رسالة إلى غسان كنفاني (د. أنيس صايغ) (ملف)**
09-07-2018

 

د. أنيس صايغ *

من فوق التراب إلى التراب، والموتُ واحدٌ وإنِ اختلفَ الموقع، والمدفنُ واحدٌ وإنِ اتّسع ما فوق التراب ليشمل العالمَ كلَّه، حيث انتشر الفلسطينيون، وضاق ما تحت التراب، فانغلق على جثمانٍ وحيد.
فشل القتلةُ، وإنْ نجحوا في تغييبك. ونجحوا في تغييب غيرك، وإنْ فشلوا في قتلهم. ولو كان القتلةُ يعلمون أنّهم، بقتلكَ، يطلقونكَ من عالمٍ مجنونٍ ومتخاذلٍ ومستسلمٍ، عالمٍ باع شرفَه وأرضَه وحقَّه ومبادئَه بثمنٍ زهيد أو حتى بدون ثمن، لكانوا تردَّدوا قبل وضع الأصابع المتفجِّرة في سيّارتك، في صباح ذلك السبت المشؤوم، قبل عشرين سنة. إنّ انفجار الفولسفاكن حرّركَ من هذا العالم، وأبعدكَ عن المأساة التي نعيش، وأخفى عن عينيْك عيوبَ الحاضر وجرائمَه وانهزاماته؛ فأغمضتَ عينيْكَ على صورةٍ جميلةٍ من صور النضالِ والإيمانِ والثورة والقيم. ففي عشرين سنةً خبت هذه الصورُ، وبهتتْ، وأَخذتْ مكانَها صورٌ قاتمةٌ وتعيسة.
كم توهّمتُ، بعد استشهادكَ بعشرة أيّام، أنّ وحشيّةَ العدوّ التي نالت منك لم تنلْ منّي تمامًا، فبقيتُ أتنفّسُ وأتحرّكُ وأرمِشُ، وإن خفَّ السمعُ والبصرُ إلى ما يقارب الزوال. ولكنّي، بعد عشرين سنةً من اقتراف هاتين الجريمتيْن، أغبطُكَ وأغبطُ مصيرَكَ، ولا أغبط مصيري.

***

ماذا كنت ستسمع يا غسان، وماذا كنت ستشاهدُ، لو كنتَ تشاركنا الجلسات هذه الأيّام؟
ــــ كنتَ ستسمع أنّ الصهيونيّة ليست حركةً عنصريّةً استيطانيّةً معادية، بل حركةٌ سياسيّة تقف في وجه حركةٍ سياسيّةٍ مقابلة، كلتاهما من طينةٍ واحدة: تدافع الأولى عن "حقوق" جماعةٍ (اليهود)، وتدافع الأخرى عن حقوق جماعةٍ ثانية (العرب)... تمامًا مثلما نصّ وعدُ بلفور قبل استشهادك بخمسٍ وخمسين سنة، من أنّ وطنًا قوميًّا لليهود يقام في فلسطين بشرط أن لا يمسّ بمصالح "الجوالي" المقيمة في ذلك البلد؛ وكما كان "السير" مارك سايكس، أحدُ بطلَي الاتفاقيّة المشؤومة، يزعم أنّ الصهيونيّة والقوميّة العربيّة صفحتان لورقةٍ واحدة.
ــــ وكنتَ ستسمع أنَّ "إسرائيل" بلدٌ مثل سائر البلدان، له حقوقُه وأمنُه وحدودُه ووجودُه ومصالحُه، وما علينا إلّا أن نعترف له بذلك حتى يكفّ عن التعدّي علينا. فـ"إسرائيل" أصبحتْ "جارًا" ولم تعد عدوًّا، وللجار "حقوق،" وما الجدار الذي يفصل بيننا إلّا جدارُ "وهمٍ وخيال،" نصبه "التعصّبُ والجهل" في قرنٍ من الزمان.
ــــ وكنتَ ستسمع أنّ فلسطين ليست فلسطين؛ أنّ نصفَها اسمُه إسرائيل ، ونصفَها الآخر اسمُه الضفّة الغربيّة وقطاعُ غزّة.
ــــ وكنتَ ستسمع أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّةُ ما سقط عام 1967 من أرض فلسطين؛ وأنّ استعطاءَ حكمٍ ذاتيّ يجعلنا أحرارًا في شؤون الصحّة وجمع القُمامة وفتح الدكاكين وتعليقِ اليافطات، ويُغْنينا عن المطالبة بتحرير محبوبتك عكّا والعودة الى محبوبتي طبريّا. بل كنتَ ستسمع أنّ قضيّة فلسطين امّحت وذابت في ما أصبح يسمَّى "قضيّة السلام في الشرق الأوسط."
ــــ وكنتَ ستسمع أنّ التفاهمَ بالحُسنى، أو الاتّفاقَ بالتراضي، هو "شرفُ الثورة حتّى النصر"؛ وأنّ شرفَ الجلوسِ مع مندوبي العدوّ في ذاك البلد الأوروبيّ أو الأميركيّ أو الآسيويّ أو ذاك، في ظلّ الرعاية الأمريكيّة "الصديقة،" هو النصرُ بحدّ ذاته. فقد فاتك أنّ أمريكا لم تعد دولةً استعماريّةً أو إمبرياليَّةً وعدوّةً للشعوب، بل أصبحتْ صديقًا عزيزًا، حاميًا لحقوقنا، وجنديًّا مخلصًا لاستعادة حقوقنا. لم يعد هنري كيسنجر "عزيزًا" لوحده، بل أصبح الطاقمُ السياسيُّ الحاكم في أميركا كلُّه عزيزًا على قلوبِنا.
لو كنتَ لاتزالُ حيًا يا غسّان لكنت تُشاهد وتسمعُ أصدقاء مشتركين لك ولي (وبعضُهم أصابتْه قنابلُ العدوّ مثلما أصابتْك وأصابتني) يقولون هذا الكلامَ وأكثر، ويسيرون في جنازة الحقّ الفلسطينيّ، مزهوّين بالانتصارات الوهميّة. لقد سقطت الأقواسُ حول اسم "إسرائيل،" وأصبح الاستمرارُ في استعمالها غباءً وتحجّرًا وسماجةً لا تليق بنا ونحن نجالسُ الإسرائيلين ونستعطفُهم ونتملَّقُهم ونغازلُهم ونمنحُهم بركاتِ الشرعيّة. والصحيح أنّ الأقنعة سقطتْ عن وجوههم هم بمجرَّد إسقاطهم تلك الأقواسَ.

 

***

ألا توافقني، بعد هذا، أنّ مثواكَ تحت التراب أرحبُ وأرحمُ من منازلنا الفخمة وطائراتنا الخاصّة وعروشِنا والبُسطِ الحمرِ تحت أقدامِنا؟
لكنه ذنْبُكَ، أنتَ يا غسّان، أنّك أتَحْت لهم أن يغتالوك. فقد ركبتَ الفولسفاكن، ولم تكن تركب المارسيدس 500 المُصفَّحة وتحيط بك حراساتٌ مسلَّحة تفتح لك الطرقاتِ وتغلقها عن غيرك... تمامًا كما كان الذنْبُ ذنْبي، حسب رأي أحد كبار قادتنا العباقرة الذي صرخ مستنكرًا أن أفتح المظروفَ المفخَّخ، الأمرُ الذي جعل القنبلةَ تتفجر بين يديّ، إذ قال: "أليس عنده سكرتيرة تقوم بفتح الرسائل عنه؟" وكأنّه أراد أن يقول: "فلتُبْتَرْ أصابعُ السكرتيرة، أمّا أصابعُه فلا." فالموت للمساكين، وليس للمسؤولين!
وهكذا تتحوّل المسألة من جريمةٍ صهيونيّةٍ قذرة ضدّ الفكر الفلسطينيّ إلى خطأٍ نقترفُه نحن وندفعُ ثمنَه حياتَنا أو بعضَ حياتِنا.
لقد هدَّدوك، وحذّرك "العارفون" قبل أيّام من الجريمة، واستخففتَ، فنالوا منك. وهدَّدوني، وحذَّرني بعضُ العارفين قبل أيّام من الجريمة، فسخرتُ ولم أتَّعظْ منك، ونالوا منّي. وهكذا كان الحال مع الكثيرين غيرنا، رحم اللهُ الموتى والجرحى والمصابين، وغَفَرَ للمتخاذلين وهداهُم. إنّ وحشَ الموت، كما يقول المثلُ الدانمركيّ، يلتهمُ الأدسمَ بين ضحاياه. ترى، هل كانت لدينا رغبةٌ خفيّةٌ في التنافسِ والتدافع أمام الوحش الذي يختارنا نحن من بين آلاف المقاتلين بالبندقيّةِ أو بالقلم؟

لقد أراحك الموتُ من سؤالٍ سخيف كان المحقّقُ سيطرحه عليك، مثلما طرحه عليّ وأنا أستلقي على سريري في المستشفى بين الموت والحياة: "من تعتقد أنّه وراء الجريمة؟ هل هناك خصومةٌ بينك وبين جار أو زميل أو منافس؟" ولو كانت لديّ قدرةٌ على الكلام، لكنتُ أجبت: "نعم هناك خصومةٌ بيني وبين العقلِ والمنطق ــ ــ عقلِ هذا الزمان ومنطقِه اللَاعقلانيّ واللَامنطقيّ."
يبدو أنّهم هم العقلاءُ والمنطقيّون، ونحن كنّا المغفَّلين. المغفَّل فقط هو الذي يرث الرضى الذاتيَّ، وراحةَ الضمير، وشرفَ النضال. وهم يرثون كلَّ شيء آخرَ رنّان ــ ــ من لقبٍ إلى ذهب.
أنتَ وأمثالُكَ تعيشون في المخيَّم، وتناضلون في الخندق، وتشربون الماءَ الآسن، وتقتاتون الفُتات. وأمّا وجهاءُ النضال الكلاميّ والخطاب السياسيّ المهرجانيّ ومحترفوه فقد جنوْا ثمارَ ذلك النضال: ألقابًا فخمةً تحتضن أسماءهم، ومبانيَ ضخمةً تنطح بأعماقها السُّحبَ، ومواسمَ ترفٍ ومهرجاناتٍ وأعراسًا قصرتْ عنها ليالي الألف ليلة وليلة.

***

أخي العزيز غسّان، لقد متَّ مرّةً، ونموتُ نحن كلَّ يومٍ ألفَ مرّة.
أكاد أسمعكَ تسأل: أليس من أخبارٍ غيرِ هذه التعاسات ؟
نعم.
"فايز" و"ليلى" يرفعان اسمَ فلسطين، واسمَ والدهما، عاليًا، بكفاءاتهما ونشاطاتهما ونجاحهما. و"آني" وفيّة لكَ في وفائها لقضيّة زوجها، التي أصبحتْ قضيّتَها، مثابرةً تنجز ما يعجز عنه العشرات. ورفاقُكَ على إيمانهم وسلاحِهم وأصالتهم. و"جبهتُكَ" صامدة بالرغم من الإغراءات التي تستميل الضعافَ وتشدّ الأقوياء. و"الحكيم" القائد يزداد مرضُه قسوةً، وتزداد عزيمتُه قوّةً. وكتبُكَ ورواياتُكَ وقصصُكَ تجتذب القرّاءَ المعجبين طبعةً بعد أخرى. ومجلّة الهدف تتحدّى وتواصل الصدور. والواحاتُ النادرة في صحارينا الواسعة لا تزال خضراءَ، وينابيعُها لم تجفّ، وإن أعرض الكثيرون عنها ولم يعد ماؤها الزلالُ يرويهم لأنّ عطشَهم هو إلى نوع آخر من المشروبات.
وبكلام آخر: لم تَغِب الشمسُ بالمرّة، وإنْ كانت العتمةُ تلفّ حياتنا. فلا بدَّ للشمس أن تشرق ثانيةً. إنّ دماء الشهداء، الأمواتِ منهم والأحياء، ستظلّ تشعّ نورًا يضيء لأجيالٍ قادمة. وحدهُ هذا الأملُ يمنعُنا من الاستسلامِ /الانتحار.

 

بيروت
 

 * باحث ومفكّر عربيّ فلسطينيّ. وُلد في طبريّا سنة 1931، وتوفّي في عمّان سنة 2009. نال شهادة البكالوريوس في العلوم السياسيّة من الجامعة الأميركيّة في بيروت سنة 1953، وشهادةَ الدكتوراه في العلوم السياسيّة والتاريخ العربيّ من جامعة كامبريدج سنة 1959. عاد إلى بيروت سنة 1964، وترأّس مركزَ الأبحاث الفلسطينيّة التابع لمنظّمة التحرير. رئيس تحرير الموسوعة الفلسطينيّة منذ العام 1982، ورئيس مجلس إدارتها منذ العام 1988. له حوالي عشرين مؤلَّفًا في التاريخ والسياسة. أصيب برسالة ملغومة بعد استشهاد غسّان كنفاني بعشرة أيّام، أثّرتْ في سمعه وبصره.

** نُشرتْ في الآداب في العدد 7/8، 1992.