ترسيم الحدود الجنوبية اللبنانية (ندوة)
24-11-2020

 

المحاضران: عصام خليفة وأمين قمّورية

المقدّم: رامي سلامي

 

بتاريخ 2/11/2020، نظّمتْ حملةُ مقاطعة داعمي "إسرائيل" ومجلّة الآداب وشبكة صامدون ندوةً رقميّةً عن المفاوضات الجارية بين الدولة اللبنانيّة والكيان الصهيونيّ من أجل ترسيم الحدود الجنوبيّة. استضافت الندوة المؤرّخ د. عصام خليفة، والصحافيّ الكاتب أمين قمّوريّة، وقدّمها عضوُ الحملة الأستاذ الجامعيّ د. رامي سلامي.

* سلامي: مساء الخير، وأهلًا وسهلًا بكم جميعًا. أبدأُ بتعريف الضيفيْن. الدكتور عصام خليفة: مؤرِّخ، وأمين عامّ "الحركة الثقافيّة في أنطلياس." أسّس، مع زملاء له، في العام 1968 "حركة الوعي." أصبح في العام 1971 أوّلَ رئيسٍ للاتحاد الوطنيّ لطلّاب الجامعة اللبنانيّة. عمل أستاذًا في الجامعة اللبنانيّة حتى تقاعده، وكان رئيسًا لرابطة الأساتذة المتفرّغين في هذه الجامعة. من مؤلَّفاته، التي تقارب 87 كتابًا: أبحاثٌ في تاريخ لبنان المعاصر، الحدودُ الجنوبيّة للبنان، لبنانُ في مواجهة مفاوضات التسوية، الحدود اللبنانيّة-السوريّة: محاولات التحديد والترسيم، لبنان: المياه والحدود (3 أجزاء). أمّا الأستاذ أمين قمّوريّة، فصحافيّ وكاتبٌ سياسيٌّ لبنانيّ، عُرف بعمق تحليلاته السياسيّة، وكتاباتِه الجريئة، وخبرتِه في معترك السياسة اللبنانيّة. حاز شهادةَ دراساتٍ معمّقة في علم الاجتماع السياسيّ من الجامعة اللبنانيّة. عمل في مؤسّساتٍ إعلاميّةٍ عديدة. السؤال الأول عن حدود لبنان. تفضّل د. عصام.

- خليفة: اسمحْ لي أن أشكرَ وأحيّي مجلةَ الآداب والقيّمين عليها، وأحيّي الراحلَ الكبير الدكتور سهيل إدريس وابنَه وعائلتَه وزوجتَه، وأقدِّر جدًّا ما يقومون به من أنشطة. لقد طرحتَ سؤالًا بالغَ الأهمّيّة. مسألة ترسيم الحدود الجنوبيّة اللبنانيّة عمليّةٌ علميّةٌ تمرّ بخمس مراحل: تعيين الحدود، فتحديدها، فترسيمها، فتثبيتها، فإدارتها. لبنان وفلسطين زمنَ الانتداب الفرنسيّ [على لبنان] والإنكليزيّ [على فلسطين] مرّا بالمراحل الخمس. التعيين حصل في سان ريمو، وكُرِّس في القرار 318 الذي أصدره غورو سنة 1920 (المستند رقم 1).

                                                                                                       

           

  

المستند رقم 1

   أمّا التحديد فقد حصل في الاتفاق الإنكليزيّ-الفرنسيّ في 23/12/1920 (المستند رقم 2). وهذا المستند يوضح الحدودَ بين فلسطين وسوريا ولبنان من ناحية، وبين سوريا والعراق من ناحيةٍ أخرى، ويُظهر مناطقَ الانتداب الفرنسيّ والانتدابِ الإنكليزيّ. سأتوقّف عند رأس الناقورة لأنّها محورُ الصراع. "إسرائيل" تريد زحزحةَ الحدود عن رأس الناقورة (نقل النقطة B1 ثلاثين مترًا شمالًا)...

المستند رقم 2

* سلامي (مقاطعًا): سؤال سريع د. عصام. هل يعترف الكيانُ الإسرائيليّ بهذه الحدود؟

- خليفة: سنصل إلى هذه النقطة. دعني أكمل. ما زلتُ أتحدّث عن حقبة الانتداب. في تلك الفترة رسموا الحدود، في 7/3/1923، أيْ في ما سُمّي اتفاق بوليه-نيوكومب، وتَظهر في الخريطة رأسُ الناقورة. سُطِّرَ في هذا الترسيم محضرٌ (المستند رقم 3)، وأُرسل إلى عصبة الأمم، فوافقت العصبةُ في العام 1924 على هذا الترسيم، فأصبح دوليًّا، وأصبحت الحدودُ دوليّةً.

 

 المستند رقم 3

بعد ذلك انتقلوا إلى إدارة الحدود. فشَهد العام 1926 إشكالاتٍ في الموضوع المنظور فيه. لذا، جرى اللجوءُ إلى اتفاق "حُسن الجوار،" وأدار الإنكليزُ والفرنسيّون الحدودَ على أساسه. في الثلاثينيّات، بعد ثورة فلسطين التي دعمها فوزي القاوقجي مع المقاتلين عبر الحدود اللبنانيّة، وإرسالِ الثوّار إلى فلسطين، وضع الإنكليزُ تحصيناتٍ على الحدود في سياق المراقبة والضبط. وفي العام 1947، قُسّمتْ فلسطين، فكان الجليلُ من حصّة الدولة العربيّة. لكنْ، بعد أن اندلعتْ حربَ العام 1948، حصلتْ هدنةٌ مع "إسرائيل" في 23/3/1949. والمادّةُ الخامسةُ من هذه الهدنة تقول إنّ خطّ الهدنة هو نفسه خطُّ الحدود الدوليّة. بعد الهدنة حصل ترسيمٌ للحدود في الفترة الواقعة بين الخامس والخامس عشر من كانون الأول 1949 بين لبنان و"إسرائيل،" بإشراف الأممِ المتحدة، وهذا هو النصّ بالإنكليزيّة (المستند رقم 4).

المستند رقم 4

تضمّ هذه الوثيقة 12 نقطةً في ترسيم الحدود. لبنان و"إسرائيل" تعهّدا بأن يعيدا إحياءَ النقاط الحدوديّة (Border Points)، ووضعا نقاطًا ثانويّةً. وبموجب ذلك، رسما خريطةً. هنا جزءٌ من ثلاث خرائط تُوضح إصبعَ الجليل، ونلاحظ أنّها مدوَّنةٌ باللغتيْن الإنكليزيّة والعبرانيّة: "الحدود الإسرائيليّة-اللبنانيّة." (المستند رقم 5) 

المستند رقم 5

بعد العام 1949، أدار لبنانُ الحدودَ مع "إسرائيل." فوُضع ما سُمّي "كركورًا" أو كومةً من الحجارة مرصوفةً بعضها فوق بعض، مرقَّمةً من 1 إلى 38. وهنا وقع الخلافُ بين النقطتيْن 38 و39. وهذا يوضح طمعَ "إسرائيل" في الدخول إلى مزارع شبعا عبر الطريق الرومانيّة، وتاليًا إلى جبل حرمون.

إبّان نشوب حرب 67، دخلتْ "إسرائيلُ" إلى سوريا (الجولان). وأثناء ذلك، احتلّت جزءًا من الأراضي اللبنانيّة (عند الحدود اللبنانيّة-السوريّة)، وأعني النخيْلة وبعضَ مزارع شبعا، ثم ألغت اتفاقَ الهدنة. رفض لبنان هذا القرار وأيدته الأمم المتحدة في ذلك، لأنّ الإلغاءَ جاء من طرفٍ واحد. ولبنان ردّ على الأمم المتحدة (كان مندوبها غوناريارينغ) بالتأكيد أنْ لا دخلَ له بالقرار الدوليّ 242، وأنّه معنيٌّ فقط باتفاق الهدنة وترسيم الحدود الموقَّع بعدها. جرى ذلك في عهد الرئيس شارل حلو، وكان يوسف سالم وزيرًا للخارجيّة آنذاك. ومنذ ذلك الوقت بدأت المشكلة، وبدأتْ تَظهر أطماعُ "إسرائيل" عقب الخطوات التي قامت بها، فاختلقتْ مشاكلَ حول الحدود.

* سلامي: القرار 1701 يحدِّد الخطّ الأزرق؟ أقصد: في القرار 1701 نصٌّ يستند إلى الخطّ الأزرق، لا اتفاقيّة الهدنة.

- خليفة: في هذا القرار طُرحتْ مشكلةُ مزارع شبعا. ومن خلاله، راح الإسرائيليّون يروِّجون طرحًا يقول إنّ المزارع غيرُ معروفة لمن؟ أستغربُ هذا الطرح! تفضّلوا وانظروا في هذا التقرير لبيار بارت، جلبتُه من أرشيف نانت (Nantes)، وهو يُقرّ بأنّ مزارعَ شبعا تابعةٌ للبنان. والمشكلة ظهرتْ في أيّام الجنرال غورو بين القرار 318 والخريطة المرفقة بالقرار. مزارع شبعا للبنان. من الضروريّ أن نعدِّلَ الخريطة للعام 1937 (المستند رقم 6).

المستند رقم 6

 وهنا خريطةٌ أخرى، موقَّعة من القاضي العقاريّ السوريّ عدنان الخطيب، والقاضي العقاريّ اللبنانيّ رفيق غزّاوي. هذا إقرارٌ سوري ٌّبأنّ مزارعَ شبعا لبنانيّة، وكذلك قرية النخيلة. وهذا الاتفاق يؤكِّد ذلك (المستند رقم 7).

المستند رقم 7

 هذا ما يتعلّق بالـ 1701، الذي يُظهر أنّ "إسرائيل" تدخل حدودَ لبنان من 13 نقطةً. فبدلًا من أن تكون النقطة B1 على رأس الناقورة، طلع الإسرائيليّون 30 مترًا شمالًا حتى يكسبوا المزيدَ من الأراضي والمياه البحرية (المستند رقم 8).

المستند رقم 8

أعيد: هذه الصخرة هي رأسُ الناقورة. بدلًا من أن يسيرَ خطُّ الحدود البحريّة نزولًا (المستند رقم 9)، دخلتْ "إسرائيلُ" ثلاثين مترًا شمالًا، فأصبح الخطّ يتّجه شمالًا. وبهذه الطريقة أفقدتْ لبنانَ 1700 كلم مربّع!  

المستند رقم 9

* سلامي: هذه مساحة هائلة! هل تحتوي هذه المساحة على نفط؟

- خليفة: بحسب قانون البحار، يجب أن يمرَّ الخطُّ اللبنانيُّ بـ"كاريش" Karish (المستند رقم 10)، في حين أنّ "إسرائيل" تقول إنّ كاريش لها. نعم، مجمّعات 8 و9 و10 فيها مخزونٌ كبيرٌ من النفط والغاز.

المستند رقم 10

وقع المفاوضُ اللبنانيُّ في أخطاءٍ سابقةٍ مع قبرص أيّام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة (وكان الوزير محمّد الصفدي وزيرًا للأشغال). ثم عُدّل الاتفاقُ مع قبرص، وطلب لبنانُ منها ألّا تتفقَ مع طرفٍ ثالثٍ إلّا بعد موافقته. هنا استغلّت "إسرائيل" الخطأَ ودخلتْ على الخطّ، فعقدت اتفاقًا مع قبرص انطلاقًا من النقطة 1. وفي المرسوم 6433، بتاريخ 1/10/2011، جرى توضيحُ الحدود البحريّة الجنوبيّة للمنطقة الاقتصاديّة الخالصة من قبل حكومةٍ يشترك في عضويّتها حزبُ الله. وقد نصّت المادّةُ الثالثة على إمكانيّة التعديل عند وجود معطياتٍ مناسبة.

بين أيدينا تقريرٌ بالغُ الأهمّيّة (عرض التقرير) صادر عن شركةٍ بريطانيّةٍ اسمُها UKHO المكتب الهيدروغرافي البريطاني (الإنكليز هم مِن أهمّ مَن درسوا ترسيمَ الحدود البحريّة). كَلّفت الحكومةُ اللبنانيّةُ الشركةَ المذكورة، والجيشُ اللبنانيّ الآن يتابع ما طرحتْه الشركة. الإسرائيليّون تمسّكوا بصخرةٍ اسمُها تخليت، طولُها 40 مترًا وعرضُها 7 أمتار، و"طحشوا" على المفاوض اللبنانيّ وأصرّوا على أنّها جزيرة. لكنْ إذا عدنا إلى المادّة 121 (الفقرة الثالثة) من قانون البحار الذي وُضع سنة 1982، فإنّه يحدّد الجزيرةَ في الفقرة 3 بأنّها مساحةٌ يسكنها أناسٌ أو هي قابلةٌ للسكن. هذه الصخرة لا يسكنها أحدٌ، وغيرُ قابلةٍ للسكن!

الوفد اللبنانيّ اليوم متمسّكٌ بهذا الموضوع، ومتصلّبٌ في رأيه. لبنان فاجأ الإسرائيليّين بأنّه يريد أن يبدأ برأس الناقورة. وهذا حقٌّ له بحسب القانون الدوليّ، وبحسب ترسيم الحدود بين لبنان و"إسرائيل."

* سلامي: إذًا، الكيان الإسرائيليّ أقرّ باتفاقيّات، ومنها اتفاقيّةُ الهدنة، واعترف بحدودٍ دوليّة. لكنه حاليًّا يتنصّل منها. هل هذا صحيح؟

- خليفة: الإسرائيليّ لا يمكنه أن يلغيَها وحده. الأمم المتحدة حذّرتْه سابقًا باعتبار أنّ هناك طرفًا آخر (لبنان). وتوجد لجنةُ هدنةٍ ما تزال قائمةً حتى الآن، مكوّنةٌ من 52 ضابطًا وجنديًّا بين لبنان و"إسرائيل،" للإشراف على خطّ اتفاق الهدنة، وهو خطُّ الحدود الدوليّة. وهذا غيرُ الخطّ الأزرق. الخطّ الأزرق هو خطُّ انسحاب.

* سلامي: أنقل إليكم الآن ما جاءنا على وسائل التواصل الاجتماعيّ. أحدُ المشاركين قال: "الصحيح أنّ الترسيم موجودٌ من قبل، ويجب التمسُّكُ به وتثبيتُه، لا أن يتمّ التفاوضُ على إعادة الترسيم."

- خليفة: نعم، يجب أن نطرح تثبيتَ الترسيم، الذي حصل مع اتفاق بوليه-نيوكومب وجُدّد بعد هدنة 1949.

* سلامي: قانونيًّا، هل من الضروريّ أن تجري المفاوضاتُ مع الجانب الإسرائيليّ مهما كانت طبيعتُها؟

- خليفة: نحن أمام مسألةٍ مهمّة، وهي استثمارُ ثروتنا البحريّة. و"إسرائيل" تطمع في البرّ والبحر.

* سلامي: هل يستطيع لبنان أن يحصِّلَ حقَّه من دون أيّ مفاوضاتٍ مع الجانب الإسرائيليّ، كأنْ يلجأ إلى الأمم المتحدة أو إلى محاكمَ دوليّةٍ أو إلى قانون البحار؟

- خليفة: نحن موافقون على الاتفاق الدوليّ حول البحار، في حين أنّ "إسرائيل" غيرُ موافقة على قانون البحار الحاليّ لكنّها موافقةٌ على قانون البحار الذي أُبرم في العام 1958. تتخطّى أطماعُ "إسرائيل" اليوم ترسيمَ الحدود، بل أعتقد أنّها تطمح في الدخول إلينا. هي اليوم مصدومةٌ من لبنان لأنّه يريد جزءًا من حقل كاريش، وهو الحقل الذي تريد أن تلزِّمَه. وغضبُها يَظْهر في وسائل إعلامها؛ هذا لأنّ الوفدَ اللبنانيّ مسلَّحٌ بالوثائق بشكلٍ علميّ.

* سلامي: هل نستطيع تحصيلَ الحقوق من دون أيّ مفاوضات؟

- خليفة: كلّا. سأعود إلى المفاوضات الحاصلة اليوم، وهي قد تصل إلى مأزق لأنّ الطرفيْن متمسّكان بمطالبهما. نحن أمام احتماليْن: اللجوء إلى العنف، أو إلى التحكيم الدوليّ. لبنان لا مشكلةَ لديه مع التحكيم الدوليّ لأنه سيكون لمصلحته.

* سلامي: واضحٌ من حديثكَ أنّنا سنواجه مأزقًا بسبب المفاوضات، فلماذا نلجأ إليها أصلًا؟ لماذا لا نستغني عنها ونذهبُ مباشرةً إلى التحكيم؟

- خليفة: نحن أمام موازين قوًى دوليّةٍ وإقليميّة. ناهيك بالضغط الأميركيّ الذي يدفع الطرفيْن إلى التفاوض دفعًا.

* سلامي: ننتقل إلى الأستاذ أمين قمّوريّة. أستاذ أمين، بحسب قراءتك، أين أصبحتْ مفاوضاتُ ترسيم الحدود الجنوبيّة بعد الجلسة الثانية؟ وكقراءة سياسيّة، هل تعتبر المفاوضاتِ ضروريّةً لتثبيت الحقوق اللبنانيّة؟ وما هي نقاطُ القوّة والضعف لدى الوفد اللبنانيّ؟

- قمّوريّة: كثرٌ لن يرحِّبوا بما سأقوله. مبدئي في الحياة، وتحديدًا مع العدوّ الإسرائيليّ، هو: "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف." لا حلّ مع "إسرائيلإلّا بأن يعودَ كلُّ مَن احتلّ فلسطينَ من حيث أتى.

* سلامي: لا مفاوضات، وموازينُ القوى هي التي تَحْكم وتقرِّر؟

- قمّوريّة: كلّا. موازينُ القوى الحاليّة لا تسمح لنا بتطبيقِ ما أقولُه للأسفنحن شعوبٌ كثيرةُ العدد، ولو استغللنا قدراتِنا لاستطعنا فعلَ الكثير. من حقّنا المطالبةُ بأرضنا، بكلِّ سنتيمترٍ محتلّ. ولا أتكلّمُ على لبنان فقط؛ فكلُّ الدول العربيّة محتلّة: العراق بشكلٍ أو بآخر محتلّ، وسوريا كذلك، والسودان اليوم محتلّ، ولبنان محتلّ. الاحتلال لا يكون بالجنود فقط، بل بالاقتصاد والمال والموقف أيضًا. أعتقد أنّنا لا نذهب اليوم نحو المفاوضات من موقع القويّ، مع أنّ لدينا كلَّ الذخائر القانونيّة والسياسيّة والمبدئيّة إذا أردنا أن نفاوض. المهمّ أنّ علينا ألّا نفاوضَ بالطريقة التي تريدها "إسرائيل."

هنالك أساليبُ متعدّدةٌ لاسترداد الأرض والحقوق، أحدُها المفاوضاتُ المباشرة؛ وهذا ما تريده "إسرائيل." لكنّنا مثلًا موقِّعون على "قانون البحار،" ومن ثمّ لا شيءَ يُجْبرنا على التكلّم مع العدوّ لأنّ هذا القانون يعطينا حقوقَنا، وحقوقُنا واضحة جدًّا. وهناك أيضًا التحكيمُ الدوليّ، وكثيرٌ من الدول اختلفتْ على حدودها مع دولٍ أخرى فلجأتْ إلى هذا التحكيم ونالت حقوقَها بفضله. أمّا المفاوضات المباشرة، فلـ"إسرائيل"مصلحةٌ فيها لأنّها بذلك تستطيع استخدامَ موازين القوى لديها لتفرضَ شروطَها. لقد دفعنا دمًا كثيرًا من أجل تحرير القسم الأعظم من أرضنا. وإذا كنّا نريدُ أن نفاوضَ العدوَّ لاسترجاع ما تبقّى من حقوقنا في أرضنا وغازِنا ومياهِنا ونفطِنا، فيجب أن تكونَ لدينا - في الحدّ الأدنى - وحدةٌ وطنيّةٌ، بل أن تكون لدينا القدرةُ الفعليّةُ على التفاوض. تخيّلْ: نحن ذاهبون إلى المفاوضات ولا حكومةَ لدينا! ثمّ كيف سينظر إلينا الإسرائيليُّ ونحن ذاهبون إلى المفاوضات ولدينا مئةُ مليار دولار من الديون، وخلافاتُنا السياسيّةُ الداخليّةُ في أوجها؟!

لكنّ السؤالَ الكبير هو: هل أوصلتْ تجربةُ المفاوضات أحدًا إلى مبتغاه؟ بعضُ الفلسطينيّين وقّع على اتفاق أوسلو. في رأيي أنّ مصيبتَنا الكبرى بدأتْ بهذا الاتفاق. ولو جرى التفاوضُ بطريقةٍ مختلفةٍ، لأثمر نتائجَ مختلفة. لكنّ المفاوضين العرب ذهبوا منفردين وبقدراتٍ ضعيفة. كلُّ ظروف المنطقة لا تساعدنا في المفاوضات الحاليّة للأسباب الآتية:

أولًا، لأنّ وضعَنا في الداخل اللبنانيّ سيّئ، على ما ذكرنا. 

ثانيًا، بسبب الظروف الإقليميّة والدوليّة المحيطة. فهذه المفاوضات تجري في الوقت الذي يجري الحديثُ فيه عن "صفقة القرن." يحلو للبعض أن يقولَ إنّ هذه الصفقة لم تتقدّمْ. أنا أرى العكس. لقد أعلنوا القدسَ عاصمةً للكيان، ونحن شبهُ صامتين. وضمّوا الجولانَ، ونحن شبهُ صامتين. وقالوا إنّ الاتفاقَ مع الإمارات سيجمِّد الاستيطان، والواقع أنّ الاستيطان بلغ ذروتَه؛ صحيح أنّ المساحةَ الكبرى من الضفّة الغربيّة ما زالت فلسطينيّةً وستبقى كذلك بعد سنتيْن أو ثلاث، لكنّها مساحةٌ تفتقر إلى المياه والكهرباء. البارحة ذهب "كبيرُ المفاوضين الفلسطينيّين،" صائب عريقات، للعلاج في مستشفًى إسرائيليّ بعد إصابته بفايروس كورونا لأنْ لا مشفى فلسطينيًّا يستطيع استقبالَه! هذه هي نتيجةُ صفقة القرن: إنّها التطبيع، وتهافتُ الأنظمة العربيّة تباعًا للاستسلام. وفي اعتقادي، بعكس الكثيرين، أنّ التطبيع مع الإمارات والسودان والمغرب أخطرُ بكثيرٍ من التطبيع الذي حصل مع مصر والأردن. صحيح أنّ مصر كسرتْ ظهرَ العرب عند ذهابها للتطبيع، ولكنّ مصر كانت لديها أرضٌ محتلّة، فاستعادتْها ولو شكليًّا. والأردن لديه حدودٌ كبيرةٌ جدًّا مع فلسطين المحتلة، وربّما تطلّبَ أمنُه واستقرارُه - من مفهوم النظام طبعًا - شيئًا من التطبيع. لكنْ عندما تذهب الإماراتُ والبحرين والسودان إلى التطبيع، يذهب كلُّ الأمن القوميّ العربيّ، وتتغيّر كلُّ المعطيات القائمة في المنطقة. إذًا، في اعتقادي أنّ صفقةَ القرن قطعتْ شوطًا كبيرًا.

ثالثًا، لأنّ الولايات المتحدة ما زال لديها حقُّ الفيتو في كلّ الملفّات والصراعات الجارية في المنطقة. أ) في سوريا، مثلًا، الروس والإيرانيّون موجودون، وقد قاتل السوريّون واستعادوا ثلاثةَ أرباع أرضهم؛ لكنْ لدى أميركا 500 جنديّ أميركيّ يسيطرون على ثلثِ الأراضي السوريّة التي تقع شرقَ الفرات، وفيها النفطُ والغاز، ولديها حقُّ الفيتو في كلّ قرارٍ يتعلّق بسوريا. ب) أمّا العراق، فقد ظنّ كثيرون أنّ إيران فرضتْ سيطرتَها عليه، غير أنّ الأمريكان يمهّدون لرئيس دولةٍ ورئيس وزراء 90٪ منهما أميركيّ و10٪ منهما إيرانيّ، وحقُّ الفيتو الأميركيّ ما يزال قويًّا وفعّالًا هناك. في النهاية، أميركا تركت الأرضَ العراقيّةَ للإيرانيين، لكنّ السماءَ والقرارَ الفعليّ للأمريكيين. صحيح أنّ عددَ جنود أميركا أصبح قليلًا؛ لكنْ ما زالت لدى أميركا القياداتُ الكرديّةُ والقسمُ الأكبر من القيادات السنّيّة وقسمٌ كبيرٌ من القيادات الشيعيّة. إذًا، أميركا لم تخرجْ من العراق، فما بالُكَ بوجودها في الخليج مثلًا؟!...

* سلامي (مقاطعًا): العرض ممتاز، أستاذ أمين، ولكنْ فلنحصرْه رجاءً بالوضع اللبنانيّ وتأثيرِ الانتخابات الأمريكيّة والحصار الاقتصاديّ.

- قمّوريّة: أنا مع المقاومة، بغضّ النظر عن هويّة المقاوم وانتمائه. لكنّ المرتكزََ الأساسَ للمقاومة محاصَرٌ اليوم! أنظرْ إلى الخريطة الإيرانيّة، بغضّ النظر عمّا تعانيه إيرانُ من حصارٍ وعقوبات. ما يحصل في أذربيجان علينا وضعُه في هذا الإطار، إطارِ الحصار المفروض عليها، وكذلك الهجمات السيبرانيّة. وحين تدخل "إسرائيلُ" إلى الإمارات والبحرين، فذلك أشبهُ بوضع القلاع في القلب الإيرانيّ. وصحيحٌ أنّ لدى إيران حليفيْن على حدود فلسطين المحتلّة، هما حماس وحزبُ الله، لكنّ "إسرائيل" حاصرتْهما هما أيضًا. إذن، الوجودُ الإسرائيليّ سوف يكون في كلّ مكانٍ إذا أرادت أميركا أن تحْضرَ في هذه المنطقة لقطْع الطريق على الصين ولتفرضَ نظامًا إقليميًّا لمصلحتها. أميركا لا تريد تغييرَ النظام في إيران بل تغيير السلوك الإيرانيّ، والنفوذِ الايرانيّ وحدودِه.

ما يجري في لبنان اليوم ليس بعيدًا عن كلِّ ما ذكرناه. عندما قرأتُ خبرَ تطبيع النظام السودانيّ مع العدوّ قبيْل المفاوضات اللبنانيّة لترسيم الحدود الجنوبيّة، لم أستغربْ ذلك. فتحليلي يقول إنّهم حاصروا السودان، فلم يكن أمامه سوى التطبيع مقابل شطبِه عن لائحة الإرهاب. وضعُنا اليوم في لبنان شبيهٌ بوضع السودان بعد انفجار المرفأ والكارثةِ الاقتصاديّة التي نمرّ بها. فقبل يوم، وُجِّهت العقوباتُ الماليّةُ الأميركيّةُ [إلى شخصيّاتٍ لبنانيّة]، وهي عقوباتٌ لا تُفرض بموجب قانون الغائب الذي يطول الفردَ وحده، وإنّما بموجب قانون الفساد الذي يطول الأصولَ والفروعَ أيضًا. والرسالة واضحة: مَن لا يسير كما نشاء، فكلُّ ما جناه من سرقاتٍ على مدى أربعين سنةً صار معرَّضًا للخطر. في آخر الأمر، لقد وضعونا في المكان الصعب، ولم يتركوا لنا خيارًا سوى الذهاب نحو المفاوضات بالطريقة الحاصلة حاليًّا. لكنّ هذا لا يعني أنّنا استسلمنا، وأجزم بأنّ هذه المفاوضات ستكون صعبةً جدًّا. لكنّ ثمنَها هو المزيدُ من الانهيار الاقتصاديّ والغذائيّ. في اعتقادي أنّ هذه المفاوضات...

* سلامي (مقاطعًا): هل هي منزلقٌ نحو التطبيع؟

- قمّوريّة: كلّا، لن نصل إلى التطبيع. ومن آخر اهتمامات "إسرائيل" أن تُنْشئ لها سفارةً في بيروت! ما تريده هو تمكينُها من التنقيب عن الغاز والنفط، وأن يصبح اللبنانيُّ حارسًا لحدودها. ولكنّ العدوّ، في اعتقادي، سيقدّم "هديّةً صغيرةً" للبنان لحثّه على إكمال هذه المفاوضات، مثلما حصل في طابا، حيث استغرقت المفاوضاتُ وقتًا طويلًا. وبخلاف "إسرائيل،" فإنّ على لبنان شروطًا كثيرةً كي يستطيع التنقيبَ عن الغاز. من هذه الشروط الاعترافُ بوجود "إسرائيل،" وهويّة الشركات التي ستُشْرف على هذه المهمّة. في اعتقادي أنّ من الممكن في آخر لحظة أن يقول لك الإسرائيليون إنّ الغازَ لدى اللبنانيّين غيرُ كافٍ وعلينا نحن [الإسرائيليّين] العمل حتى تسير الأمورُ لصالحنا.

* سلامي: أعود من جديد إلى د. عصام بسؤالٍ مهمّ، وأهمّيّتُه تكمن في إمكانيّة ربطه بالانهيار الاقتصاديّ. لكنْ، قبل طرحه، سأقتبس ممّا صرح به د. عصام سابقًا من أنّ مزارع شبعا لبنانيّة بحسب أكثر من ألف وثيقة، وأنّها تدرّ على الكيان الإسرائيليّ مليارات دولار سنويًّا. وقد نَشر بتاريخ 29/3/2019 على موقع ليبانون تاب كلامًا يقول حرفيًّا: "إسرائيل متمسّكة بمزارع شبعا لأسبابٍ استراتيجيّة ومائيّة وسياحيّة ودينيّة. أوّلًا بسبب غناها بالمياه؛ وثانيًا لأنّها منطقة جبليّة ترتفع 1770 مترًا عن سطح البحر، وقد حوّلتها إسرائيلُ إلى منطقةٍ سياحيّة، وبنت عليها عددًا من المنشآت السياحيّة تضمّ 150 فندقًا و500 غرفة وحلبات للتزلّج بطول 60 كيلومترًا، وتجني منها أرباحًا تصل إلى ستّة مليارات دولار سنويًا." (انتهى الاقتباس). هذا يعني أنّ لبنان، المدعومَ دوليًّا عبر الوثائق الدوليّة التي تثبت أحقيّتَه في مزارع شبعا، سيحصل على مليارات الدولارات سنويًّا إذا أحسن استثمارَ هذه المزارع. وهذا يعني أيضًا أنّ سياسةَ الدولة اللبنانيّة وجهودَها يجب أن تتركّز على عمليّة تحرير مزارع شبعا، بضغوطٍ دوليّةٍ وتحالفاتٍ، لأنّ هذا المبلغ السنويّ، إذا تواصل بشكلٍ مستدام، سيخلّص لبنان من أزماته. هنا أسألكَ، د. عصام، بصفتِكَ مؤرِّخًا وأكاديميًّا، ولديك العشراتُ من المؤلَّفات في موضوع الترسيم والمياه والأطماع الإسرائيليّة وتاريخ لبنان، ماذا يمكن أن نفعلَ كلبنانيّين في قضيّة مزارع شبعا وفي مسألة ترسيم الحدود؟ لنفترضْ أنّكَ عُيّنتَ على رأس وفدٍ للتفاوض أو لوضع خطّةٍ لتصوُّر تثبيتِ الحدود، فكيف تتصرّف؟

- خليفة: "إسرائيل" احتلّت الجولانَ وتحاول أن تحتلّ حرمونَ اللبنانيّة. مزارع شبعا لبنانيّة في الجزء المرتبط بحاصبيا، لا من جهة الجولان. سنة 2005 كَلّفَنا مجلسُ الوزراء بوضع تقرير، مع الدكتور شفيق المصري والشهيد محمد شطح والمحامي ميشال التويني. فقدّمنا تقريرًا من 80 صفحةً تضمّن وثائقَ من نانت (Nantes) وغيرها من المصادر، تؤكّد لبنانيّةَ مزارع شبعا. وبناءً عليها وضعنا خطّةَ عمل، ولا زلنا نتنظر إرسالَها إلى مجلس الأمن. وقد اكتشفتُ وثائقَ ضمن أرشيف الدوائر العقاريّة في زحلة، وبينها اتفاقٌ خطّيٌّ وخريطة (أشرنا اليها سابقًا) بين لبنان وسوريا، إضافةً إلى عشرات الوثائق التي تؤكّد لبنانيّةَ مزارع شبعا والنخيْلة. وهناك خريطة ملحقة بالاتفاق.

* سلامي: اللبنانيون لم يسمعوا من قبل بقضيّة النخيلة؟

- خليفة: جميعُهم يعرفونها لأنني أبدأ الحديثَ بها في كلّ مرّةٍ تقريبًا! ولكنّ التجاهل واضحٌ من قِبل الدولة والمقاومة لأسبابٍ غيرِ معلومة. مساحتُها مليون ومئتا متر مربّع. ومنها وزيرٌ سابقٌ في حكومة شارل دبّاس، اسمُه نجيب الأميوني. إنّ لجبل حرمون أهمّيّةً كبرى في الاستراتيجيّة الإسرائيليّة. هذا الجبل يقدِّم مليارًا ومئتيْ مليون متر مكعّب من المياه لإسرائيل عبر الحاصباني واللدان وبانياس واليرموك وغيرها. ولديه قيمةٌ دينيّةٌ عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين، وفيه مرصدٌ استراتيجيٌّ تراقب "إسرائيلُ" دمشقَ منه. مَن يقرأ مستقبلَ الشرق الأوسط من منظور"إسرائيل" الذي تقدّمتْ به إلى مؤتمر مدريد، يتّضح له أنّها تَعتبر حرمون نقطةً مركزيّةً في السياحة. وقد انشأتْ محطّةَ تزلّجٍ في المكان الذي خطّط لبنانُ لإنشاء محطّةٍ فيه.

بالنسبة إلى ما تفضّل به الأستاذ قمّوريّة، وأنا أحترمُه كثيرًا، فإنّي أقول إنّ لبنان لم يكن لديه خيارُ الرفض! لبنان بلدٌ صغير، ودولتُه ضعيفة؛ فهو مجبَرٌ على دخول المفاوضات. هنا أريدُ لفتَ النظر إلى أنّني التقيتُ الوفدَ اللبنانيَّ المفاوض، فوجدتُ لديه الإرادةَ الصلبةَ - بتوجيهٍ صارمٍ من قائد الجيش - لتنفيذ الاتفاقيّات الدوليّة. الوفد متسلّح بالوثائق. طبعًا سيأتي مَن يقول: "وهل هذه الوثائق وحدها تستطيع أن تعطيَنا حقَّنا، وإسرائيلُ تمتلك القوّة؟" أقول له: نحن لدينا وثائق، ونستطيع أن نسترجع حقّنا! "إسرائيل" تريد الدخولَ إلى كاريش وتحتلّه، وقد طرحتْه للتلزيم كما قلنا. في ضوء الوثائق التي تقدّمنا بها سنمنعها من أن تقومَ بتلزيمه، لأنها منطقةٌ متنازعٌ عليها. يجب أن يقوم الإعلامُ بدوره هنا في تسليط الضوء على أهمّيّة هذه الوثائق. وهذا دورُ النخب المثقّفة أيضًا، وهنا أحيّي الأخ سماح إدريس ودورَه الوطنيّ الدائم في الدفاع عن لبنان.

منذ فترةٍ دُعيتُ إلى حوارٍ مع المقاومة في أحد مراكز الأبحاث، فتوجّهتُ إلى ممثّليها بضرورةِ أن يتوقّفَ نشاطُ المقاومة خارج لبنان (سوريا، والعراق، واليمن، وسوقطرى)، وبوجوب النظر في إنجاز خطّةٍ دفاعيّةٍ توّحد الشعبَ اللبنانِيَّ ضمن منطق وحدة السلطة ووحدةِ القرار السياسيّ والعسكريّ في الحرب والسِّلْم. هذا الوطن، بعد مئة سنةٍ على تأسيسه، ليس "اختراقًا استعماريًّا" كما يُقال، وآباؤنا وأجدادُنا دافعوا عن القضيّة اللبنانيّة!

إنّ مسألة الحدود جاءت في الميثاق الوطنيّ المكتوب في منزل يوسف السودا كالآتي: "استقلال لبنان التامّ في حدوده الحاضرة وفي كيانه الجمهوريّ وحكمه الوطنيّ..." كان ذلك في 18/3/1938. وفي الدستور اللبنانيّ تتحدّث المادّةُ الأولى عن الحدود. إذًا، مسألة الحدود نقطة مركزيّة في فكرنا القانونيّ والدستوريّ والسياسيّ. العدّة (أي الوثائق والخرائط) التي أملكُها أعطيتُها الوفدَ المفاوضَ كما قلت. رفضتْ "إسرائيل" لأنّها تراهن على أن تبدأ من تغيير النقطة B1 شمالًا مسافةَ 30 مترًا كي تربحَ 1700 كيلومترًا مربّعًا بحرًا. نحن مصرّون على أن نبدأ من صخرة رأس الناقورة الموجودة في كلّ الوثائق. حتى في الاتفاق الذي أُبرم بين لبنان و"إسرائيل" عام 1949، فإنّ رأسَ الناقورة تقع في لبنان.

على صعيدٍ آخر، نحن لدينا قانونٌ جيّدٌ للثروة الغازيّة والنفطيّة، هو 132/2010، لكنّ المرسوم 43  (المتعلق بتطبيق القانون المُشار إليه) سيّئ؛ فالقانون يؤكّد وجودَ شركةٍ للدولة تستطيع أن تتعاونَ مع شركات النفط، لكنّها في المرسوم أُلغيتْ! إنّ مقاومة الفساد يجب أن تكون متلازمةً مع مقاومة الأطماع. إنّ انتفاضةَ شعبنا ومواجهة منظومة الفساد يجب أن نربطَهما بالدفاع عن كامل تراب الوطن، وعن حقوقنا الاقتصاديّة الخالصة في البحر.

* سلامي: إذا استطعنا أن نُثبتَ حقَّ لبنان في مزارع شبعا، فستصبح دوليًّا أراضيَ لبنانيّةً محتلّة. فهل نستطيع، انطلاقًا من هنا، أن نبنيَ إجماعًا وطنيًّا على استراتيجيّةٍ دفاعيّة، والاستفادةَ من سلاح المقاومة والخبراءِ القانونيّين والوثائقِ والخرائط الدوليّة، فنخوض معركةً شبهَ وجوديّةٍ بالنسبة إلى لبنان؟

- خليفة: لحظة يا رامي! المواطن اللبنانيّ يعاني اليوم خنقَ المصارف لأمواله. أنا اليوم أستاذٌ متقاعدٌ من الجامعة اللبنانيّة ولم أستطعْ أن أحصلَ على فلوسي من البنك. المطلوب استعادةُ الأموال المنهوبة. بدايةً، لا بدّ من تنفيذ القِصاص في حقّ مَن ارتكب جريمةَ تجويع شعبنا وإذلالِه!

أنا مطمئنّ إلى موقف الوفد اللبنانيّ لأنّه يستطيع أن يمثّلَ المصالحَ العليا للشعب اللبنانيّ. إنّه يمثّل كفاحَ الشعب والدولة... لا دولة المافيات، بل دولة القانون والمؤسّسات.

لقد تابعتُ مؤتمرًا عقده كبارُ ضبّاط المخابرات في جامعة جورج واشنطن منذ سنوات، وتحدّثوا فيه عن خرائطَ جديدةٍ في المنطقة مترافقةً مع "هندسة شعوب." هل وجودُ مليون ونصف مليون سوريّ في لبنان جاء عن طريق المصادفة مثلًا؟ في هذا الشأن تحدّث قائدُ المخابرات الألمانيّ السابق، فقال إنّهم هُجّروا إلى لبنان كي لا يخرجوا منه. ناهيك بهندسة الشعوب في العراق وسوريا. نحن في لبنان نرفض أيَّ خطّةٍ للتوطين والاستيطان، أو لاقتطاع أيّ أرضٍ من لبنان أو التخلّي عن أيّ جزءٍ منه.

*سلامي: أستاذ أمين، أسئلةٌ من أحد المتابعين: ما هي قراءتُكم السياسيّة لبيان "الثنائيّ الشيعيّ" (أمل-حزب الله) فجرَ النهارِ الأوّل من المفاوضات؟ وما علاقةُ الانتخابات الأميركيّة والانهيار الاقتصاديّ اللبنانيّ بهذه المفاوضات؟ هل هناك تراجعٌ في محور المقاومة؟

- قمّوريّةّ: لا شكّ لديّ في أنّ المفاوض اللبنانيّ سيكون متمسّكًا بكلّ مليمترٍ من الحدود؛ فهو قد رفع السقفَ عاليًا، وليس من السهل عليه تقديم ُالتنازلات الآن. أيُّ مفاوض يقدِّم تنازلاتٍ سيجابَهُ بالرفض، فكيف بالأحرى سيكون موقفُ "الثنائيّ الشيعيّ" الذي وافق ظاهريًّا على مبدأ التفاوض ولكنّه ترك مهمّةَ التنفيذ لـ"الآخرين"؟ (لو رفض أن يفاوض فسيحمّلونه مسؤوليّةَ كلّ الخراب الحاصل في لبنان!). هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى أعتقد أنّ "إسرائيل"هي أيضًا بحاجةٍ لحلّ هذا الموضوع. فثمّة شركاتٌ دوليّةٌ تريد المجيءَ للتنقيب عن النفطِ والغاز (والآبارُ الموجودةُ في تلك المنطقة واعدة)، وإذا لم تضمنْ نوعًا من الاستقرار السياسيّ والأمنيّ فستشعرُ بالخطر. إذًا، "إسرائيلتريد أن تقدِّمَ شيئًا، لكنّها لن تقدّمَ لنا كلَّ ما نريده. أحدُ المخارج المطروحة للتفاوض في ما يخصّ الحقولَ المتنازعَ عليها هوإنشاءُ شركةٍ مشتركةٍ وتقاسُمُ العائدات.

لستُ خائفًا على المفاوض اللبنانيّ، بل خائفٌ من الوضع اللبنانيّ، الذي يدلُّ على أنّنا اليومَ في ذروة الانهيار. وعندما يُرفع الدعمُ الحكوميُّ عن بعض السلع، أو يُثبَّتُ سعرُ الصرف بطريقةٍ أخرى، فسيصبح راتبُ المواطن العاديّ أقلَّ من 200 دولار شهريًّا. والحالة تتّجه إلى الأسوأ، لأنّ الدواءَ والموادَّ الأساسيّة ستصبح مفقودةً، وأزمة المحروقات ستتفاقم خصوصًا في الشتاء.

في اعتقادي أنّ أيَّ فريق يقول "لن نتنازلَ عن حقوقنا" سيوضَع في الزاوية الصعبة ويحمَّل المسؤوليّة. نحن في لبنان، أساسًا، "شعوبٌ" وجماعات، وفي الوقت الحاليّ أصبحنا شعوبًا وجماعاتٍ أكثرَ من السابق، وكلٌّ منّا أصبح محاصَرًا في منطقته. ونعلم ما معنى أن تحاصِرَ أفرقاءَ معيّنين وتقطعَ الطرقَ عليهم؛ فهذه مادّةٌ لحربٍ أهليّة!

* سلامي: برأيك، أستاذ أمين، هل يُحتمل أن يكون "الثنائيُّ الشيعيّ" قد عوّل على الفشل الحتميّ للمفاوضات؟

- قمّوريّة: لا أحد يعوِّل على هذا. وإذا استرددنا ما نريدُه بالطريقة الأنسب، فسيُعتبر ذلك مكسبًا. الجميع سيعتبرُه كذلك. لكنّ الأسئلة التي تَطرح نفسَها هي: هل سيسمحون لنا بأن نحقِّقَ مكسبًا؟ وأمام هذه الضغوط، ماذا تنتظر من القوى السياسيّة اللبنانيّة التي ترفع علنًا شعارَ "أريحونا من هذا الصراع"؟ ألن نَخلقَ مشكلةً جديدةً في البلد، تُضاف إلى المشاكل الأخرى؟ لذلك أنا خائف! أكثر من ذلك: حتى لو اتّفقنا على ترسيم الحدود، فهل لـ"إسرائيل"مصلحةٌ بأن تكونَ في لبنان دولةٌ غنيّةٌ وديمقراطيّة؟ لديّ شكٌّ كبيرٌ في هذا الموضوع، وأمامنا النموذجان المصريّ والأردنيّ. فالأردن هو أكثرُ بلدٍ قدّم لـ"إسرائيل" ما تريده، فلتذهبوا ولتشاهدوا الوضعَ هناك! مصر كانت تنافس كوريا الجنوبيّة واليابان، أنظروا إليها اليوم!

في رأيي أنّنا إنْ لم "نفاوضْ" بطريقتهم وأسلوبهم، فلا تنتظرْ أن تأتي أيُّ شركةٍ لتساعدَك؛ ذلك أنّ هذه الشركات مرتبطةٌ كلّها بإمبراطوريّةٍ واحدة. الأميركيّ الذي حمل بيانَ "اتفاق الترسيم" إلى الإسرائيليّ هو نفسُه مَن سيرسل الشركةَ إليك. وهذه الشركة ستتصرّف مثلَ شركة توتال: "إمّا أن تدخلَ مثلما نريد، أو تبقى بلا غاز ولا نفط." هم يدركون أنّنا لن نستطيعَ منفردين استخراجَ النفط، وإلّا أصبحتْ كلفةُ الاستخراج أكبرَ من ثمنه؛ ولهذا يفرضون شروطَهم مسبّقًا.

أعطِني نظامًا سياسيًّا مختلفًا، ومن بعدها سأقول لك: فلتَجْرِ المفاوضات! لكنْ عندما نكون مرتبطين بالخارج، يكون همُّنا كيف سيَحْفظُ هذا الخارجُ أموالَنا المودَعةَ في مصارفِه! إذا خيّرتَ زعماءنا السياسيّين بين أبنائهم وأموالِهم، فسيختارون موتَ أبنائهم على ألّا يتمّ المساسُ بأموالهم! هذا أكثرُ ما يخيف زعماءَنا. ولنكن أكيدين: سيفُ العقوبات الماليّة مُصْلتٌ على روؤسهم واحدًا واحدًا، وبقاؤهم في السلطة مهدَّدٌ هو نفسه. لذلك أنا لا أثقُ بهذه السلطة السياسيّة التي "تساند" المفاوضَ. لا أشكّ لحظةً في أنّ المفاوضين نظيفون، ولا أشتبه في أنّهم قد يتنازلون أو يُخِلّون بحدودنا.

* سلامي: أستاذ أمين، هل أنت مع الرأي الذي يقول: إذا نجحت المفاوضاتُ في موضوع ترسيم الحدود البحريّة، وجرى التنقيبُ عن النفط، فذلك سيمدُّ في عمر النظام اللبنانيّ الذي تَبيّن أنّه عصيٌّ على الإصلاح، وسيتفاقم الوضعُ من سيّئ الى أسوأ؟

- قمّوريّة: كن على يقين أنّ هذا الغرب يريد هذا النوعَ من الطبقات السياسيّة لا غيرَه. هذا هو النموذجُ "المثاليّ" عنده، وإنْ لم يكن موجودًا فسيسعى إلى إيجاده! الغرب هو مَن يمدُّ في عمر هذا النظام. ذهبوا إلى العراق، فماذا فعلوا؟ ذهب صدّام حسين، فلماذا لم يبنوا نظامًا ديمقراطيًّا؟ ذهبوا إلى أفغانستان، فماذا فعلوا؟ هم يريدون ما نحن فيه. بل سأقول لكَ ما هو أخطر: هنا، في لبنان، تسمع مَن يطالب بـ"نزع السلاح." معظمُ اللبنانيين ليسوا ضدّ السلاح الذي نردع به "إسرائيل" عن أيّ مغامرةٍ محتملة، لكنّ أميركا و"إسرائيل" تريدان نزعَه لأنّه يهدِّدُهم، في حين أنّهما مع حماية أيّ قوّةٍ أخرى في الداخل بهدف إدامة الاضطراب والقلق لدى الفئات اللبنانيّة.

* سلامي: هل يدير الأميركيُّ المفاوضات، مع نتائجَ موضوعةٍ مسبّقًا؟

- قمّوريّة: طبعًا، طبعًا. وهو يريد حمايةَ "إسرائيل." النتائج معروفة. الاتفاق سيصل إلى خطّ "هوف." إذا لم توافقْ عليه سيقال لك "مكانَك راوحْ" أو"اذهبْ إلى المزيد من الانهيار اللبنانيّ!"

* سلامي: يعني سياسة العصا والجزرة، بل مجموعة من العصيّ ورُبْع جزرة فاسدة!

- قمّوريّة: في آخر المطاف، هناك خطّ "هوف" وهو الغاية. لا تريد خطّ"هوف"؟ إذًا لدينا تدبيرٌ آخر معك!

* سلامي: سؤال آخر، على أيّ أساسٍ تقول إنّ المفاوض اللبنانيّ سيتمسّك بكافّة الحقوق اللبنانيّة؟ ألن يتأثّرَ بالوضع الداخليّ المنهار؟

- قمّوريّة: هذا أمر طبيعيّ. السياسيّون الذين يديرون العمليّة، عندما يضيق الطوقُ من حولهم، سيسعوْن بأيّ طريقةٍ إلى التخلّص ممّا هم فيه، ولو على حسابنا. لقد وصلوا إلى طرح بيْع الذهب، وبيْعِ أملاكِ الدولة، من دون خطّةٍ أو مشروع، فهل تنتظر منهم ألّا يبيعوا الحدود؟!

* سلامي: د. خليفة، سأطرح عليك سؤالًا أتانا من وسائل التواصل الاجتماعيّ، وهو: هل نستطيع أن نبدأ بالتنقيب في بلوك 9 من دون تفاوض؟

- خليفة: الأمينُ العامّ للأمم المتحدة أرسل رسالةً إلى الحكومة اللبنانيّة يقول فيها إنّ لبنان يستطيع البدءَ في المنطقة التي ليس عليها نزاع. المشكلة أنّنا إذا استخرجنا النفطَ، وكان للبنان حصّةُ 40% منه على سبيل الافتراض، فمن سيتسلّمه؟ لا شركةَ وطنيّةً لدينا لاستخراج النفط والغاز! وفي هذا الشأن حضّرتُ إخبارًا سأتقدّم به إلى النيابة العامّة!

هاجسي الآن هو المفاوضات من أجل الحفاظ على الثروة الوطنيّة. المشكلة هي في إنشاء الشركات الخاصّة، وهي مخالفة للقانون 132 ومخالفة للمادّة 89 من الدستور. وأطماعُ بعض أطراف السلطة الحاكمة في لبنان واضحة ("بدهم يحلبوا البقرة"!). نحن، كحَراك، واعون تمامًا لِما تريده هذه الأطراف، وذلك لضرورة المواجهة على الجبهتيْن الخارجيّة والداخليّة.

* سلامي: نحن نعيش أوضاعًا اقتصاديّةً مزرية، وشبهَ حصارٍ اقتصادي. فلماذا نُجري مفاوضاتٍ في هذه الظروف؟

- خليفة: لو كان المسؤولون اللبنانيّون مسؤولين فعلًا، لما أوقعونا في الأخطاء من الأساس! يجب إحالتُهم على المحاكمة لأنهم أضعفونا بسبب هذه الأخطاء. لبنان ذهب إلى المفاوضات نتيجةً للضغط الدوليّ. في المياه اللبنانيّة ثروةٌ ضخمةٌ جدًّا من الغاز والنفط. والأمر نفسُه في سوريا وغزّة وقبرص أيضًا. نحن اللبنانيين نهزأ من قبرص، لكنّها تضحك على الجميع وتغلّبتْ على الجميع؛ فقد أعطيناها أكثرَ من حقّها وخسرْنا مساحاتٍ واسعةً مع قبرص و"إسرائيل." قبرص جزيرة صغيرة مقارنةً ببلدٍ مثل لبنان. الوفد اللبنانيّ اليوم واعٍ تمامًا لهذه الأمور، وهو يدافع عن القانون الدوليّ وتطبيقه. وعلينا، في المقابل، مساعدتُه.

* سلامي: د. عصام، أنقل إليك سؤالًا من أحد المتابعين. هل ترى أنّ التحوّل عند الشعب اللبنانيّ فاعلٌ أو سيُسمح له بأن يكون فاعلًا؟ وهل يمكن الوثوقُ بالمحاكم الدوليّة مع كلّ هذه الوثائق لاسترجاع الحقوق اللبنانيّة؟

- خليفة: أنا متفائلٌ بشعبنا وشبابنا الذين اشتبكوا مع منظومة الفساد في 17 تشرين الأوّل 2019. وفي المقابل، فإنّ المنظومة الفاسدة سهرانةٌ على مصالحها جيّدًا. نعم نستطيع أن نسترجعَ حقوقَنا لأنّنا نملك المنطقَ القويَّ والوثائق.

* سلامي: أستاذ أمين، سؤال من أحد المتابعين: لماذا التمسّكُ بالشمّاعة الخارجيّة؟ لو كنّا شعبًا يحبّ بعضُه بعضًا لما استطاع أحدٌ فرضَ خياراتٍ خارجيّةٍ علينا. هل نحن قادرون كشعبٍ على مواجهة هذه الضغوط؟

- قمّوريّة: لقد مرّ هذا البلد بظروفٍ أصعب من هذه بكثير. سنة 1982 كان نصفُ بيروت محتلًّا، ثم رأينا كيف تغيّر المسارُ في أقلّ من سنتين...

* سلامي (مقاطعًا): لكنْ، حينها، كانت لدينا مجموعةٌ من "المجانين" الذين طَردوا العدوَّ الإسرائيليّ. أليس لدينا اليوم "مجانين"؟

- قمّوريّة: شعبُنا زاخرٌ بهؤلاء "المجانين"! رأيناهم في 17 تشرين، ونراهم في كلّ مكان. المقياس الأساس في رأيي اليوم، وأنا لا أزال متفائلًا على الرغم من كلّ هذا الدمار العظيم، هو وجودُ بضع مجموعاتٍ قادرةٍ على تغيير الدنيا. كلُّ شبرٍ من أرضنا يجب أن نسترجعَه، بكلّ الطرق والوسائل. المشكلة هنا هو هذا النظام السياسيّ وهذه المجموعة السياسيّة اللبنانيّة الحاكمة. لست خائفًا، بل أنا واثقٌ بكثيرين، وأثقُ بشعوب هذه المنطقة. ما رأيناه سنة 2011 في تونس ليس تفصيلًا. ليس كلُّ مَن تظاهر هو "مِن عملِ السفارات." لقد نزل الناسُ إلى الشارع بهدف التغيير. وقال البعض إنّ الجيل الثالث في فلسطين سوف ينسى المفتاحَ، وإذا بالجيل الثالث والجيل الرابع متعلّقان بالمفتاح أكثرَ من أيّ جيلٍ آخر. لدينا من القدرات والإمكانيّات الكثيرُ الكثير، لكنّنا نريد "سكّةً" مختلفةً وحسب، والسكّةُ تحتاج إلى أناسٍ يملكون مصلحةً كبيرةً في بنائها. نحتاج إلى مجموعةٍ تقول "لا" وتستطيع أن تتّحدَ على برنامجٍ واضحٍ يملك الحدَّ الأدنى كي تقْدرَ على التغيير أو - أقلّه - على تخفيف الاحتقان، وعلى أن تكون إسفنجةً تُوقف الصِّدامَ المحتمل. صحيح أنّنا إزاء هجمةٍ خارجيّةٍ كبيرة، لكنْ في السنوات العشر الأخيرة تغيّرتْ أمورٌ كثيرة، وبرزت الصينُ وروسيا، وهما ليسا بالضرورة مثاليْن أو نموذجيْن يُحتذَيا، لكنّ تغيّرًا ما حصل في العالم. المطلوب المزيدُ من العمل والانتقاد الدائم. هناك مجانين، وسيبقى هناك مجانين.

* سلامي: سؤال آخر من أحد المتابعين: إذا وصلت المفاوضاتُ إلى النتائج المرجوَّة صهيونيًّا، فهل سنرى تعويمًا للسلطة في لبنان من جهة، ونرى مقاومةً تحميها من جهةٍ أخرى؟ هل سنشهد صراعًا داخليًّا طويلًا؟

- قمّوريّة: هم يهدفون إلى ذلك طبعًا. واضحٌ ماذا يريد الإسرائيليّ: استغلال "نفطِه" ونفطِك، و"غازِه" وغازِك، و"مياهِه" ومياهِك ومياهِ الجولان. انظرْ إلى الأرض الزراعيّة لدى الإسرائيليين، من أين يأتون بكلّ هذه المياه لريّها؟ هم يحاول استغلالَ كلّ هذه الوسائل وسرقةَ المياه من كلّ مكان. ولكنّ التراجع والخضوع في لبنان ليسا بالأمر السهل. هذا البلد الذي حرّر نفسَه بنفسه، بقواه الذاتيّة أساسًا، ليس سهلًا أن تُفرضَ عليه مفاوضاتٌ أو شروطٌ غيرُ عادلة. أقصى ما يمكن أن يحصلَ هو أن تفشل المفاوضاتُ، فيبدأ الأعداءُ بمحاسبتك، ويفرضون عليك قيودًا أكبر وعقوباتٍ أكثر. هذا ما يستطعون فعلَه. لكنْ ليس لدينا ما نخسرُه أكثر؛ فلقد صرنا "على الحديد" أصلًا! هذه فرصةٌ لنا كي نفكّرَ بطريقةٍ مختلفة، وأن نقولَ لمن يستمرّون في إدارة اللعبة: توقّفوا! نحتاج قوّة حقيقيّة تقول لهم: توقّفوا! لسنا وحدَنا المأزومين؛ هم أيضًا مأزومون.

*سلامي: أستاذ أمين، ألا تشعر بأنّهم استغلوا تراجُعَ الحَراك الشعبيّ اللبنانيّ الذي بدأ في 17 تشرين الأول 2019؟

- قمّوريّة: لكنّ الحَراك مأزومٌ هو أيضًا! المشكلة لدينا أنّنا لا نزعجُ هذا النظامَ بشكلٍ كافٍ، أو أنّنا أزعجناه ولم نكْملْ هذا الإزعاج. يجب أن نستأنفَ الإزعاج. النظام مرتاحٌ حاليًّا. لكنْ كيف سيحلّ كلَّ مصائب البلد؟

* سلامي: هل من كلمة أخيرة، أستاذ أمين؟

- قمّوريّة: أنظرْ إلى التاريخ. لم يكن أحدٌ في مثل قوّةِ روما، لكنْ لم يبقَ من روما سوى بعضِ الآثار التاريخيّة. وإمبراطوريّةُ المغول امتدّت من المحيط الهادي الى الأطلسيّ، ثمّ غدت أثرًا بعد عين. بريطانيا العظمى تكاد اليوم لا تكون موجودةً إلّا على جزءٍ من جزيرة، والجزيرةُ نفسُها مهدّدةٌ بالانقسام. هكذا الزمن: يتغيّر باستمرار. لا حلّ سوى أن يعودَ صاحبُ الأرض إلى بيته وأرضه. "إسرائيل" خطأ، ولا يمكن أن يستمرّ.

* سلامي: كلمة أخيرة، دكتور عصام؟

- خليفة: في مئويّة لبنان الكبير، ومن موقعي كأستاذ تاريخ، أقول إنّني مؤمنٌ بأنّ شعبنا، من خلال قواه الحيّة ونُخبه، قادرٌ على أن يدافعَ عن حقّه في البقاء في دولةٍ حرّةٍ مستقلّة، دولةِ المؤسّسات وحقوقِ الإنسان. نحن نواجه تحدّياتٍ على الجبهتيْن الخارجيّة والداخليّة. على الجبهة الخارجيّة تحيط بنا قوًى لديها أطماعٌ علينا أن نقاومَها. وعلى الجبهة الداخليّة ينبغي أن نقاومَ منظومةَ الفساد التي تستغلّ شعبَنا وتجوِّعُه.

بيروت