الشاشة التي تُحْييكَ وتُميتُك
03-11-2020

 

خلال الصيف الماضي، قامت جامعةُ ماكغيل في مدينة مونتريال بكندا، حيث أعملُ أستاذةً للتاريخ الإسلاميّ، بتقديم ورشاتِ عملٍ إلكترونيّةٍ لتدريب الأساتذة على استخدام "زووم" للتعليم عن بُعد.

خَيَّم على هذه الجلسات جوٌّ من القلق والتردُّد، خصوصًا حين استُعرِضَت العقباتُ المنهجيّةُ والتقنيّةُ التي ستواجهُنا في تعليم صفوفنا الإلكترونيّة. ولقد حاولنا إيجادَ الطُّرق المُثلى لتطويرِ التفاعل بيننا وبين التلاميذ، وتنميةِ حماسهم العلميّ، إلى جانب تحقيقِ أهداف الدراسة.

لم تكن الصورةُ أمامي قاتمةً وأنا أقارنُ الماضي بالحاضر في زمن الكورونا. على العكس: ففُرصُ تحصيلِ العلم ازدادت بشكلٍ خياليّ، وإنْ كانت أبوابُ الجامعة مُوصدةً. لكنّ إنجاحَ الدراسة الإلكترونيّة في فترة الحَجْر الصِّحي دفع بالكثيرين إلى تغيير توقُّعاتهم وطريقةِ تقويمهم لِما تقوم به التلميذاتُ والتلاميذُ من مهمّاتٍ أكاديميّةٍ خارج الصفّ الواقعيّ.

***

حملتني بعضُ نقاشاتِنا إلى أجواء التعليم في المدراس العربيّة-الإسلاميّة ما قبل الحداثة، وطرقِ المُناولة والإجازات. فقد شَهدتْ حلقاتُ العلم والمدارسُ أنواعًا من الإجازات العلميّة، التي كانت بمثابةِ شهاداتٍ ورسائلِ توصيةٍ بالطالب والطالبة. وفي مصادرنا ما يدلُّ على وجود أنواعٍ متفاوتةٍ من التحصيل العلميّ تتراوح بين الدرسِ المُختصر والمكثَّف، عن قربٍ وعن بُعد:

فهناك الإجازاتُ التي تُقرأ فيها كتبٌ محدَّدةٌ ومختصرةٌ تحت إشراف المدرِِّس. كما قد يحصل عالمٌ متبحِّرٌ على إجازةٍ من شيخِه في فترةٍ قصيرةٍ تسمحُ له بروايةِ كلِّ ما سمعه أو رواه شيخُه. وتحملُ مثلُ هذه الإجازة قيمةً كبيرةً حين يكونُ حامِلُها ملتزمًا بالتحقيقِ والمتابعةِ والتدقيق، قبل اتِّصاله بالشيخ وبعده. وهناك إجازاتٌ لا تَنصُّ على التلقّي المباشر أو المشافهة أو القراءة المركَّزة للطالب تحت إشراف المدرِّس. أمّا في إجازة المكاتبة، فَيُجوِّزُ المدرِّسُ لإنسانٍ غائبٍ أن يرويَ عنه كتبَه، أو ما يجدُهُ له من رسائلَ، من دون الاستماع إليه أو القراءةِ عليه. لكنّ الإجازاتِ التي لا يجري فيها التَّواصلُ المباشرُ لا يُعوَّل عليها في الحصول على مناصبَ تعليميَّة.

***

اليوم إذا حاولنا أن نقوِّمَ وسائلَ التحصيل العلميّ المباشر وغير المباشر، قبل انتشار فايروس كورونا وبعده، فسنرى أنّ الصُّورةَ معقَّدةٌ جدًّا، إذ يجب النَّظرُ إلى خصائص هذا التحصيل، وإلى شخصيَّةِ الطالبةِ والطالب وظروفِهما الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ والهدفِ من الدراسة.

لقد سدَّت الدراسةُ الإلكترونيّة حاجاتٍ كبيرةً متشعِّبةً، وذلَّلتْ عقباتِ الزمان والمكان، سامحةً لِشرائحَ اجتماعيَّةٍ واسعةٍ بتحصيل العلم. لكنْ يصعبُ التحقُّقُ من مدى استيعاب الطلّاب للدروس الإلكترونيّة، وقدُراتِهم على البحث العلميّ المتطوِّر.

 

 يصعبُ التحقُّقُ من مدى استيعاب الطلّاب للدروس الإلكترونيّة، وقدُراتِهم على البحث العلميّ المتطوِّر

 

المشكلة الكبرى التي تواجه التعليمَ الإلكترونيّ، في نظري، هي انسانيّة-صحيّة-حياتيّة، تكمن في انخفاض الحركة الجسديّة بشكلٍ مقلق، وغيابِ التفاعل مع البيئة الطبيعيّة الملموسة، والعلاقات الإنسانيّة الواقعيّة.

فالتحديق الطويل في الشاشة، والكتابةُ المتواصلة للردّ على رسائل التلاميذ ولِتتميم أعمالي الأدبيّة والأكاديميّة، سبّبا لي إرهاقًا شديدًا وأوجاعًا في معصمي دامت شهورًا. وهذا أجبرني على القيام برياضةٍ جسديّةٍ يوميّة، والابتعاد بعض الشَّيء عن الكومبيوتر.

***

في هذا الفصل قمتُ بتدريس مادَّتين عبر تطبيق زووم:

- المادّة الأولى هي السلطة والصِّراع الفقهي في ظلِّ الدولة الصفويّة، وهي مادّةٌ تستقطب طلّابَ الماجيستر والدكتوراه. ولقد أظهرَ الجميعُ همّةً عاليةً في تحضير الدروس والمناقشة، وبينهم تلميذٌ مقيمٌ في تركيّا ينضمُّ إلينا على زووم قبيْل منتصف الليل. وخلال هذا الأسبوع جرى تقاسمُ الشاشةِ للتعرُّفِ على محتويات بعضِ كتب التَّراجم وملامحِها الأساسيّة.

- أمّا المادّة الثانية فهي مدخلٌ إلى التاريخ الإسلاميّ، وتستقطبُ طُلّابَ السنة الأولى والثانية، وعددُهم يفوق المئة. وسأذكرُ هنا لائحةً بأبرزِ التعديلات التي قُمتُ بها لإثارةِ اهتمامِ التلميذات والتلاميذ، وتَلافي إرهاقهم، وحلِّ مشاكلِ التقليدِ والغشّ، وهي:

1) تقصيرُ مدَّةِ المحاضرة على زووم، من ساعتيْن إلى ساعةٍ ونصف، مدعومةً بقراءاتٍ جانبيَّةٍ لنصوصٍ مُترجمةٍ مبسَّطةٍ من السِّيرة وتاريخ الطَّبري.

2) عدمُ إجبار الطلّاب على الظهور بالصُّورة والصَّوت خلال الحصّة، وإنّما أكتفي برؤيةِ أسمائهم بعد أن يدخلوا إلى الصفّ الإلكترونيّ. وهذا يتيح لهم الاستراحةَ من النظر إلى الشاشة أو المشي أو تناول وجبةٍ ما.

3) إعطاءُ التلميذة والتلميذ في حال غيابهما فرصةَ تعويضِ دورةِ مناقشةٍ أو مقالٍ أو امتحان. لكنَّني لا أُنبئُ التلاميذَ بقراري هذا كي لا يختفي بعضُهم نهائيًّا من الصفّ (الشاشة)، أو يتقاعسَ عن تقديمِ الفُروضِ في مواعيدِها المحدَّدة.

4) تسجيلُ نصفِ المحاضرات ووضعُها في ملفٍّ إلكترونيٍّ يتيح للتلاميذ فرصةَ الاستماع إليها في أيّ وقتٍ يشاؤون خلال الأسبوع. في هذه الدروس المسجَّلة أبدأُ بطرحِ خبرٍ مهمٍّ، وربَّما فضائحيّ، ظهر في المجلّات الغربيّة حول الإسلام والمسلمين. ثمّ أجعلُ من محاضرتي طريقًا إلى معالجةِ هذا الخبر وأشباهِه بالاستناد إلى التدقيق التاريخيّ. أتبادلُ وإيّاهم الفُكاهةَ والطّرائف التي تُضفي سماتٍ حيويَّةً على الصَّف.

5) وضعُ تقسيمٍ جديد للعلامة النهائيّة. فالنِّسَبُ التي تُعطى الحضورَ والمناقشةَ تدنَّت بشكلٍ ملحوظ، وبات الاعتمادُ الأكبرُ على البحث المكتوب. أمّا تقويمُ البحث فيستند إلى أمريْن: الأوّل هو نقاءُ النصّ من الأغلاط، وتطبيقُ قواعدِ ذكرِ المصادر؛ والثاني هو العمقُ في التحليل والإبداع. وقد مَنعتنا كليَّةُ الفنونِ في جامعتي من إعطاءِ نسبةٍ أعلى من 10% على المناقشة، خوفًا من أن يقرأ التلاميذُ الأجوبةَ على غوغل. لم أقتنعْ بقرار الكلّيّة، نظرًا إلى المهارات الثقافيّة التي تُطوِّرها المناقشةُ الشفهيَّةُ الجمعيّة. لذلك قمتُ بتقسيم التلاميذ إلى مجموعات صغيرة (٣-٤) ووضعتُها في غرفِ مناقشة على زووم، وكنتُ أدخل إلى هذه الغرف للمراقبة قبل توجيه الأسئلة. وعلى عكس ما لمستُه من جمودٍ وانفصالٍ بيني وبينهم خلال الحصص السابقة، فقد شعرتُ بهم في هذا الفضاء الإلكترونيّ العجيب يتبادلون الأفكارَ والاستفسارات بحيويَّةٍ واندفاع.

***

لا شكَّ، إذًا، في أنّ النِّظامَ التعليميّ المنوطَ بالوسائل الإلكترونيّة ذو سماتٍ متعدّدة ومتناقضة. فمن جهة، يتيحُ للكثيرين الاستفادةَ العلميَّةَ بتذليلِ العقباتِ الجغرافيّة والمادّيّة والصحّيّة. ومن جهةٍ أخرى، يوصدُ آفاقًا مهمَّةً تنتج من التواصل الإنسانيّ المباشر واحتكاكِ التلميذاتِ والتلاميذ بعضِهم ببعض، وارتباطِ الذاكرةِ بالمكان، والإنسانِ بالبيئةِ الطبيعيّة والواقعيّة. أمّا التَّحديقُ في الشاشة لساعاتٍ على التوالي، وتضاؤلُ الحركةِ الجسديَّة، فلهما تبعاتٌ خطيرة، إذ قال الأطبّاء إنّ كلَّ ساعةٍ أمام شاشة الكومبيوتر هي خطوةٌ تُدنيكَ من الموت!

مونريال

رلى الجردي

دَرَستْ علمَ الإنسان في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وأنهت دراسة الدكتوراة في التاريخ الإسلاميّ والأدب العربي المعاصر في جامعة يال في أمريكا سنة ١٩٩٨. تعمل أستاذةً للتاريخ الإسلاميّ في جامعة ماكغيل في مونتريال منذ سنة ٢٠٠٤. لها ديوانان: غلاف القلب (٢٠١٣)، وكليلى أو كالمدن الخمس (٢٠١٥). حصلتْ على عدّة منح علميّة وجوائز، منها جائزة "رتبة شرف لأفضل أطروحة دكتوراه" و"التفوق المبكّر في الإنجاز الثقافيّ." صدرت لها رواية الكثافة (دار نلسن)، وروايتا في علبة الضّوء ومئة رعشة (دار الآداب).