كيف نقرأ الوضع الفلسطينيّ في ضوء أفكار سمير أمين؟
27-11-2018

 

ينطلق سمير أمين في معالجته للقضيّة الفلسطينيّة من أساسٍ واضحٍ يرى الصهيونيّةَ حركةً استعماريّةً عنصريّةً تَخدم المركزَ الإمبرياليَّ العالميّ على حساب شعبنا والشعب العربيّ. يقول: "لقد مثّل المشروعُ الصهيونيّ الاستعماريّ على الدوام ــــ فضلًا عن العدوان المباشر على الفلسطينيين ــــ تهديدًا لبقية الشعوب العربيّة." لا بل إنّه وسّع قوسَ التهديد هذا ليكون تهديدًا لشعوب آسيا وأفريقيا، على ما قال في مذكّراته.

لا يطرح أمين حلولًا جاهزةً للمسألة الفلسطينّية، ولكنّه يصرّ دائمًا على ربط الصهيونيّة بالإمبرياليّة، وعلى أنّ الرجعيّة العربيّة متواطئة بفعل تبعيّتها للمركز الإمبرياليّ.

أمّا بخصوص اتفاق أوسلو، فإنّه لا يعتبره حلًّا، بل محض إعادة تموضع لدور البرجوازيّة الفلسطينيّة، مقابلَ التخلّي عن حقوقٍ وطنيّةٍ رئيسة، بحسب ما جاء في مذكّراته.

وفي ما يتعلّق بالسلطة الفلسطينيّة فإنّ أمين يذْكر أنّ الدعم الريعيّ الذي أنشأها قد خَطّط له الداعمون من أجل خلق طبقة اجتماعيّة تستفيد من واقعها السياسيّ الجديد. وعليه، فإنّ أمين لا يرى في البرجوازيّة الفلسطينيّة المستحدثة سوى استمرارٍ للبرجوازيّة التي نشأتْ في ظلّ الاستعمار، ببنيتها الخراجيّة التي انتقلتْ إلى البنية الريعيّة الرأسماليّة، ولم تشكّلْ تعبيرًا حقيقيًّا عن المطلب الوطنيّ التحرّريّ.

وإذا تركنا لأمين مواقفَه العامّةَ والقصيرةَ عن فلسطين، مع إيماننا بأنّه لم يكن متعاليًا عن هذه القضيّة، فإنّ ما يهمّنا هنا هو محاولةُ تطبيق فكره على واقعنا الفلسطينيّ، بهدف الوصول إلى منظور تنمويّ فلسطينيّ منفصل عن الاحتلال.

 

"كسر اتفاقُ أوسلو وملحقاتُه كلَّ محاولات الانفصال عن المحتلّ"

 

كسر اتفاقُ أوسلو وملحقاتُه كلَّ محاولات الانفصال عن المحتلّ. لا بل أُنشئتْ حلقاتُ وصلٍ بين الطرفين، ما لبثتْ أن تحوّلتْ إلى مكاتبِ ارتباط. وتولّد تعبيرٌ جديد، فرضه أوسلو، وعبّر عنه بعلاقةٍ تخارجيّةٍ مع المحتلّ، وبتقنينٍ هادفٍ إلى إلحاق البنية الفلسطينيّة ببنية الاحتلال، بغضّ النظر عن وجود "وزاراتٍ" وهيئاتٍ أمنيّةٍ ومدنيّة مختلفة تحمل "مظاهرَ" الاستقلال.

دخلت السلطةُ الفلسطينيّةُ إلى النظام الرأسماليّ المعولم من موقعٍ دون الحدّ الأدنى من السيطرة على الموارد، ورهنتْ نفسَها للرَّيْع، وشكّلتْ له مؤسَّساتٍ وآليّاتٍ و"ثقافة."

ولم يقتصر هذا الفعلُ على البيروقراطيّة السلطويّة وحدها، بل امتدّ ليطاول المنظّماتِ غيرَ الحكوميّة التي كان معظمُها قد نشأ على قاعدة المقاومة والقواعدِ الجماهيريّة الواسعة ــ ــ فإذا به يتحوّل إلى حالةٍ نخبويّة، وَضعتْ مفاهيمَ جديدةً، وجعلتْ من "المهنيّة" وسيلةً لبناء نخبة تكنوقراطيّة مرتبطةٍ برأس المال المعولم.

أقصت السلطةُ الوليدةُ القطاعَ الإنتاجيّ وهمّشتْه، وفتحت المجالَ أمام رأسماليّةٍ خدميّة وكمبرادوريّة متطفّلة على الريْع، ومستفيدةٍ منه. هكذا أصبح التحالفُ موضوعيًّا بين السلطة القائمة، وطبقةٍ جديدةٍ تشكّلتْ بنيتُها الأساسيّةُ من رأسمالٍ وافدٍ، تشرّبَ الحالةَ المعولمة قبل أن يَدخل البلادَ، وفرض شروطَه في إعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطينيّ، بما يؤمِّن سيطرتَه شبهَ الاحتكاريّة على الريع ــ ــ هذا من دون أن يقدّم نموذجًا إنتاجيًّا واحدًا يعبِّر عن حالة الانفصال مع بنية الاحتلال.

لقد حلّ تقاسمُ الريْع محلَّ الوظيفة الإنتاجيّة للرأسمال، من دون أن يغيِّر من طبيعة الارتباط بالبنية الاحتلاليّة. بل إنّ هذا الرأسمال الريعيّ أصبح متعاقدًا من الباطن مع البنية الاحتلاليّة في شتّى القطاعات، ومنها قطاعُ الاتصالات والمياه والكهرباء، ولم يخضْ أيَّ عمليّة نضاليّة حقيقيّة للسيطرة على الموارد قبل المعابر. فقد جرى تقسيمُ العمل من خلال قطاع رأسماليّ طفيليّ يسيطر على السوق، وبيروقراطيّةٍ كبيرةٍ ذات طابع زبائنيّ تدير مصالحَ هذا القطاع وتحميها ضمن إطار اقتسام الريْع وتدويره.

هذه الممارسات مجتمعةً خلقت انتفاخةً اقتصاديّةً سيطر فيها الاستهلاكُ على الإنتاج، وساد فيها تحالفٌ طبقيٌّ رضِي بالاستمرار في حالة الإلحاق التي باتت شرطًا لبقائه.

وعلى الرغم من قيام السلطة، ووفودِ شركاتٍ كبرى إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 67، ظلّت البطالةُ هي الظاهرة العامّة المسيطرة على البنية التشغيليّة، وارتفعت الحاجةُ إلى تصريف فائض العمالة إلى الورش الإسرائيليّة؛ ما جعل الجدالَ يدور حول شرعيّة العمل في المستوطنات.

في ظلّ هذه الظروف الاقتصاديّة المتردّية، لم يقم القطاعان الخاصّ والحكوميّ بأيّ مبادرة ذات شأن في حماية الأرض والسوق الوطنيّة: فلا منعت السلطةُ استيرادَ البضائع من دولة الاحتلال مثلًا، ولا بنى القطاعُ الخاصّ مصنعًا حقيقيًّا واحدًا يعتمد على استثمار ما يتوفّر من موارد، بل عزّز الارتباطَ بالبنية الاحتلاليّة؛ وما  مشاريعُ "المناطق الصناعيّة المشتركة" إلّا الدليلُ الأوضحُ على ذلك.

هكذا لم يعد الشعبُ الفلسطينيّ محكومًا ببيروقراطيّة ريعيّة جبائيّة فحسب، بل أصبح محكومًا أيضًا بمجمل الاتفاقيات السياسيّة والاقتصاديّة التي عقدتها السلطةُ مع دولة الاحتلال، وبشروط مؤسّسات التمويل الدوليّة والدول المانحة. وبدلًا من أن تعمل هذه السلطةُ على توسيع دائرة الانفصال عن الاحتلال، كما فعلت الانتفاضةُ الشعبيّة، فإنّها عزّزت الارتباطَ به. ويتأتّى هذا الأسلوب عن الخضوع للمركز الرأسماليّ العالمي، إذ تمّت هنا عمليّةُ "مقايضة" الاستقلال الوطنيّ بمصالح تحالف طبقيّ؛ تحالفٍ أوهم الناسَ أنّه يدفع نحو الاستقلال لكنّه فعليًّا ارتضى بمظاهره دون جوهره.

 

لم يعد الشعبُ الفلسطينيّ محكومًا ببيروقراطيّة ريعيّة فحسب، بل أصبح محكومًا بالاتفاقيات التي عقدتها السلطةُ مع الاحتلال

 

لقد ثبت أنّ الحماية الشعبيّة التي أنتجتها ثقافةُ الانتفاضة الشعبيّة قد هُزمتْ. ويعود ذلك الى النخبة التي حوّلتها من استراتيجيّة شعبيّة للانفصال عن المحتلّ إلى وسيلة ضغط سياسيّة أنتجت منطقَ "الاستدوال." بكلمات أخرى: استبدلت "النخبة" مفهومَ الوطن بمفهوم الدولة.

***

في فكر سمير أمين الكثيرُ ممّا يفسِّر حالَنا اليوم. ولعلّ الفكر الاقتصاديّ المواجِه لفكر الطبقة المهيمنة في الأراضي الفلسطينيّة، بمختلف تلاوينه، لا يزال يستقي معظمَ مصطلحاته ممّا أنتجه أمين. ويعود الفضل في هذا إلى أنّ أولى الكتابات التي أسّستْ لمعالجة الواقع الاقتصاديّ في فلسطين قد نهلتْ من فكر سمير أمين الكثيرَ من أفكارها. فقد كان الرائد في ذلك هو الرفيق عادل سمارة، الذي شكّلتْ كتبُه في اقتصاد المناطق المحتلّة في السبعينيّات أُولى الكتابات التي استقت من فكر أمين وممّا أنتجتْه "مدرسةُ التبعيّة" في نقدها للتبادل اللامتكافئ، وظلّ كثيرٌ من الكتّاب (يساريين ويمينيين) يدورون في هذا المجال حول ما أنتجه سمارة. فهو لم يقدّم التحليل فحسب، وإنّما طرح أيضًا الحلَّ القائمَ على "التنمية بالحماية الشعبيّة،" الذي أصبح شعارًا متداولًا شعبيًّا، لا بين أوساط المثقفين وحدهم.

وإذا حاولنا الآن تطبيقَ فكر سمير أمين عن الحركات الشعبيّة المناهضة للسياسات الإمبرياليّة على واقعنا الفلسطينيّ، فاننا سندخل في حالة مركّبة من التطبيق. إذ لا بدّ، أوّلًا، من مواجهة المشروع الصهيونيّ باعتباره جزءًا من الإمبرياليّة المعولمة وحامي مصالحها في المنطقة. ولا بدّ، ثانيًا، من مواجهة السياسات النيوليبراليّة التي تنتهجها سلطةُ الحكم الذاتيّ، التي هي أصلًا مرتهنةٌ باتفاقاتٍ اقتصاديّةٍ مع الدولة العنصريّة. ولا بدّ، ثالثًا، من خوض معركة الوعي مع سياسات التمويل الدوليّ للمنظّمات غير الحكوميّة، التي لم تتخطَّ حاجزَ تنفيذ الأجندات غير المباشرة لمؤسَّسات التمويل على اختلاف تلاوينها.

هذا النضال المركّب لا يحتاج إلى معارك فكريّة فحسب، بل يحتاج كذلك إلى تقديم نماذج تنمويّة لا تعتمد على الرأسمال الطفيليّ، ولا على وصفات مؤسّسات التمويل الدوليّة. يحتاج الأمر إلى بناء نمط تعاونيّ، يرتبط فيه الإنتاجُ بالقيم التحرريّة وقيم العدالة والاشتراكيّة. إنّ فشل الحَراكات الشبابيّة حتى الآن لا ينبع فقط من غياب القيادة الكاريزميّة لها، بل ينبع أيضًا من غياب الربط بين الأفكار والممارسة العمليّة على الأرض. فكلُّ ما لدينا هو تبشيرٌ حتى الآن، لم يتخطَّ حدودَ الدعوة إلى مجال التبنّي الفعليّ والميدانيّ ــ ـــ ذلك التبنّي الذي يولِّد الاستمراريّة ويكون مؤسّسةً راسخةً تخلق نوعًا من "الهيمنة الثقافيّة" في المجتمع كما وصفها غرامشي.

هذا الأمر لا يمنع المؤسّسةَ الحزبيّة من المبادرة، بل إنّه يتطلّبها، وبخاصّةٍ من أحزاب اليسار التي لا زالت تعاني أزمةَ الفجوة بين الخطاب والممارسة؛ وهي فجوةٌ جعلتها رهينةَ الشعار الذي لم تمتحنه الممارسةُ، ما جعلها مجرّدَ جملٍ يابسةٍ غيرِ قابلةٍ للاخضرار.

فالأحزاب، وخصوصًا اليساريّة، تريد من الحَراكات أن تقوم بدورها هي (أي الأحزاب)، فيما تكتفي هذه الأحزابُ بالتقويم ضمن مسطرتها الجاهزة! أما الحَراكات فتحاول "التعفّفَ" عن الحزبيّة، أو التخفّفَ من التعاون مع الأحزاب ــ ــ وهذا خلل كبير في رؤيتها يجعل من تلك الحراكات مجرّدَ كياناتٍ هلاميّةٍ وجزرٍ معزولة. هنا، لا بدّ من الجمع بين منطق سمير أمين حول تحالف الطبقات الشعبيّة في حركاتٍ مناهضةٍ للرأسماليّة، ومنطق الشهيد مهدي عامل في ضرورة الحزب الذي يواجه نمطَ إنتاج كولونياليّ وبنيةً كولونياليّةً مهيمنة.

فلسطين

 

جبريل محمد

باحث فلسطيني، حائز شهادة ماجستير في الدراسات الدوليّة من جامعة بيرزيت، وشهادةً في علم الاجتماع من الجامعة ذاتها. له العديد من الأبحاث والدراسات في الشأنين الفلسطينيّ والعربيّ. وهو باحث في مركز بيسان للبحوث والإنماء.