زمن بلا ثوانٍ
27-03-2017

 

 

عندما أستيقظُ كلَّ يوم أجد الشرَّ قد زاد قليلًا. من المؤسف أن أفيق لأجد أنّ كلّ شيء في العالم قد تغيّر، وأنّني مازلت معلّقًا بذاتي. لو كان في وسعي أن أتغيّر بالسرعة التي يتغيّر فيها العالمُ، لصرتُ سعيدًا، ولحقّقتُ الغايةَ القصوى: أن أكون أنا والعالم كخطّيْن متوازييْن في الفضاء.

أجلس في فراشي لأدقّق في ما سأفعله خلال يومي، فأستنتج أنّ كلّ شيء تافهٌ وبلا جدوى، ولأدرك أنّني لن أشعر بالرضا مهما فعلتُ. فأنام مجدّدًا.

نهضتُ من سريري. ارتديتُ ملابسي، وحملتُ حقيبتي. كانت الساعة الخامسة صباحًا، والجوُّ باردًا جدًّا. خرجت من دون أن ألبس سروالي التحتيَّ. شعرتُ بالزّكام في حلقي. كنتُ على موعد مع صديقي موسى لنسافر إلى العاصمة من أجل الخضوع لامتحان اللغة الفرنسيّة لاستكمال شروط الهجرة إلى فرنسا. أمّا صديقي موسى، فكان سفره من أجل اجتياز مقابلة عمل في شركة تجاريّة. موسى يكبرني بعام؛ هو في الخامسة والعشرين، ولكنّه يبدو كهلًا. كان حزينًا ومهمومًا وكسولًا، وفي حالة بائسةٍ بسبب البطالة والعجز والملل. تبلّدتْ أحاسيسُه، ولولا مرافقتي له لما عقد أمرَه على السفر.

كنّا تائهيْن تمامًا، ولا نملك شيئًا: لا المال، ولا الأمل.

ذهبنا في أوّل حافلة متّجهة إلى العاصمة. كان معظم الركّاب من الشباب المنتسبين إلى الجيش؛ فغلب على جوِّ الحافلة التدخينُ وشربُ القهوة وموسيقى الرايْ والكلامُ البذيء ومشاهدة الصور الإباحيّة على الهواتف النقّالة. مقعدي هو الأسوأ في الخلف، وأنا أعاني الإمساكَ بسبب السفر. ولكنّني بدأت في نسيان آلام مصراني عندما سألني الرجلُ الأسودُ البشرة:

ــــ ما اسمك يا أخ؟

ــــ حسام.

ــــ هل أنت من الصحراء يا حسام؟

ــــ أصولي من هناك، ولكنني أعيش في الهضاب العليا.

ثمّ انهمك في الكلام عن نفسه وخصوصيّات حياته طوال الطريق ــــ بفرنسيّة مكسّرة ــــ كأنّني صديق تهتُ عنه في الزمن البعيد ثمّ جَمعتنا المصادفة. اسمُه إبراهيم، وهو تاجرٌ في العاصمة، يبيع ألبسةً رجّاليّة. هاجر من مالي إلى الجزائر منذ ستّ سنوات للدراسة في الجامعة، ثمّ تركها.

كنت أظّن أنّ سكّان صحرائنا هم وحدهم المرهقون والمعذّبون والمنسيّون. لكنّ ابراهيم، وفي ثانية واحدة، أخبرني عن شقاء حياته كلّها بكلمة واحدة: الحرب! عاش جلَّ حياته مضطهَدًا حتّى أصبح يحتقر نفسَه. يحاول أن يبدو متفائلًا، لكنّ كآبة الحرب في النفْس لا تزول أبدًا، ولو بتفاؤل مصطنع. كانت تجارته ناجحةً جدًّا، وهو دائمُ الترحال إلى إسبانيا وتركيا وغيرهما، من أجل جلب السلع والاستمتاع بالخمر والنساء. أخبرني أنّ عائلته لحقتْ به مؤخّرًا إلى هنا، وأنّه اشترى لهم بيتًا، وهو الآن يخطّط لاستقبال صديقه ليشاركه في التجارة. حسدتُه على وضعه الماديّ، وحسدتُه على تمسّكه بالحياة التي رفضَتني... ورفضتُها.

عند وصولنا افترقنا أنا وموسى، واتّفقنا على أن نلتقي في وسط العاصمة بعد ثلاث ساعات. اتّجهتُ إلى المركز الثقافيّ الفرنسيّ لاجتياز الامتحان. وصلتُ قبل الموعد بنصف ساعة، وكان المكان مليئًا بشبابٍ يطاردون حلمَ الهجرة، غالبيّتُهم من النساء؛ كنّ جميلات ورشيقات ومتفتّحات، ولكن ليس لعربيّ فارغِ الجيوب مثلي. حاولتُ التقرّبَ من إحداهنّ، فصدّتني بنظراتها المشمئزّة.

رسبتُ في الامتحان، وذهب حلمُ الهجرة أدراجَ الرياح، إذ لا تمكنني إعادته إلّا السنة القادمة. لم أشعر بأيّ سوء أو ندم، وكأنّي أدري أنّ مصيري في فرنسا هو  مصيري في الجزائر، وأنّ الأشجان التي تشغلني لن تتركني لأنّها متعلقة بالزمان. وانتابتني رغبة ملحّة في العيش في مكان بلا زمان.

هاتفتُ موسى. كان قد أنهى المقابلة مع الشركة التجاريّة ورسبَ أيضًا. لم يلقِ للأمر بالًا هو أيضًا. التقينا في مقهى ساحة الشهيد أودان، في وسط العاصمة. جلسنا هناك ندخن صامتيْن، وأعيننا تتابع كلَّ مؤخّرة ترتدي سروالًا ضيّقًا. لا أدري كم مضى من الوقت ونحن جالسان نراقب؛ فقد فقدت إحساسي بالوقت! كانت لحظاتِ تحرّرٍ سريعةً، إلى أن اقترب النادل وطلب منّا الرّحيل.

 كان الوقت عصرًا. مشينا في تلك الشوارع المكتظّة، والرطوبة تثقل علينا للبحث عن مرقدٍ رخيص للمبيت. اتّجهنا إلى ساحة الشهداء، ودخلنا أوّلَ مرقد. كان اسمه مرقد الطاسيلي. في ممرّه رائحةٌ نتنة. صعدنا الدرج. وجدنا صاحبَ الفندق مطأطئًا رأسَه، يبحث في صندوق. طلبنا غرفة لاثنين. دفعنا المبلغ. ملأنا الاستمارة، وأخذنا المفتاح وصعدنا إلى الغرفة من دون أن ننظر إلى وجه الرجل. كان مرقدًا كريهًا؛ الغرفة ضيّقة، ورائحتُها تسبّب الدوار والغثيان. المرحاض من غير إضاءة، والماء مفقود، والبعوضُ سامّ جدًّا. تمدّدتُ فوق السرير وأنا أفكّر في فرنسا والصحراء والزمان.

لم أستطع النوم، وكذلك موسى. أضأتُ الغرفة. تحدّثنا عن السياسة والدين والنساء والبطالة، والناس ورائحة الجثث لمدّة ساعتين. ثم أمسكت بكتابٍ فرنسيٍّ أقرأه بصوت عالٍ وبنطق غير مفهوم حتّى نام موسى. أطفأتُ الضوء واستلقيتُ، وأنا متوسّد يدي. كانت أفكاري تبعث فيَّ الأرق والخوف؛ وبين اليقظة والنوم تتقاذفني أفكارٌ متعلّقة بأمكنة كثيرة وأزمنة مختلفة، إلى أن نمتُ وصرت في عالم الأحلام بزمانه المتعدّد:

وجدتُ نفسي أمام ضابط الاستقبال في مطار شارل ديغول، يسألني عن سبب زيارتي، فأجيبه أنّني قدمتُ من أجل محاولة أخيرة للتقليل من هزائمي... للفوز في صراع المعنى من أجل ألّا يستهلكني اليأس. لقد جئتُ إلى هنا للبحث عن الحظّ في عجلة زمني.

نهضتُ في الصباح والعرقُ يملأ رقبتي. كان موسى لا يزال نائمًا. نظرتُ إليه وتذكّرتُ أحاديثنا. صداقتنا كانت خفيّة ومنسيّة كظلّ. بدأت هواجس الصباح تسحبني، ولكنّني قررتُ أن أتخلّص منها؛ أن أتركها هنا مع رائحة الجثث إلى الأبد.

قفزتُ من سريري وأيقظتُ موسى وأخبرته أنّ ساعة المغادرة قد حانت.

الجزائر

وائل ضياء الدين

كاتب من الجزائر. حائز شهادة الماجستير في اللغة العربيّة والدراسات القرآنيّة.