

 

إزالة التهديد السياسيّ

حُدّدت المرحلة الانتقاليّة بعامين، شرطَ استكمال بنودها وتنفيذها. أفضت مخرجاتُ الحوار الوطنيّ إلى دولةٍ اتّحاديّةٍ من ستّة أقاليم، ما يعني تقويضَ هيمنة المركز السياسيِّ للقبيلة، أي العاصمة. وقد اقتضى الدستورُ الجديد تمثيلًا متساويًا داخل الجيش والمؤسّسة الأمنيّة بين أبناء المناطق اليمنيّة. لا يمكنُ التكهّنُ إنْ كان هذا التمثيل سيمنح الجيشَ طابعًا وطنيًّا، لكنّ المؤكّد أنه سيحدّ من الاحتكار الجهويّ.

هدفت الحربُ في الداخل إلى إزالة التهديد السياسيّ المباشر لهيمنة المركز، الممثّل في الفيدراليّة والدستور. على الأرض تثبت الحربُ فكرةَ الأقاليم: كلُّ إقليم يتشكّلُ وفق مضمون مقاومةِ الحوثيّ. ورغم أنّ الجغرافيا القبليّة، في أقصى الشمال، تمثّل أقليّةً بالنسبة إلى السكّان في اليمن، فإنّها كتنظيمٍ عصبيٍّ جاهزٍ تشكِّلُ الأغلبيّة. وقد اعتمد الحوثيُّ على إعادة الروح المذهبيّة، التي ستعمّق الانقسامات داخل المجتمع وصولًا إلى الحرب الحاليّة؛ فقد ركزَّ خطابَه على تعميق ولاء القبيلة حوله، أمّا مضمونُ خطابه الوطنيُّ فكان يترتّب على السيطرة لا غير.

لم تكن الحربُ بشكلها النهائيّ وليدةَ المصادفة، بل جاءت على دفعات. تغيّرتْ سيناريوهاتُها وفق تغيّر الظروف، حتى تهيّأتْ على ما هي عليه. وشأن معظم الحروب فإنّها لا تعلن دوافعها الحقيقيّة. ما حدث أنّ القبيلةَ، كقوةٍ راسخة، أعادت تسمية مظاهرها المتعدّدة للحكم.

 

الحشد جنوبًا، أو إعادة المسمَّيات

بعد هروب الرئيس الانتقاليّ، عبد ربّه منصور هادي، من إقامته الجبريّة في صنعاء إلى عدن، تمّ حشدُ ألويةٍ عسكريّة، ومسلّحين قبليّين وحوثيّين. كان المشهدُ أشبهَ باستنساخٍ كاريكاتوريٍّ لحرب 1994، التي اقتضى حسمُها 60 يومًا. لكنّه كان هذه المرّة أكثر مأساويّةً، إذ اجتيح الجنوبُ في أيّامٍ معدودات.

تغيّرتْ خريطة التحالفات الداخليّة. سقط اللواء الرابع في عمران على يد الحوثيّ وأنصار صالح، وقُتل قائدُه "القشيبي" الذي دشَّن الحربَ ضدّ الجنوب، حين هاجمتْ دبّاباتُه معسكرًا جنوبيًّا صغيرًا تمركز في عمران، بينما كان الجنودُ يتناولون الغداء. وسيؤدّي حسمُ الصراع جهويًّا إلى حسمه يمنيًّا.

توعَّد صالح بالاجتياح، حين أعلن أنّه سيترك للانفصاليين (هادي وحلفائه) مهربًا واحدًا سمّاه "باب المندب،" مشيرًا إلى أنّه في العام 1994 ترك لهم ثلاثة منافذ. كانت تلك إشارةَ الاستعداد للتحرّك نحو عدن؛ ولأنّ صالح يتخفَّى وراء سلطةٍ انقلابيّة فقد اكتفى بخطاب "الوحدة" قناعًا وطنيًّا يخوّله إعلانَ الحرب. وجاء إعلانُ التعبئة العامّة، التي أعلنها الحوثيّ واجهةً للانقلاب، بعد عمليّتين إرهابيّتين استهدفتا جامعَي الحشوش وبدر، وأسفرتا عن قتل العشرات، بينهما واجهتان دينيّتان للمذهب الزيديّ. وبصرف النظر عن إعلان داعش مسؤوليّتها، فقد استكملت الحربُ أركانها باستحضار التعبئة الدينيّة. في حرب 1994 وظّف حزبُ الإصلاح الإسلاميّ، الحليفُ الرئيسُ حينها، الخطابَ الدينيَّ لتعبئة المقاتلين ضدَّ "الكفّار الشيوعيّين"؛ بينما سيستخدم حليفُه الجديد، الحوثيّ، خطابَ تعبئةٍ ضدَّ "التكفيريّين" أو "الدواعش."

هي حربٌ تبدّلَ فيها الحلفاءُ والأعداءُ والمسمَّيات: "تكفيريّون" بدلًا من "كفار،" و"دواعش" بدلًا من "شيوعيّين،" و"فيدراليّة" بدلًا من "انفصال." ولم تكن حربًا موجّهة ضدَّ الجنوب وحده، بل شملت اليمنَ كلَّها.

لكنْ ما المغزى من إعادة مشهد اجتياح الجنوب في تلك الحالة غير المتكافئة؟ ما المغزى من إعادة إعلان النصر، والسيطرةِ على مناطقَ لم تخرج عن نطاق السيطرة عمليًّا ـــ إذ مازالت معظمُ الألوية والمعسكرات والأجهزة الأمنيّة تتبع مركزَ الحكم التقليديّ؟ ألم يكن في هذا الشكل الاستعراضيّ لإنزال ميليشيا قبليّة، واقترانها بمؤسّسة الجيش، نوعٌ من الرمزيّة لاستعادة الجنوب وبقيّة المدن لأبوّة هذا المركز؟

 

الثورة والقبيلة

تمنح الثوراتُ جموحًا جماهيريًّا إلى التغيير. كما أنّها تجعل السلطةَ فريسةً للصراعات والأطماع، بل تسمح بإعادة إنتاج القوى القديمة في أقبح مظاهرها. وفي اليمن ستظلُّ السلطة بؤرةَ صراعاتٍ لا تتوقّف، لكونها تقوم على مفهوم الغلبة. وستبقى أيضًا امتيازًا جهويًّا، لا مسعًى إلى إنشاء دولةِ مواطنة.

جسَّدت القبيلةُ عصا الحكم في اليمن، وكانت الوقودَ لإدامة الحروب حول السلطة. كانت ذراعَ الإمام القويّة، ومصدرَ هلاكه أيضًا. وقد انتقلتْ تلك العلاقةُ الملتبسة إلى النظام الجمهوريّ. ومع تضخُّم جهاز الدولة، وتركُّزِها داخل مؤسّسة الجيش والأمن، لم تتغيّر طبيعةُ الهيمنة. تأسّس الجيش في عهد المملكة المتوكليّة ليصبح قوّة نظاميّة تضمن حماية سلطة الإمام من جموح القبيلة. يقوم المذهبُ الزيديُّ على مبدأ الخروج على الإمام الظالم، وهو مبدأ شكّل حافزًا مستمرًّا للتمرّد والاقتتال حول الحكم: فما إن تتوفّر شروطُ إعلان إمام ما حتى تصرخ دواعي القتال ـــ وهي دواعٍ غيرُ مستقرّة، أدّى الجيش فيها الدورَ الفعليّ لسقوط سلطة الإمام. ومع ثورة 1962 فُتح الجيشُ لليمنيّين كافةً في زيٍّ وطنيٍّ يطمح إلى أن يكون أكثرَ شموليّةً.

 تشكَّل مساران لتلك الثورة: أحدُهما يطمح إلى تغييرٍ جذريّ؛ وآخرُ يريده جزئيًّا، فيكتفي باستبدال سلطة الإمام من دون الإضرار بسلطة المركز الجهويّ. نجح التيارُ المحافظ سنة 1968 في تصفية الجيش من قياداتٍ من خارج القبيلة (مثل العميد عبد الرقيب عبد الوهّاب)، إلّا أنّ السلطة التقليديّة أعيدت بعد استبدال الشرط العدنانيّ للإمام الزيديّ بالشرط القحطانيّ لرئيسٍ ينتمي إلى المركز نفسه. لن تختلف الصورة: فمشهدُ سقوط صنعاء، ثم محاصرة الرئيس في بيته ووضعه تحت الإقامة الجبريّة، حرّكته الدوافعُ نفسها مع اختلاف الظروف.

حين وضعتْ ثورةُ 11 فبراير سلطةَ القبيلة على محكّ التشكيك الشعبيّ والسياسيّ، استعادت موروثها الراديكاليّ، ونصبت منصّةَ الإمام الذي يمثّله الحوثيُّ، وإنْ عادت بصورةٍ متآلفةٍ مع طابع "ولاية الفقيه" في إيران وحزب الله في لبنان، فيما نجح الطرفُ المنشقُّ في احتلال واجهة الثورة الرئيسة، قبل إزاحته. وهاهو يعود مشاركًا، مدعومًا من التدخّل السعوديّ.

احتكرت القبيلةُ السلطةَ عبر خلق ظروفٍ مواتيةٍ لاستمرارها. وأرادت زعاماتُها أن تظلّ خزّانًا بشريًّا للمقاتلين، استخدمه الإمامُ في السابق، ثم استخدمته مراكزُ النفوذ الجديدة في الجمهوريّة.

 

الدور السعوديّ

دعمت السعودية الملكيّين بعد العام 1962 من أجل إسقاط الجمهوريّة الناشئة في الشمال التي تحالفتْ مع عدوّها، عبد الناصر. خسر الملكيّون، لكنّ السعودية أعادت ترتيبَ السلطة الجمهوريّة ضمن صيغةٍ تضمن الولاءَ لها. كما رعت المصالحة بين الجمهوريّين والملكيّين داخل القبيلة المنشقّة، وساهمت في توطيد المركز التقليديّ في اليمن ـــ وهو الخلل الذي سيسهم في ظهور الحوثي عدوًّا مباشرًا عبر تحالفه مع ايران.

تعتبر السعودية اليمنَ أشبهَ بصندوق باندورا يمكن أن يصيبها بالشرور. وكما واجهت المدَّ الناصريّ في الستينيّات، ستواجه اليوم خطرَ تمدّدِ الثورة الإسلاميّة إلى حدودها الجنوبيّة، وإلى تخومها الشرقيّة، حيث الأغلبيّة الشيعيّة.

هناك هدفٌ سعوديّ آخرُ من وراء التدخّل، وهو إرادة الرياض فرضَ نفسها قوّةً إقليميّةً اقتصاديًّا وعسكريًّا، وإعادةُ تشكيل اصطفافٍ شعبيٍّ في الداخل، ولاسيّما مع بروز دور الجيل الثاني في المملكة. وفي هذا الصدد تُطرح أسئلةٌ كثيرةٌ على المملكة، من قبيل: هل سيتركّز الدورُ السعوديّ على إدارة الصراعات الداخليّة في مرحلة ما بعد الحوثي وصالح؟ فالحرب أنتجتْ جماعات مسلّحًة مختلفًة؛ كما ساهمت الصراعات في اتساع نشاط تنظيم "القاعدة."

 

سلامٌ واهٍ

إنّ السلطة التي لا تحدُّ من صلاحيّات الحاكم إنّما تشيع الانشقاقاتِ الدائمةَ داخل المجتمع، فيركب "الآخرُ" موجة انشقاق طبقة الحكم.

ستمتدُّ دائرةُ المواجهات والاشتباكات في اليمن. ولن يتحقّق السلامَ بإسكات البارود فحسب، لأنّ الأمر يتعلّق بشكل السلطة نفسها. فما لم يتوصّل اليمنيّون إلى صيغةٍ تحدُّ من التنافس غير المشروع حول السلطة، فستظلُّ الصراعاتُ والحروبُ وعواملُ الشقاق.

إنّها حربٌ أراد فيها كلُّ طرفٍ تأكيدَ هيمنته. لقد اندلعتْ حربًا داخليّةً لكي تؤكّدَ القبيلةُ إرثها التاريخيَّ في الحكم. ثمّ تدخّلت السعودية لتأكيد هيمنتها المطلقة على اليمن، ولاسيّما مع ظهور منافسٍ خطيرٍ كإيران. غير أنّ حرب الهيمنة هذه هي، في الواقع، نتاجُ أنظمةٍ مستبدة، ونتاجُ ثقافةِ احتكارِ السلطة.

اليمن


 

جمال حسن

  كاتب يمنيّ. حاز شهادة البكالوريوس في الإعلام من جامعة صنعاء. صدرتْ له رواية واحدة، حشرات الذاكرة.