انشطاريّة أدونيس وأُمميّة حسين مروّة: الإبداع، الحداثة، وما يتعدّى التقزّمَ والأسبقيّة
29-03-2019

 

خلال مسيرةٍ شعريّةٍ طويلة وغنيّة، تصدّى أدونيس لمفهومَي "التراث" و"الحداثة" وعلاقتِهما بالإبداع. فادّعى أنّ حضارات حوض المتوسّط، خصوصًا بلاد الشام والرافديْن، احتوت على سمات الحداثة قبل ظهورها في الغرب. لكنّه في الواقع كان يحاول أن يُسبغَ على الشرق القديم ما أعجبه في الحداثة الغربيّة. ولكي يعيد إنتاجَ مصطلح "الحداثة" لِينطبق على الشرق والغرب معًا، فقد فصل الحداثةَ عن مسارها وتكوينها الأوروبيّين. غير أنَ هذا المسار، في الواقع، ارتبط بتحوّلاتٍ مادّيّة - اجتماعيّة محوريّة، انبثقتْ عنها قيَمُ الفكر التنويريّ وشرَّعتْها. هكذا جعل أدونيس التجديدَ التنويريّ، من حيث المضمون والشكل، عبر العصور، أساسًا لكلَّ ما هو إبداعٌ وثورةٌ على القِيَم الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة.

في هذا السياق، قدَّم أدونيس رؤيتَه الخاصّة لطبيعة الشرق والغرب والعلاقة بينهما. وجاءت هذه الرؤيةُ لتعكس عجزَه عن التحرُّر من الثنائيّة والأطر المعرفيّة الاستشراقيَّة، ولاسيّما التي روَّج لها لوِي ماسينيون وهنري كوربان، فحالت دون الاستفادة من تجاربَ وتراثاتٍ عَلمانيّة مغايرة لنموذج النخب "الليبراليّة" الفرنسيّة، ومن تجاربَ وتراثاتٍ تسعى إلى فكّ الارتباط بالاستعمار.

ولقد رأيتُ أن أقارن بين مواقف أدونيس من جهة، ومواقف حسين مروّة، المفكّرِ الشيوعيّ اللبنانيّ المعروف، من جهةٍ ثانية، حول قضايا التراث والحداثة والإبداع. والهدف من ذلك تسليط الضوء على المتاهات التي أنتجها فكرُ أدونيس، ولكي أطرحَ الماركسيّةَ النقديّة إطارًا نقديًّا ملائمًا للأدب والشعر والعمليّة الإبداعيّة.

كان مروّة شيوعيًّا ناقدًا لمنظومة الحداثة الكلاسيكيّة الليبراليّة. لكنّه قدَّم لنا، من خلال نقده المميّز للعَلمانيّة الليبراليّة، فهمًا خلّاقًا للتراث، يصبُّ في خانة الماركسيَّة المتجدِّدة: فأكَّد قيمةَ التراث (العربيِّ أو غيره) النسبيّةَ (لا المطْلقة)، ورأى أنّ الإبداع عمليّة تراكميّة - - ما يعني أنّ الحداثة الأوروبيّة، حين ادّعت فسادَ كلِّ ما عاشته الإنسانيّةُ قبلها، لم تستطع أن تعوِّضَ من ذاكرة الماضي، ولم تأتِ بحقائقَ نهائيّةٍ مطلقة، فبقيتْ آفاقُ البحث مفتوحة.

 

مفهوم الشرق والغرب

اعتبر أدونيس الثقافاتِ الآراميّة - السريانيّة والبيزنطيّة - الروميّة منابعَ للحداثة. وهو يرى حداثةَ الشرق متقدِّمةً على حداثة الغرب، وأنّ الإبداعات الكبرى في الغرب "شرقيّة الينابيع."[1]

وإلى جانب دَأبِ أدونيس على تسويق فكرة أسبقيّة تفوُّقِ الشرق على الغرب، فإنّه جرَّد الحداثةَ الغربيّةَ من البيئة المادّيّة والاجتماعيّة التي أنتجتها. كما أنّه تعامى عن إشكاليّات هذه الحداثة: فَقِيمُها، التي حرَّرت الإنسانَ الأوروبيَّ من اضطهاد الكنيسة وحسَّنتْ ظروفَه، دخلتْ أيضًا في صياغة المنطق الاستعماريّ ليصبح أحدَ الأسس المعرفيّة للنخب الأوروبيّة.

ولهذا فإنّ أدونيس، حين يُعلنُ في فاتحة لنهايات القرن (صفحة ٣٣١) أنّ هايدغر "غربيُّ الولادة، شرقيُّ الأصل والتلوّن،" يَفترضُ ندّيّةً حضاريّةً من باب "هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا،" ويُغفل علاقةَ فلسفة هايدغر بالعنصريّة القوميّة والنازيّة. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ الحنينَ إلى الماضي (ممثّلًا بالمجتمعات الريفيّة)، والقلقَ من الحداثة (ممثّلةً بالتكنولوجيا العصريّة والتطوّر الصناعيّ)، اللذين طبعا فكرَ هايدغر، قد طَبعا فكرَ أدونيس أيضًا، على الرغم من ادِّعائه ضرورةَ امتلاك النظرة المستقبليّة أبدًا ودائمًا.

إنَّ فكرةَ "الغرب المُشرقَن" تقودنا أيضًا إلى المستشرقَيْن لوي ماسينيون وتلميذِه هنري كوربان، اللذيْن احتفلا بالتصوُّف والتشيُّع في وصفهما انعكاسًا للتراث الغنوصيّ العرفانيّ الشرقيّ، في وجهيْه المسيحيّ والإسلاميّ. لكنّ بحوثَهما في الإسلام ارتبطتْ بالنزعة الدينيّة المسيحيّة، وربّما التبشيريّة؛ إذ شعرا بضرورة إنعاش الحسّ الدينيّ بين المفكّرين الغربيِّين، وتخطّي حالة الضياع، كما تصوَّراها، إزاء انتشار الأفكار العَلمانيّة والإلحاديّة في أوروبا. فلماذا تبنّى أدونيس أفكارَهما، مع أنّه اعتبر العلمانيّةَ والإلحادَ ركنيْن أساسيْن في عمليّة الحداثة والديمقراطيّة؟

الإجابة عن هذا السؤال، مثل الإجابة عن سبب ميْله إلى التنميط الحضاريّ، تضعنا أمام استنتاجٍ واضح: تذبذبه إزاء الالتزام بأسس الحداثة العلمانيّة ونُظُمها القِيَميّة. فأصحابُ هذه النُّظم يعتبرون الحنينَ إلى مجتمعاتٍ ولَّتْ نوعًا من الماضويّة الرجعيّة، ويرَوْن في إيقاظِ ما ماتَ وهمًا في وهم. ولهذا، فإنّ النظرة المستقبليّة التي مجَّدها أدونيس لم يستطع أن يعيشَها بنفسه أو يمتلكَها؛ ذلك لأنّ ردَّ الأفكار إلى جذورٍ حضاريّةٍ ثابتة يحوِّل هذه الأفكارَ إلى تقمُّصاتٍ متفاوتة لكنْ بِمضامينَ ثابتة - - وهذا مناقضٌ للتغيير الحداثويّ اللامتناهي الذي دعا إليه.

 

أدونيس وقع في التنميط والاستشراق المعكوس

 

الأهمّ من ذلك أنّ هذا التنميط يَخدم مقولاتٍ عنصريّةً تُناقض الحريّةَ والمساواة. ولربّما كانت قصيدةُ أدونيس، "قبر من أجل نيويورك" (١٩٧١) أسوأ ما وقع فيه من التنميط والاستشراق المعكوس، حتى لتبدو مفعمةً بحسٍّ رجعيّ. في هذه القصيدة، يبحث حكواتيٌّ مشرقيٌّ عن شبح الشاعر والت ويتمان بين وول ستريت وأحياءِ نيويورك الفقيرة (مثل هارلِم). ويصبُّ أدونيس جامَ غضبه على المدينة بأسْرها، فيخال أنّ "ريحًا شرقيّةً" تقتلع ناطحاتِ سَحابها، ويرى أنْ لا شيء يمكن أن يطهِّرَها سوى الطوفان، فيُنزل بها عقابًا إلهيًّا إبراهيميًّا، دينيًّا بامتياز. أمّا فقراءُ هذه المدينة ومهمَّشوها، فلا يرى لهم دورًا في صنعها وتأسيسها، ولذا يُغْرقهم مع الغرقى في وول ستريت. هكذا يصبح "الشرقُ" أيضًا كتلةً حضاريّةً واحدة تقوم بمحاسبة نيويورك والدِّفاع عن ويتمان.

إذًا حين يقول أدونيس، في كتابه الهويّة غير المكتملة، إنّ "العالم واحد،" وإنّ "الغرب والشرق غيرُ قابليْن للانفصال،" فهو لا يعني بهذا وحدةً إنسانيّةً حقيقيّة. فإلى جانب استشراقه المعكوس، نرى لديه هاجسَ الندِّيّة مع الغرب في أبسط الملاحظات وأكثرِها عفويّةً، مثل قوله إنّ أبا تمّام، مثل والت ويتمان، ينتميان إلى العالم الإبداعيّ.[2] فلو كان يؤمن بأنّ كلَّ المبدعين يعيشون في عالمٍ واحد، فلماذا لم يقارنْ شعراءَ الجنوب بالجنوب، والغربِ بالغرب؟ لماذا لم يكسر الأسوارَ الثقافيّة داخل الغرب والشرق، ويفتح ثغرةً في مفهوم الهويّة الحضاريّة ذاتها؟ لماذا لم يتناول التراثَ الأدبيَّ الأوروبيّ بالطريقة النقديّة ذاتها التي تناول فيها نظيرَه العربيَّ - الإسلاميّ؟ لماذا يُشْهرْ في مناسبات شتَّى رموزًا مِنواليّة "للحضارة الفرنسيّة" لا تتغيَّر؟ فعلى الرغم من إقامته الطويلة في باريس، فإنّه لا يشير إلّا بإيحاءاتٍ غامضةٍ إلى واقع الحياة في المجتمع الفرنسيّ، وطنهِ الآخر، فلا نرى سماتِ هذا المجتمع الواقعيّة، في جمالها أو قبحها. في الوقت ذاته، يبقى خطابُه مفعمًا بالانشطاريّة، مكبَّلًا بالثنائيّات الحضاريّة.

وبالانتقال إلى حسين مروّة، فإننا نرى في مفهومه للتراث العربيّ - الإسلاميّ التزامًا عميقًا بحداثةٍ يساريّةٍ تعكس اقتناعَه بشموليّة المساواة والحريّة المناوئتيْن للبنى الاستعماريّة، واقتناعَه بمبادئ التنوير (مثل ضرورة تخطِّي العادات المتوارثة التي تَحُول دون تطوُّر المجتمع مادّيًّا وفكريًّا). ويَطول نقدُ مروّة، في هذا المجال، المجتمعاتِ العربيّةَ والأوروبيّةَ على حدّ سواء. أمّا البحثُ عن "الينابيع،" عن "نقطة بداية" لأيّ فكرةٍ أو ممارسة، فيصبُّ، كما قال، في خانة التنميط العنصريّ الضيّقِ الأفق والمبارزاتِ الحضاريّةِ التي لا قيمة لها في عمليّة التغيير التاريخيّ.[3] فالأجدى، في رأيه، أن ندرس العمليّةَ التاريخيّةَ التي حدت بمجتمعٍ ما أن يقتبسَ سمةً معيّنةً من مجتمعٍ آخر، وأن يصهرَها فيه، وأن نفهمَ الهيئةَ التي اتَّخذها هذا الانصهارُ، الذي يصبح مع الوقت جزءًا لا يتجزَّأ من حقيقته. إنّ الأفكار، بالنسبة إلى مروّة، لا تُستعار ولا تُقرض، بل هي ملْك للجميع، يغيِّرها النّاسُ ويُعيدون صياغتها على الدوام طبقًا لحاجاتهم التاريخيّة.

وقد كرَّس مروّة جهودًا جبّارةً في نقد التيّارات الفكريّة العربيّة المعاصرة التي نادت بـ"حداثة القديم." فعلى سبيل المثال، انتقد عبد الرحمن بدوي، ويوسف مروّة، وصادق جلال العظم، حين أشاروا إلى تطابقٍ بين الماضي والحاضر في نتاج المسلمين الفكريّ من دون اعتبارٍ للظروف التاريخيّة المتفاوتة.[4] ونعت هذا المنهج بالسلفيّة المصطبغة بالحداثة.

أمّا فكرة الغرب المُشرقَن التي روَّج لها أدونيس، فقد تقع أيضًا، بحسب مروّة، في هذه الخانة. وقد هاجم مروّة كلَّ مَن بحث عن "الجذور" العرقيّة والدينيّة للأفكار كغايةٍ في حدِّ ذاتها. وانعكستْ منهجيَّةُ مروّة هذه في دراسته للحُنفاء، وموقفِهم من المسائل الكونيّة، فقال إنّهم استفادوا من التراثات الدينيّة الموجودة في شبه الجزيرة العربيّة، لكنّ موقفَهم لم يكن وثنيًّا ولا يهوديًّا ولا مسيحيًّا، بل "ولادةُ أمرٍ جديدٍ من رحِمِ الأمر القديم نفسه، أو إرهاصٌ بهذه الولادة."[5]

يرى مروّة الصراعَ على عدَّة جبهات، شرقًا وغربًا، وداخل المجتمعات العربيّة وخارجها، لأنّه صراع واحد.[6] فَلم يتركْ مدرسةً استشراقيّةً إلّا وتصدّى لها في مقدِّمة كتابه، النزعات المادّيّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة (١٩٧٨)، أيْ في السنة ذاتها التي ظهر فيها كتابُ الاستشراق لإدوارد سعيد. أكتفي هنا بذكر نقدِه لإرنست رينان وأمثالِه مِن الذين اعتبروا العِرقَ الآريَّ متفوّقًا على الساميّ، وأعلنوا تفوُّقَ الفرس على العرب خصوصًا في حقل الفلسفة.[7] وفي المقابل، لم تخلُ تصريحاتُ أدونيس من إشارات إلى تفوّق الأثر "الخارجيّ" (مثل البيزنطيّ والفارسيّ) على "الداخليّ" العربيّ؛ وهو قسَّم المجتمع العربيّ - الإسلاميّ طبقًا لوعيه القومويّ الثنائياتيّ الحديث، الذي لا يمتّ بصلةٍ إلى أنواع الوعي التي نراها قبل القرن الثامن عشر.

 

      حسين مروّة لا يرى الموروثَ ثابتًا، بل يتغيّر طبقًا للعلاقات التي يحياها الناظرُ إليه اليوم

أمّا بالنسبة إلى "الموروث،" فإنّ مروّة لا يراه ثابتًا، بل يتغيّر طبقًا للعلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي يحياها الناظرُ إليه اليوم. فحتَّى حين يبدو التراثُ وكأنّه ثابتٌ، فإنّه في الواقع يتّخذ أشكالًا جديدة. إذًا، وانطلاقًا من مبدأ الماديّة الجدليّة، تختزنُ مفردةُ "الموروث" تناقضًا واضحًا، لأنّ الثابتَ في الموروث يبدو ثابتًا في لحظةٍ زمنيّةٍ محدَّدة، لا في المطْلق. كما أنّ المدافعين عن الموروث يبالغون في وصف التغيير الحاصل وكأنّه شذوذٌ عن القاعدة. في مرحلةٍ لاحقة، حين يتبنّى تراثٌ أدبيٌّ آخرُ هذا التغييرَ، فإنّه يدافع عنه على أنّه الأصل والقاعدة.

وعلى الرغم من تأكيد مروّة أهمّيّةَ الجذور المادّيّة للأفكار والقيَم، فإنّه يُقرُّ باستقلالها النسبيّ عن تلك الجذور. ففي حقول الفلسفة والفنون التعبيريّة والتجريديّة، على سبيل المثال، قد يستقلّ الفكرُ نسبيًّا عن الصراعات الطبقيّة وسُبلِ الإنتاج وأشكالِ السُّلطة.

 

مفهوم الحداثة

تسابقَ مفكّرو العالم الثالث وأدباؤه، وبينهم أدونيس، على إشراك أنفسهم ومجتمعاتهم في رواية الحداثة، وفي حقيقتها الغربيّة التي هيمنتْ على العالم بأسْره. وتؤكّد هذه الروايةُ إنجازاتِ الدولة الحديثة وتفوُّقَ خطابها عن المساواة والعقلنة. وقد تصدّى المفكِّر الفرنسيّ ميشال فوكو، والمفكِّر الألمانيّ ثيودور أدورنو، لدور الحداثة في إنتاج أنواعٍ من العنف غير مسبوقة في تاريخ الإنسانيّة، حتى صارت "العقلنة" مرادفةً لتأديب الجسد وقمعِه، وارتبطتْ بجهاز الدولة الحديثة، القانونيّ والأمنيّ.

أمّا أدونيس، الذي اقتصرتْ قراءاتُه للحداثة على نظرةٍ ليبراليّةٍ مبسَّطة، فقد ردَّ الحداثة إلى "الحدث الجديد،" أيْ إلى ما هو مُحْدثٌ إطلاقًا عبر العصور، لا إلى القرن الثامن عشر في أوروبا كما هو معروف. ورأى أنّ كلَّ حداثة هي "اصطدامٌ" بين "الخارج" و"الجديد" من جهة، وبين تراثٍ تابعٍ للسلف "مقيَّدٍ بنقلٍ ومحافظةٍ على الوحي" من جهة أخرى.[8] لم يرَ أدونيس نسبيّة "الجديد،" ولا التعقيداتِ التي تكتنف تحديدَ ما هو "خارجٌ" عن المألوف في لحظةٍ تاريخيّةٍ ما. واعتبرَ مبدأَ التغيير الحداثويّ واحدًا يتمثَّل في روح "الابتكار والاكتشاف،" سعيًا نحو قيمٍ فرديّةٍ لا جماعيّة.

والحقّ أنّ مثلَ هذا التعريف يدفعنا إلى التساؤل عن دافع أدونيس إلى اعتبار بعض الشعراء الصوفيّين في العصور الوسطى حداثويِّين؟ فهؤلاء لم يعبِّروا قطّ عن حبِّ الاكتشاف، وكانت أسسُهم المعرفيّة مبنيّةً على الكشف الروحيّ، ورياضاتُهم الروحيّةُ والبدنيّةُ معتمدةً على قيمٍ وعاداتٍ جمعيّة (وإنْ كان بعضُها فرديًّا)، وكذلك على موروث التكايا والزوايا. المتصوِّف هو مَن لا إرادةَ له، وهو مَن مات قلبُه عن كلِّ شيءٍ سوى المعبود. والمعرفة لدى المتصوِّف تنبثق في القلب، لا في العقل الذي مدحه أدونيس في أكثر من محفل.[9] ولقد وصف أدونيس نفسَه بالوثنيّ الصوفيّ أحيانًا، وبالملحد أحيانًا أخرى. لكنَّ البحثَ عن سحر العالم والإشراق والانعتاق والتشوُّق الأبدي ّ"إلى كمالٍ لا ينتهي،" على ما حكى أدونيس،[10] لا يشكّل دعامةً للمذهب الإلحاديّ، وإنْ تقاطع مع نمطٍ هامشيّ من الإلحاد المشوب بالرُّوحانيّة.

أمّا مروّة فقد استخدم مفرداتٍ مثل "معاصرة" و"تجديد" و"ثورة على القديم" للتعبير عن النزوع إلى أفكار أقلَّ مثاليّةً وأكثرَ واقعيّةً ممّا سبقها تاريخيًّا.[11] فإذ يؤكّد، هو الآخر، أهمّيّةَ تطوير المبادئ العقليّة في التعاطي مع الوحي، فإنّه يَنشدُ هذه المبادئ في سعي الطبقات الكادحة إلى تغيير علاقتها بالسلطة وبرجال الدِّين المرتبطين بها. فلا يبدو الدِّينُ ولا التديُّن، بالنّسبة إليه، مناقضَيْن للمُعاصَرة.[12] والمُعاصَرة، عنده، تدخل في علاقةٍ جدليّةٍ مع الأصالة؛ وهنا أيضًا لا يوجد تناقض مطلق بينهما.[13]

أدّى تعريفُ أدونيس للحداثة إلى مغالطاتٍ جعلتْه يعلن أنّ شاعرَ العصر الأمويّ مأخوذٌ "بين قطبين: الحريّة، على غرار الجاهليّة، أعني الحريّةَ اللازمةَ لعقيدته السياسيّة والفكريّة والتي لا يجد دونها معنًى لحياته، والضغطِ الذي يمارسه عليه الاتجاهُ السياسيُّ السائد في الحكم وفي الحياة العامّة."[14] هذا التشديد على الحريّة، كمعنًى تامٍّ للحياة، غريبٌ عن ذلك الزمن الذي كان فيه اللهُ، لا الإنسانُ، محورَ الكون. أمّا حركيّة التراث الشعريّ العربيّ، منذ عصر الجاهليّة حتّى عصر النهضة، فغيرُ مرتبطةٍ بالعقلنة، ولا بالنظرة المستقبليّة، ولا بالسعي نحو "الحريّة المطلقة،" لأنّ هذه القيم جميعَها تنتمي إلى حقبة تاريخيّة لاحقة. ولو نظرنا إلى شاعر مبدع مثل بشّار بن برد، اشتُهر بمجونه وتهكُّمه على المعتقدات الإسلاميّة ووُسِمَ بالزندقة، لرأينا أنّه لم يمتلكْ نظرةً تحرريّةً عقلانيّةً، ولم يروِّجْ "لثقافة الجسد" كما ادّعى أدونيس الذي سعى إلى إقحامه في دائرة الحداثة التنويريّة الغربيّة.[15]

إلى جانب ذلك، يتعاطى أدونيس مع شعر المجون الإبداعيّ، شكلًا ومضمونًا، على أنّه حداثويّ. غير أنّ الحداثة التنويريّة كانت في بداياتها قد لفظتْ أنواعًا من الأدب الجنسيّ الشعبيّ والإيروسيّ. ومن ثمّ لم يكن شعرُ المجون والتهتُّك في المجتمع العربيّ - الإسلاميّ دائمًا مناوئًا للسلطة الروحيّة - السياسيّة، بل انتعشتْ نماذجُ منه في بلاطات الخلفاء وبين مثقَّفي السلطة أنفسهم، وكان بعضُ العلماء والفقهاء يعتبرونه نمطًا من التسلية والترفيه. صحيح أنّ الخليفة المهدي قتل بشّارًا لتماديه في التهتُّك الذي اقترب من الزندقة، غير أنّ الخليفةَ المتوكِّل كان يستسيغُ الهزلَ والتهتُّكَ ويدفعُ المال ليسمعَه. ومن ثمّ، لم يكن شعراءُ المجون والهزل بالضرورة أعداءَ الموروث السياسيّ والاجتماعيّ. نرى الشاعر ابنَ الحجّاج، مثلًا، مكرَّمًا في بلاط العباسيين، مع أنّه كان يتوغّل في وصف عضوه والجماع، بطريقة هزليّة أحيانًا، وغرائبيّة غير شهويّة أحيانًا أخرى. وقد هجا أبو دلامة أبا مسلم الخراسانيّ لينال رضى العباسيّين، ومدح الخلفاءَ أبا العبّاس (السفّاح) والمنصور والمهدي، وكانوا يستظرفون مجونَه. فاستهتارُ أبي دلامة بالصلاة والصوم لم يرتبط بنظرة سياسيّة ناقدة للنظام السائد. من هنا نستغربُ قولَ أدونيس إنّ كلَّ تحديث في شكل القصيدة أو مضمونها "ثوريّ" ويكشف عن "الاتجاه السياسيّ الصحيح."[16] ثمّ، هل هناك اتجاه "صحيح" واحد؟ ومَن الذي يحدِّده؟

لم يكن التهتُّكُ، إذًا، مشروعَ تحرُّرٍ اجتماعيّ حداثويّ في ذلك الزمن، كما وصفه أدونيس، بل على العكس: كان تعبيرًا عن عمق ارتباط الحمقِ بالجِدِّ في الذاكرة الجمعيّة، وعن التصالح مع تمثيل الفحش الأدبيّ كمادّة نقديّة وإمتاعيّة. ولقد خفي على أدونيس أنّ هناك أنواعًا من الشعر الإيروسيّ غير تقدميّة؛ فكثيرًا ما استخدم المتهتِّكون (مثل بشّار بن برد) القذعَ الجنسيَّ ضدَّ نساء الخصوم ليحقِّقوا هدفيْن: إمتاعَ الأقوياء والسطوةَ الذكوريّة. وهذا النوع من المجون ليس ثوريًّا، وإنْ تحدّى آدابَ الخاصّة والتربية الدينيّة.

أمّا شِعر الكدْية فقدَّم الكوميديا السوداء، وبسَّط شكلَ القصيدة، وعبثَ بالقافية، فخرج عمّا هو سائد، لكنّه لم يلقَ اهتمامًا يُذكر من الحداثويّين، ومنهم أدونيس. ومثل ذلك كان نصيب أدب السخرية من الأنساب وكبارِ النحويّين وشعراءِ البلاط والفقه والفقهاء وقرّاءِ القرآن، ممّا نراه في كتب أخلاق الوزيريْن لأبي حيّان التوحيدي، وخاصّ الخاصّ للثعالبي، والمستطرف للإشبيلي، ومحاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني، وفي غيرها.

 

الإبداع والسلطة

يرى مروّة أنّ مفهوم الإبداع يتغيّر بحسب تغيُّر الواقع والعوامل التاريخيّة المحيطة بأدوات النقد وآليّاته. ثم إنّ الإبداع، بالنّسبة إليه، أمر متنازَعٌ عليه بين النخب المرتبطة بالسلطة والنخب الناقدة له؛ ومنه ما يعكس رأيَ الطبقات المتضرِّرة من السلطة، ومنه ما يرتبط بالسلطة بطريقة مباشرة وغير مباشرة.[17]

أمّا بالنسبة إلى أدونيس فإنّ مِن أهمّ العناصر التي ارتكز عليها في رصد الإبداع الحداثويّ: الموقف من السلطة والقيمِ السائدة، وعلى رأسها القيمُ الدينيّة. فقد وصف ثقافةَ الشافعي والأصمعي والجاحظ، على سبيل المثال، بأنّها "ثقافةٌ سلفيّة،" وأضاف قائلًا إنّها، "في الوقت ذاته، ثقافةُ النظام الذي ساد."[18] ويكرِّس اهتمامًا خاصًّا بعنصرٍ آخر، هو الإجماع، أي إجماعُ فقهاء المذاهب السُّنّيّة الأربعة ورفْضُ ما عداها؛ ما أدّى، في رأيه، إلى تعزيز سلطة الفقهاء وتعويقِ الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعيّة. لكنّه، في معرض تقويمه للمفكّرين والشعراء الأوروبيّين، يتناسى علاقتَهم بالسلطة وبالإجماع - - المتمثِّلِ في القيم الليبراليّة، وثنائيّات الغرب و"الآخر" المرتبطة بالإطار المعرفيّ الاستعماريّ. يتعاطى أدونيس مع العَلمانيِّين، من اليمين إلى اليسار، على أنّهم خارجون على كلِّ مسلَّمات، مع أنّ هذه الأخيرة قد تفعل فعلَ الإجماع الدينيّ في كثير من الأحيان.

 

هل كان رامبو فعلًا ثائرًا على مجتمعه ومعتنقًا قيمَ الحريّة والعدالة والمساواة؟

لنأخذْ مثلًا آرثر رامبو، مُطلِقَ الحداثةِ الفرنسيّةِ الشعريّة، وأحدَ أهمّ مؤسسّي الحركة الرمزيّة. فقد تغنّى به عددٌ من الشعراء العرب، واقترح سعدي يوسف، سنة ١٩٨١، أن يجعلَ الشعراءُ من قبره في اليمن كعبةً لهم.[19] ووصفه أدونيس بـ"المولود في الغرب، ابنِ الشرق في أشعاره،"[20] استنادًا إلى الأفكار التي طرحها في قصيدته، الذائعةِ الصيت، "القارب السكران" التي عبَّر فيها عن توقه إلى التحرُّر من قيود المجتمع وتطهير النفس من أدرانها. لكنْ، هل كان رامبو فعلًا ثائرًا على مجتمعه ومعتنقًا قيمَ الحريّة والعدالة والمساواة؟ الجواب كلّا. فهذا الشاعر كان يعيش في المخيِّلة الاستعماريّة وذاكرةِ رحلاته إلى مناطق الشرق الآسيويّ - الإفريقيّ. يتحدَّث رامبو، في رسائله، عن المستعمِرين الفرنسيِين بصفة "نحن،" ويتحسَّر على ثرواتِ مدغشقر وعن تقاعُس دولته عن استعمارها. وهو، بعد أن عبّر في سنوات فتوّته عن مثليّةٍ قاومتْ قيودَ البورجوازية الفرنسيّة، ذهب إلى عدن، فساهم في استغلال النساء الهنديّات العاملات في حقول البنّ، وكان يُشرفُ عليهنَّ في مشْغلٍ للمستعمِرين سمَّوْه "مكان الحريم." وقد حصد رامبو أرباحًا كبيرة من تجارة البنّ وبيع الأسلحة. وقد زعمتْ إحدى صديقاته أنّه أخبرها بأنّه رمى حجرًا على رأس أحد العمّال فقتله.[21]

من ناحية أخرى، تضاربت الآراءُ حول معتقدات رامبو الدينيّة وما إذا كان ملحدًا. فقبيْل وفاته في مارسيليا (جنوب فرنسا)، تلقّى صلواتِ الكاهن، الذي قال إنّه لم يرَ أحدًا أكثرَ إيمانًا من رامبو! ولكنْ أنّى لأدونيس أن يتخلَّص من نظرته الأثيريّة النمطيّة إلى رامبو، وإلى شعراء ونقّادٍ غربيّين آخرين، لم يختلفوا بكثير عن نظرائهم من المسلمين الذين هاجمهم في كتاباته.

ويقول أدونيس إنّ علينا أن نشدّد على "الصِّلة الجوهريّة بين السياسة والثقافة."[22] لكنّه يرمي بهذه الصّلة جانبًا حين يتعلَّق الأمرُ بعلاقة الاستعمار الغربيّ بالثقافة. إنّ تبجيلَ أدونيس لرامبو ولعٌ أعمى بالعلمنة كقيمةٍ مطلقة، من دون الأخذ في الاعتبار أنّ بعضَ سماتها "الليبراليّة" طَعنتْ، في أكثر من مرحلةٍ تاريخيّة، بأسس المساواة والحريّة. وقد تعرَّض هذا التشديدُ على قيمة الحداثة المطلقة إلى هزّات عنيفة، ليس فقط في مجال الأدب، بل في الفنّ أيضًا، وبخاصّةٍ المعماريّ؛ إذ ظهرتْ تيّاراتٌ تشير إلى فشل الحداثة في خلق حقائقَ نهائيّة: فانتعش الفنُّ المحلّيّ، وانبثقت الجماليّةُ الترميميّة في الحفاظ على القديم، وقاوم تيّارُ الحداثة المفرطَة تشابكَ الوعي الناتج عن التكنولوجيا الثقافيّة مثل الحاسوب والهاتف الخلويّ والآي پاد وغيرها. من هذا المنطلق، نرى أهمّيّةَ التحذير الذي قدّمه مروّة من انفصال المثقَّف عن مجتمعه، منوِّهًا بدوْر النظم الاستعماريّة في تضخيم شأن "النخب" وتعويق عمليّة دمج حريّة الفرد بحريّة المجتمع.

يبقى أنّ مقاييسَ الإبداع لم تكن يومًا مطلقةً، بل نسبيّة دومًا. لكنّ التحوّلات الأساسيّة في آليّات النقد الشعريّ - الأدبيّ تحتِّم فهمَ دور الصراع الطبقيّ والجندر، وعلاقتِهما بالسلطة وبنُظُم ما بعد الاستعمار والعولمة. ولذلك فقد تنبثق أنواعٌ من الإبداع المناوئ للسلطة، وتكون خاضعةً هي الأخرى لقيمٍ استهلاكيّةٍ ورغباتٍ مُعولمة. وأمامنا اليوم مجموعةٌ صغيرةٌ من أغنياء العالم تتجاذب مسارَ الفنّ الحاضر، فتحدِّدُ - بِمزاجها ونمطِ استهلاكها - سوقَ هذا الفنّ. وهذا يدفع بالمتاحف إلى أن تَعرضَ الأعمالَ التي تُعجِب هذه المجموعةَ فتسمِّيها "إبداعًا." لهذا، فإنّ نقّاد الفنّ من ذوي الخبرات العميقة يجزمون بأنّهم لا يعرفون إنْ كانت هذه الأعمالُ ستُعتبر إبداعًا بعد سبع سنوات أو عشر. والحال أنّ هذه الإشكاليّات الظاهرة في تحديد معنى "الإبداع" تطول مجتمعاتِ العالم بأسره، لا مجتمعاتِ العرب فقط.

خلاصة القول إنّ الحداثة الغربيّة كانت في بداياتها حداثاتٍ متباينةً، لكنْ قُيّد للفكر الهيغليّ - الكانطيّ دون غيره أن يهيمن على أوروبا، من خلال تأكيده ارتباطَ التطوُّر الإنسانيّ بنشوء الدولة الحديثة والمواطَنة والحريّة الفرديّة والعقلانيّة. على أنّ هذه القيمَ وغيرَها، التي شكَّلتْ دعامةَ الحداثة التنويريّة، وأدّت إلى تحسين ظروف الإنسان وآفاقه، برَّرتْ أيضًا العنصريَّةَ واستغلالَ الإنسان للإنسان في إطار العلاقات الرأسماليّة والاستعمار.

 

يؤكّد أدونيس أنّ تاريخ فرنسا الاستعماريّ لم يحُلْ دون ممارستها للديمقراطيّة، لكنْ ماذا يسمِّي قيامَ الأمن الفرنسيّ بالهجوم على الجزائريين في مسيرة سلميّة سنة ١٩٦١؟!  

لم يُعنَ أدونيس أبدًا بهذه الإشكاليّات، فتأرجح بين معرفةٍ مؤمْثَلةٍ للغرب وأخرى نمطيّةٍ مختزلة. يخاطب العربيَّ عن تأخّره، ويخاطب الغربيَّ عن تفوّقه ولكنّه يذكِّره بأنّه في الأصل "مَدينٌ" لشرق حوض المتوسِّط، وتبقى غائبةً عن مناقشاته تناقضاتُ مجتمعه الفرنسيّ، حيث يعيش ويعمل، وصراعاتُ مدنه وأريافه الاقتصاديّة والسياسيّة، ومدى ارتباطها بخطاب العلمنة العنصريّة. وهو لا يكتفي بتكرار شعارات الثورة الفرنسيّة فحسب، بل يؤكّد أيضًا أنّ تاريخ فرنسا الاستعماريّ لم يحُلْ دون ممارساتها للديمقراطيّة، ودون اعتناقها الكامل لأسس الحريّة والمساواة.[23] لكنْ، ماذا يسمِّي أدونيس قيامَ قوّات الأمن الفرنسيّ بالهجوم على الجزائريّين في فرنسا، وهم في مسيرة سلميّة "حضاريَّة" سنة ١٩٦١، فقتلوا المئات ضربًا وغرقًا في نهر السّين؟!

يحلو لأدونيس أيضًا، في خطابه المنشطر، أن يقولَ إنّ "الشعوب العربيّة" تعيشُ "على ما يقوله السلف،" وإنّها "شعوب منشطرة الشخصيّة."[24] ألم يقل للمصريّين حين حضر إلى القاهرة بدعوة من السِّيسي سنة ٢٠١٥ إنّ "المثقَّفين موظفون لا دوْر لهم على الإطلاق"؟[25] لم ينتبه، وهو مستغرقٌ في تعاليه وفي استشراقيّته المعكوسة، إلى أنّ "الشعوبَ العربيّة،" في عمقِ مآسيها، وإزاء تخلُّف أنظمتها السياسيّة وتفشِّي الحنين القاتل إلى "مجتمع الوحي الأوّل،" تُقاوم القمعَ والتكفيرَ والمذهبيّةَ والقبليّةَ والاحتلال، وتخلق إبداعاتٍ غيرَ مسبوقة في الأدب والشعر والمسرح والفنّ والسينما والرقص والتصوير وغيرها. وقد دخل إلى قلب الدوائر الثقافيّة العربيّة - العالميّة جيلٌ جديدٌ كان مهمَّشًا، طبقيًّا وجندريًّا وجغرافيًّا وإثنيًّا، فانكسرتْ قوالبُ شعريّة وأدبيّة أخرى في المجتمعات الأم والمهجريَّة.

إنَّ التقزُّم أمام الأوروبيين والأميركيّين، والاستمرارَ في لطم الذات على تخلُّفها، أو التباهي بالأقدميّة الحضاريَّة، وغيرَ ذلك ممّا تفنَّن فيه أدونيس، لا يؤسِّس لمجتمعٍ يثق بقدراته وتجاربه، ولا لإنسان ينفتح على الإبداع.[26] وعلى النقيض من ذلك، قدَّم لنا حسين مروّة نموذجًا للبحث والعمل التقدّميّ يخترق الحدودَ العرقيّةَ والحضاريّة، فكانت الشيوعيّة المقاوِمة للاستعمار هي إطارَ الحداثةِ الأمثل. ففي الابتعاد عن القوميّة الشوفينيّة، وفي محاسبة أوروبا طبقًا للمبادئ التي أطلقتها بذاتها، أكَّد مروّة وحدةَ الأهداف الإنسانيّة الشاملة.

مونريال

 

[1] أدونيس، فاتحة لنهايات القرن (بيروت: دار الساقي، ١٩٨٠)، صفحة ٢٣٠.

[2] أدونيس، "لم يعد الدين حلًّا للمشكلات لأنّه سببها،" https://azamil.com/?p=26437، 2016-08-24

[3] حسين مروّة، النزعات المادّيّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، (بيروت: دار الفارابي، ١٩٧٨)، الجزء ١، صفحة ٢٦-٤٧.

[4] حسين مروّة، المصدر السابق، صفحة ١٠ - ١١، وملاحظات ٢، ٣، ٤، ٥ على صفحة ١١.

[5]Rula Jurdi Abisaab, “Deconstructing the Modular and the Authentic: Husayn Muroeh's Early Islamic History,” Critique: Critical Middle Eastern Studies, Vol. 17, No. 3, (Fall 2008): 239–259

[6] حسين مروّة، "حركة الثقافة العربيّة في مواجهة حرب خمسة حزيران،" دراسات في الفكر والأدب (بيروت: دار الفارابي، ١٩٩٣)، صفحة ١٢٣.

[7] مروّة، النزعات الماديَّة، ١١٧-١١٨.

[8] أدونيس، الثابت والمتحوِّل (بيروت: دار العودة، 1978)، الجزء ٤، صفحة ٥-٧.

[9] المصدر السابق، جزء٣، صفحة ٢٦٨.

[10] المصدر السابق، جزء ٤، صفحة ٢٤٨.

[11] مروّة، النزعات الماديَّة، صفحة ٤٢

[12] المصدر السابق، جزء ١، صفحة ٥.

[13] المصدر السابق، صفحة ٢٨، ٤٢.

[14] أدونيس، الثابت والمتحوّل، جزء ١، ص ٣١١.

[15] المصدر السابق، جزء ٢، ص ١١٤.

[16] أدونيس، الثابت والمتحوّل، جزء ٤، صفحة ٢٣٠.

[17] مروّة، النزعات الماديَّة، الجزء ١، صفحة ٢٦ - ٤٧.   

[18] أدونيس، الثابت والمتحول، الجزء٢، صفحة ٢٣٤.

[https://www-jstor-  [19

org.proxy3.library.mcgill.ca/stable/pdf/656569.pdf?refreqid=excelsior%3Aa8b3a1256f7388a53180b124c6847858

والمصدران الآتيان يعكسان احتفاء سعدي يوسف برامبو:

http://www.alhayat.com/article/1049486

https://kikahmagazine.com/سعدي-يوسف-سونيتات-اليمَن-الثلاث/

[22] أدونيس، الثابت والمتحوّل، مصدر سابق، جزء ٤، صفحة ١٩٧.

[23] مقابلة تلفزيونيّة مع بيار أبي صعب، كانون الثاني ٢٠١٩

[24] رأي اليوم، شباط ٤، ٢٠١٥.

https://www.raialyoum.com/index.php/أدونيس-يفتح-النار-على-الثقافة-العربية/

 [25] المصدر السابق.

[26] Rula Jurdi Abisaab & Malek Abisaab, The Shi`ites of Lebanon: Modernism, Communism, and Hizbullah’s Islamists (Syracuse University Press, 2014), chapter 2

رلى الجردي

دَرَستْ علمَ الإنسان في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وأنهت دراسة الدكتوراة في التاريخ الإسلاميّ والأدب العربي المعاصر في جامعة يال في أمريكا سنة ١٩٩٨. تعمل أستاذةً للتاريخ الإسلاميّ في جامعة ماكغيل في مونتريال منذ سنة ٢٠٠٤. لها ديوانان: غلاف القلب (٢٠١٣)، وكليلى أو كالمدن الخمس (٢٠١٥). حصلتْ على عدّة منح علميّة وجوائز، منها جائزة "رتبة شرف لأفضل أطروحة دكتوراه" و"التفوق المبكّر في الإنجاز الثقافيّ." صدرت لها رواية الكثافة (دار نلسن)، وروايتا في علبة الضّوء ومئة رعشة (دار الآداب).