زفاف الملائكة
19-06-2016

 

السيّد زار المدينة. وزّع ابتساماتِه في وجوه الأحياء الأموات، ثمّ قتلهم، أحياهم، قتلهم... السيّد يفعل كلّ ما يريد لكي يُثبت للناس الضعفاء أنّه: السيّد. شيء واحد لم يفعله: لقد ترك الإنسَ والجنّ تعبث في المدن والناس كيفما شاءت لها المهمّاتُ والأجنداتُ السرّيّة.

ترتدي حوريّاتُ المطر ثيابَ الحداد.

تتلاطم الأكفُّ الحارّة، وترتفع نعوشُ شهداء المظاهرة فوق الرؤوس. الريح تلقي على المشيّعين تحيّاتِ المساء، إذ تتعانق الأجسادُ، وتصدح الأفواهُ بالغناء. يدورون حول دائرة الجموع المحتشدة، ويودّعون أحبابًا بلا ميعاد. من بين الشهداء يرقد محمّد، ابنُ الخال، بثيابه المضـرّجة بدمه، صامتًا، تعلو وجهَه ابتسامةٌ حائرة. تبكي أمُّه، تزفُّه. تنفجر الكلمات من فمها متشظّيةً، حارقةً:

ـــــ على الجنّة رايحين... شهداء بالملايين.

يرقصون حول أمّ الشهيد، يحيطونها بدائرةٍ من شبابٍ في عمر الورود، ينشدون معها بتصميم وحماس:

ـــــ أمّ الشهيد... يا أمّ الشهيد... نحن أولادك... يا أمّ الشهيد... نحن أولادك...

يضيق الزمانُ والمكان. يصبح الشارعُ الفرعيُّ لحارة بستان القصر بحجم بلاد. حول النعوش تتناثر مرايا الموت. يقهقه القاتلُ من بعيد. تغضب النعوش، وتتشبّع القلوبُ المجروحةُ بالكراهية. تمتدّ حول الأصابع أسلحةُ الثأر. هناك، على الطرف الآخر، تسقط "جرّةٌ" متفجّرة. تقتل العشرات. تسقط هنا طفلة، وهناك عجوز، وامرأةٌ كانت تمسك براحة يدها ابنها الصغير الذي يرتجف من البرد. تتوزّع جثثُ الأهالي على الأرصفة، وليس في جيوبها غيرُ هويّةٍ تثبت اسمَها الذي كان ومولدَها، وبعضٍ من رجاء أن يمرّ اليوم ولا يموتَ حلمُ الطيور الوادعة.

وعلى امتداد خفوقات القلب يبكي الخالُ. يكتب الجرحُ آهاتِ الوداع الأخير، ويصرخ بأعلى صوته:

ـــــ لا إله إلا الله، والشهيد حبيب الله.

يردّد المشيّعون بأصواتهم الجهوريّة خلفه. يرقصون. يطلقون الرصاصَ في عنان السماء. يلوّحون بأعلام الاستقلال حين غادر البلادَ آخرُ جنديّ فرنسيّ، وكان جميعُ المتحاربين آنذاك يدًا واحدة. وها هم الآن يعيدون ترديد الأغاني القديمة:

ـــــ الله... الله يا مفرّج المصايب... اضرب رصاص، وخلِّ رصاصك صايب.

آهات دامية تصدح في فم الغيم... صفراءَ. يتأرجح الخالُ بين الكآبة والموت الذي صار عنوانًا لكلّ ساحاتِ البلاد. ومن رحِم الحزن يولد طفلٌ مشـرئبّ بالكراهية والحقد والثأر، وقد تفرّقت الأيادي وصارت أحزابًا وشيعًا.

تحترق عينا د. زين، شَجَنًا وألمًا.

وفي لحظة استشهادٍ، يعانق جارَه، وصديقَ عمره، الخال. تدمع عيناه ألمًا. يتقدّم بائعُ الدخان المُهرَّب (الشرشوح)، ويلقي خطبةً دينيّةً عصماء، كان قد حفظها عن جدّه الجليل الإمام السابق لمسجد الحارة. يلقيها مثل ببغاء لا يدرك معناها. يبتسم د. زين، ويتساءل:

ـــــ هل أصبح الشرشوح مفتي الحيّ؟!

يجيبه الخال:

ـــــ الشرشوح صار خطيب الجنازات، وصار اسمه: الشيخ شرّوح.

ـــــ يعني من الشرح. ولكن، ماذا يعرف هذا من الشرح والتفسير؟

ـــــ لا تعلِ صوتك. الشيخ شَرّوح صار قاضيًا.

يمضي المشيّعون بالنعوش إلى مقبرة الحيّ، وقد صارت الحدائق الصغيرة مقابرَ للشهداء. يسير الركبُ بالأهازيج والأناشيد. تهرول الطرق من خلفهم، ومن أمامهم، وعلى جنوبهم يخشعون.

يرفع د. زين كفَّه إلى السماء متضرّعًا. تتراءى له صورةُ جدّه متأبّطًا بارودتَه، مزنّرًا بالرصاص. حينها، حارب جيوشَ الاحتلال الفرنسيّ المحتلّ، لكنّه يستغرب الآن كيف يظهر بصورة حدادٍ مثل حوريّات المطر، والدمعُ في عينيه، كأنّه يقول نادمًا:

ـــــ لم تعد هذه الأرضُ منّي، ولستُ منها!

تختفي الصورة، ويصمت الكلامُ المباح وغيرُ المباح. لقد أدمن الأهالي انفجارَ براكين الموت القادم من الاتّجاهات الأربعة، وأدمنوا تشييعَ الشهداء. لا مكان للتعازي غير الساحات، ولا مكان للمراثي إلّا تحت الأنفاق. لقد نام القمر في رحم الغيمة الحمراء ذات الأجنحة المتكسّرة، وضاع كتابُ الودّ، ومحارمُ العشّاق المطرّزة. حكت له جدّتُه لأبيه:

ــــ عندما كان يأتي شهداءُ حرب الاستقلال، كنّا نودّعهم بالزغاريد. وفي المقابر، كان الكلُّ يعزّي الكلّ. كانت يدُنا واحدة، وقلبُنا واحدًا. وكنّا نتقاسم رغيفَ الخبز الواحد؛ فلا ينام أحد من الجيران جائعًا، أو في نفسه غضبٌ على جاره الآخر.

تتزاحم المقابر. تنتشر في كلّ مكان. يسمع المشيّعون صوتَ مروحيّةٍ تحلّق في السماء، أو صوتَ انفجار عبوّة ناسفة في سوق الخضار. يركضون بالنعوش إلى الزوايا المحطّمة. ينتفض الشهيدُ متسائلًا:

ـــــ يا قاتلي، بأيّ وجهٍ قتلتني؟! سآخذ حقّي منك.

ترعد السماء. تصفّق الغيمةُ الحمراءُ بأجنحتها، وتقذف رمالَها وريحَها العاتية في كلّ مكان. تتأرجح، تكاد أن تسقط. تختفي. تقتلع الريحُ أغصانَ الأشجار والأسلاكَ الشائكة. يهطل المطرُ طينًا مضرّجًا بدم هابيل، بلا مراثٍ، بلا عزاء. تغيب مريم، كنقطة ضاعت في زحمة الحضور. ينساب شعرُها الطويل في الهواء. يلتفّ حول قلعة حلب. تتشكّل في الحضور ضفائرُها الطويلة، وتتحوّل في الغياب إلى ألِفٍ معقوفةٍ تتسامى فوق دموع الثكالى واليتامى، تواسيهم عطرًا، ونورًا يشعّ من رحم القمر.

... في الضوء الأخير، قبل غروب الشمس، تسقط أوراقُ الخوف، ويهيم الخالُ على وجهه باحثًا عن العروس مريم بين الخراب.

سوريا

زياد كمال حمامي

قاصّ وروائيّ سوريّ. صدر له: سوق الغزل (قصص، 1987)، احتراق الحرف الأخير (قصص، 1989)، سجن العصافير (قصص، 1994)، الظهور الأخير للجدّ العظيم (رواية، 1995)، كلام... ما لا... يستطيع الكلام (قصص، 2011)، نعش واحد وملايين الأموات (رواية، 2012)، الخاتم الأعظـم (روايـة، 2015). حاز عدة جوائز، منها الجائزة الأولى للرواية العربيّة (جائزة د. سعاد الصباح)، والجائزة الأولى لاتحاد الكتّاب العرب عام 1982 عن قصته "مجدل شمس" وعام 1983 عن قصته "الباهيني." وهو المدير العام لشركة "الأسطورة" للإنتاج الفني. سيناريست. عضو مجلس إدارة المسرح العمّاليّ بحلب.