"دولة اليهود" والفزع من مكر التاريخ
18-09-2018

 

ليس الهوسُ الفاشيّ الذي ينتشر في المجتمع المستوطِن على أرض فلسطين سوى انبثاقٍ لآليّة الدفاع الذاتيّ، الناجمِ عن بقاء الذات المستوطِنة متمسّكةً بوهم الدولة المبنيّة على منطق القوّة لا الحقّ. ذلك أنّ هذه الذات التي لم تمنحها حقائقُ الماضي شرعيّةً أخلاقيّةً أو تاريخيّة، على الرغم من اكتسابها كلَّ الشرعيّات السياسيّة، الدوليّة بشكل خاصّ، لا تزال تلجأ إلى فعل الإنكار، ولو بشكلٍ مضمرٍ وغير فجّ.

اليوم، تقوم العقليّةُ الفاشيّة بتغليف إنكارها لأزمة كيانها الوجوديّة، فتسعى إلى التأكيد الدستوريّ على يهوديّة الدولة العبريّة، وكأنّ هذه الدولة حين قامت لم تكن ليهود كلّ العالم، بل للمجتمع الذي استوطن أرضَ فلسطين بالحديد والنار ودعمِ الإمبرياليّة العالميّة.

لقد عمّم يونغ نظريّةَ اللاشعور، التي ابتدعها فرويد، فنقلها من الفرد إلى الجماعة. وأظنّ أنّ ذلك قد انتقل أيضًا، في حالتنا، إلى الدولة والمؤسّسة. هكذا عمدت الدولة أو المؤسّسة الصهيونيّة، عبر قانون القوميّة الأخير، إلى الردّ على ما يهدّدها من تناقضاتٍ (داخليّة وخارجيّة)، إضافةً إلى إنكار وجود الآخر وحقِّه في أرضه.

***

لقد ضمن الكيانُ الاستيطانيّ خروجَ مصر ودولٍ عربيّةٍ أخرى من حلبة الصراع معه. ثمّ دفع إلى تدمير الجيش العراقيّ، وإشغالِ الجيش العربيّ السوريّ في حروبٍ داخليّة. ومع ذلك، فإنّه لم يتوهّم لحظةً أنّ  مشاكله وتناقضاتِه انتهت إلى غير رجعة، وذلك لإدراكه أنّ مقاومةَ وجوده لا تتعلّق بالأنظمة الحاكمة، بل بما استقرّ في يقين شعوب الأمّة العربيّة ووجدانها مِن رفضٍ له ولتمظهراته. يضاف إلى ذلك أنّ من يقاومون مشروعَه إلى الآن ما زالوا يؤرِّقون راحته.

كلّ ذلك دفع الكيانَ إلى حمل أقذرِ ما عرفته البشريّةُ من فكر فاشيّ دمويّ استعلائيّ عنصريّ الى سدّة الحكم والتشريع. والحقّ أنّ هذا هو مزاجُ المجتمع المستوطِن على أرض فلسطين كلّها، لا الدولة وحدها. وهذا المزاج غير موقّت، وغير مرتبط بأحداث متفرقة، بل ناشئ عن شعور بالتفوّق المادّيّ والقوة الهائلة. وهذا الشعور يعزِّز من حالة دفاعه عن الذات المهدّدة تاريخيًّا وفق لاشعورٍ جمعيّ.

لقد وُلدتْ دولةُ الاستيطان يهوديّةً كما وُلدتْ بريطانيا إنجليزيّةً، على حدّ قول بن غوريون. وتأكّدتْ نبوءةُ موزس هس بأن تكون القدسُ بالنسبة إلى اليهود ما عليه روما بالنسبة إلى الكاثوليك. وقد حدث ذلك نتيجةً عمليّةٍ تراكميّةٍ للهجرة والاستيطان، وتكلَّلَ بحرب العام 1948، القابلةِ الشرّيرةِ التي وَلدتْ هذه الدولة. وما التأكيدُ اليومَ على يهوديّة الدولة، بعد بلوغ هذه الدولة عقدَها السابع، إلّا مجرّد تطمينٍ للذات الخائفة. فعلى الرغم من كلّ مشاريع "الحلول،" منذ تقسيم لجنة بيل سنة 1937 إلى "صفقة القرن"اليوم، فإنّ ما يستقرّ في الوجدان الشعبيّ هو رفضُ الاستيطان والمشروع الاستيطانيّ، ورفضُ الصهيونيّة، ورفضُ دولتِها التي تعيش الآن قلقها الوجوديّ.

 

جدار الفصل في الضفة الغربيّة

والآن، ما هو الخطر الداهم من إثبات المُثْبت أصلًا في أنّ"إسرائيل دولةُ اليهود"؟

الخطر لا يتعلّق بما ستمارسه دولةُ اليهود مجدّدًا من حروب وتهجير وعنصريّة، بل يتعلّق بالتعامل مع هذا الأمر وكأنّه كارثةٌ محدقة، بدلًا من استعادة قوّتنا الذاتيّة ورفع شعار "فلسطين العربيّة" مقابل "إسرائيل اليهوديّة."

بكلامٍ آخر، علينا أن نعيد فتحَ الاشتباك التاريخيّ مع المشروع الاستيطانيّ بشكلٍ شامل، وأن لا نتعامل مع شعبنا الفلسطينيّ كـ"تجمّعات ذات خصوصيّات،" بل كشعبٍ صاحبِ قضيّةٍ واحدة ــ ــ في الضفّة الغربيّة كما في قطاع غزّة، وفي الجليل والساحل والمثلّث والنقب كما في المخيّمات وأصقاع الأرض كلّها. وأيُّ كلام على"خصوصيّة التجمّعات" يجب أن يندرج ضمن تنوّع البرامج النضاليّة، لكنْ في إطار الفكرة الشاملة، ألا وهي "فلسطين العربيّة."

هكذا نحيل ما استقرّ في الوعي الشعبيّ من يقين بحقّنا إلى قوّة مادّيّة، أيْ إلى سورٍ واقٍ من الانهيار في شراك التفاصيل التي تتناسى الجوهرَ الأساس.

***

سيؤسِّس الكنيست للقانون الجديد، "قانونِ القوميّة،" نُظُمًا وآليّات. وسيكون أكثرَ المتضرّرين من هذه الأخيرة فلسطينيّو 48 وفلسطينيّو القدس. هنا لا بدّ لهذيْن التجمعيْن، وخصوصًا الأوّل، من بناء تعبيرهم الوطنيّ السياسيّ والثقافيّ، بعيدًا عن اللعب في ملعبِ مشرّعي هذا القانون، أي الكنيست.

ومع أنّني ممّن يروْن ضررًا في المشاركة العربيّة في الكنيست، فإنّني أحاول هنا أن أمنح البراغماتيين فرصةَ التمتّع بمشاكسةِ دهاقنةِ الفاشيّة الصهاينة. غير أنّ شرْط ذلك هو أن يأتي بعد بناء التمثيل الوطنيّ لفلسطينيّي 48. ويكون ذلك من خلال جبهة وطنيّة، آخرُ همّها الكنيست، وأوّلُ همّها مقاومةُ الكيان، وفي إطار المشروع الوطنيّ الكلّيّ، المنبثق عن "الميثاق الوطنيّ" قبل أن يعدَّل.

إنّنا في حاجة إلى إعادة بناء مشروعنا الوطنيّ خارج تلاعُب قطبَي الانقسام، فتح وحماس، به. بمعنًى آخر، نحن أمام حالةٍ تاريخيّةٍ جديدة لا تنبذ المنقسمين وحدهم، وإنّما تنبذ الانقسامَ أيضًا. وإنّنا في حاجة إلى لملمة شتات شعبنا تحت مظلّةٍ واحدة، ولو ذهبتْ منظّمةُ التحريرإلى متحف العاديّات، أو آلت إلى ما آلت اليه "الهيئةُ العربيّة العليا" التي قادت النضالَ الوطنيّ قبل العام 1948.

هذه الحاجة لا يُعبِّر عنها أيٌّ من الهيئات القائمة حاليًّا، بل تتولّد اليوم في الوعي الجمعيّ الناقد، ضمن جيلٍ جديد. صحيح أنَّها ما تزال دون مستوى النضج، ولكنّ حرارةَ الأيّام القادمة كفيلة بإنضاجها وتصليب عودها.

انه مكرُ التاريخ، المتربّص بالحركات التي تعادي تقدّمَه إلى الأمام، يدفعها لتقول أمام معاندة الواقع: "ها أنا هنا، وأعيش، مدجَّجًا بكلّ مقوِّمات القوة." فيلكزها التاريخُ لكزتَه الموجعة حول حقيقة مجراه. لكنّ مكر التاريخ، أيضًا، يمكن أن يلعب بنا في لحظةٍ نحاول فيها أن نلوي مجراه ونرضى بالاستكانة للواقع.

فلسطين

جبريل محمد

باحث فلسطيني، حائز شهادة ماجستير في الدراسات الدوليّة من جامعة بيرزيت، وشهادةً في علم الاجتماع من الجامعة ذاتها. له العديد من الأبحاث والدراسات في الشأنين الفلسطينيّ والعربيّ. وهو باحث في مركز بيسان للبحوث والإنماء.