"صوت يهوديّ للسلام": نقاش مع بيان
30-05-2019

 

منظّمة "صوتٌ يهوديٌّ للسلام" (Jewish Voice for Peace) هي منظّمة أميركيّة تأسّستْ سنة 1996، وهي تعادي "الاحتلالَ الإسرائيليّ لأراضي 67" والانتهاكاتِ الإسرائيليّةَ "للقانون الدوليّ." مع الوقت، راحت المنظّمة تجذِّر مواقفَها، وهي اليوم تدعم "حركةَ مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها" (BDS)، وتحديدًا لجهة مقاطعة الشركات الداعمة للاستيطان في تلك الأراضي (مثل كاتربيلر وموتورولا وفيوليا). وقبل شهور قليلة أصدرت المنظّمة بيانًا (Our Approach to Zionism)، اعتبره كثيرون خطوةً متقدّمةً في  مواجهة الصهيونيّة، لا إسرائيل فقط. وممّا جاء في البيان:

"نرفض الصهيونيّةَ بشكلٍ لا لبسَ فيه لأنّها ضدُّ تلك المثل العليا [العدالة والمساواة والحريّة لكلّ الشعوب]... الصهيونيّة ردٌّ خاطئٌ على السؤال الحقيقيّ... عن إيجاد طريقةٍ لحماية اليهود من اللاساميّة المجرمة في أوروبا... الصهيونيّة اليوم أسّستْ دولةَ فصلٍ عنصريّ (أبارتهايد)، حيث لليهود حقوقٌ تفوق حقوقَ غيرهم... وهي ارتكبتْ مجازرَ ضدّ الشعب الفلسطينيّ، ودمّرتْ قرًى عريقةً... وأضرّت باليهود أنفسِهم..."

غير أنّ البيان المذكور، وإنْ لقي ترحيبًا من أنصار فلسطين والعدالة، دفع ببعض هؤلاء إلى إصدار بيانٍ آخر، يدعو المنظّمةَ المذكورةَ إلى المزيد من التجذّر في معاداة الصهيونيّة. هذا البيان من تأليف إيّاد القيشاوي (ناشط فلسطينيّ في منطقة سان فرانسسكو وعضو في "تحالف العودة")، ولليانة كوردبة كتثرجينسكي (عضوة مؤسّسة في الشبكة اليهوديّة العالميّة المناهضة للصهيونيّة، مدريد)، وماكس آجل (عضو في الشبكة نفسها، تونس). وهنا نصُّه.

تأسّستْ منظّمة "صوتٌ يهوديٌّ للسلام" سنة 1996، وهي تعادي "الاحتلالَ الإسرائيليّ لأراضي 67" 

 

***

نرحِّب بآخر بيانٍ صدر عن منظّمة "صوتٌ يهوديٌّ للسلام" (Jewish Voice for Peace)، وهو بعنوان "مقاربتُنا للصهيونيّة،" وذلك بسبب معارضته للصهيونيّة معارضةً "لا لبْسَ فيها." نحن نشاطر هذه المنظّمةَ مبادئَ العدالة والمساواة والحريّة، التي نصّ البيانُ عليها.

لكنّنا نرغب أيضًا في أن نسجّل قلقَنا من بعض فقراتِه. أوّلًا، يربط البيانُ تناولَه للصهيونيّة بالألم الجماعيّ الذي ابتلى يهودَ العالم. ثانيًا، يشرّع البيانُ فكرةَ أنّ الصهيونيّةَ "عقيدةٌ من القرن التاسع عشر،" نبعتْ من حياة اليهود، ولا يقول إنّها عقيدةٌ كولونياليّةٌ نمت وتطوّرتْ بهدف توسيع الإمبرياليّة الغربيّة إلى فلسطين.

ثمّ إنّ منظّمة "صوت يهوديّ للسلام" تصنّف الإيديولوجيا الصهيونيّة في ثلاثة تيّارات: سياسيّ، وثقافيّ، ودينيّ. ولكنّها، إذ أعلنتْ معارضتَها للصهيونيّة "السياسيّة" التي أدّت إلى نشوء الدولة الصهيونيّة في فلسطين، لم تصرفْ جهدًا كبيرًا في التصدّي للتيّاريْن الآخريْن، بما يوحي أنّها توافق عليهما ضمنيًّا. كما يذهب البيانُ إلى إعادة تعريف "معاداة الصهيونية" ( anti-Zionism) بالقول  إنّها "مصطلحٌ رخوٌ يحيل على نقد السياسات الحاليّة للدولة الإسرائيليّة، و/أو يحيل على النقد الأخلاقيّ أو الدينيّ لفكرة الدولة - الأمّة اليهوديّة." والحال أنّه جرى تعريفُ "معاداة الصهيونيّة،" منذ إضراب العام 1936 والثورةِ الفلسطينيّةِ الكبرى ضدّ الانتداب البريطاني، بأنّها رفضُ وجود المستعمَرات اليهوديّة على أرض فلسطين من خلال أعمال المصادرة وتهجيرِ السكّان الفلسطينيين الأصليين بهدف توفير الشروط الاقتصاديّة والديمغرافيّة لإقامةِ دولةٍ - أمّةٍ كولونياليّة في فلسطين. فمن الطبيعيّ جدًّا ،إذن، أن يستتبعَ ذلك قيامُ مجازر وإبادةٍ جماعيّة وفصلٍ عنصريّ من أجل تأمين هيمنة المستعمِر على المستعمَر.

إنّ قراءةً سريعةً للتاريخ، كما فعل غسّان كنفاني وغيرُه، تُظهر أنّ الصهيونيّة تكوّنتْ قبل القرن التاسع عشر، وكانت على الدوام شريكةً للاستعمار الغربيّ. فبعد احتلال مصر، سيّر نابليون 30 ألف جنديّ لغزو يافا وعكّا، وأعلن تقريرٌ فرنسيٌّ بعد الهجوم العسكريّ الفرنسيّ سنة 1799 أنّ بوناپارت يريد أن "يعيدَ إلى اليهود قُدسَهم." نحن نتّفق مع منظمة "صوتٌ يهوديٌّ للسلام" أنّ الصهيونيّة أسّستْ دولةَ فصلٍ عنصريّ (أبارتهايد)، ولكنّنا نذهب أبعدَ من ذلك إلى القول إنّ العلاقات العنصريّة والتمييز الكولونياليّ بين مختلف أنواع البشر هي في أساس الصهيونيّة.

ثمّ إنّ الجذورَ الكولونياليّة لهذه الحركة العنصريّة لم تكن سرًّا، ولا كانت مفروضةً من خارجها. فكاتبُ سيرة ثيودور هرتزل، المعروفِ بـ"أبي الصهيونيّة،" سجّل أنّ هرتزل كان يعْلم (knew ) أنّه، "باحتلاله الأرضَ [المقصود فلسطين]،" بحسب كلماته سنة 1905، "سيمضي أبعدَ ممّا مضى أيُّ مستعمِرٍ قبله في أفريقيا،" وأنّه بذلك "سيُغضب الرأيَ العالميَّ الحضاريَّ موقّتًا." لكنّه أكمل: "بعد إتمام تشكيل هذا الرأي العالميّ لصالحنا، سنرسّخ أقدامَنا في أرضنا، فلا نعودُ نخشى دخولَ الأجانب، وسنستقبل زوّارَنا بروحٍ خيريّةٍ أرستقراطيّة."

إذن، نحن نرى التسلسلَ التاريخيَّ بطريقةٍ تختلف عن رؤية  منظّمة "صوت يهوديّ للسلام." الصهيونيّة لم تكن "ردًّا خاطئًا" من بين عدّة ردودٍ يهوديّةٍ على "معاداة الساميّة الأوروبيّة،" بل كانت جزءًا لا يتجزّأ من الإمبرياليّة الأوروبيّة نفسِها. ولقد تلقّت الدعمَ البريطانيّ تحديدًا لأنّها كانت مصمَّمةً لأن تكون قاعدةً أماميّةً كولونياليّةً متقدّمة عند تقاطُع آسيا وأفريقيا، وعند سواحل البحر المتوسّط الواقع بين ثلاث قارّاتٍ كبرى. الهدف من تأسيس "إسرائيل" كان إعطاءَ الغرب الإمبرياليّ منْفذًا إستراتيجيًّا على ساحل المتوسّط، وحرمانَ الفلسطينيين ذلك المنفَذَ (باستثناء غيتو غزّة)، بل طرْدَهم إلى أردنٍّ من صنيعةِ بريطانيا.  

 

وثّقتْ حنّة أرندت أنّ الصهاينة تحالفوا مع النازيّين

 

كما أنّنا نتّفق مع المنظّمة على أنّ إنشاءَ "إسرائيل" والصهيونيّة قد أدّى إلى تراتبيّةٍ عنصريّةٍ بين اليهود الذين يعيشون داخل فلسطين، وكان على الدوام أداةً لكسر الروابط بين اليهود داخل الأراضي العربيّة - من تونس إلى مصر فاليمن والعراق. ونضيف أنّنا نعتبر ذلك نابعًا، بشكل عضويّ، من المشروع الصهيونيّ ذاته، القاضي بتحقير "الشرق" وحضاراتِه وأنماطِ عيشه. إنّ أحدَ أبرز دُعاة "معاداة الساميّة" إنّما هو الحركةُ الصهيونيّةُ نفسُها، التي دمّرت المعابدَ اليهوديّةَ في العراق وتونس. ولاحقًا، في الثمانينيّات، في خضمّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي كانت "إسرائيلُ" والولاياتُ المتحدة ضالعتيْن فيها، قام عناصرُ من منظّمة التحرير الفلسطينيّة بحراسةِ معابدِ اليهود اللبنانيين، إلى أن استهدفها الطيرانُ الصهيونيُّ لاحقًا، فأزالها (obliterated)، لكي يَضمن الكيانُ الصهيونيُّ أنْ لا يبقى مكانٌ آمنٌ لليهود في أوطانهم الأصليّة وخارج فلسطين. وكما وثّقتْ حنّة أرندت بالتفصيل، فإنّ الصهاينة تحالفوا، أثناء الحرب العالميّة الثانية، مع النازيّين، وتآمروا ضدّ قيادات المقاومة اليهوديّة في وارسو ليَضمنوا قطيعةً كاملةً للاستمرار اليهوديّ في أوروبا وخارج فلسطين.

إنّ "معاداة الصهيونيّة" هي، إذن، سياسةٌ قائمةٌ على نفي العلاقات الاستعماريّة في فلسطين، ومن ثم فهي ترفض الوجودَ المستمرّ للدولة اليهوديّة الأوروبيّة في فلسطين. إنّها موقفٌ يرفض "حقَّ" الأوروبيين في غزو تلك الأرض، والسيطرةِ عليها، وفي بناءِ تراتبيةٍ هرميةٍ تفضِّل شعبًا فوق شعبٍ آخر. معاداةُ الصهيونية ليست مجرّدَ نقدٍ للسياسات الإسرائيليّة الحاليّة، ولا هي مجرّدُ رفضٍ لدولةٍ - أمّةٍ يهوديّة، بل هي رفضٌ لدولةٍ عنصريّةٍ كولونياليّةٍ استيطانيّة مفروضة بقوّةِ الإمبرياليّة.

ثم إنّ أهوالَ الصهيونيّة لا تنحصر في احتلال فلسطين وحرمانِ الفلسطينيين أرضَهم وحقوقَهم، [على ما يوحي بيانُ المنظمة المذكورة]. فالصهيونيّة قامت، كذلك، بسلسلة اعتداءاتٍ متواصلة على بلدانٍ عربيّةٍ أخرى، من مصر إلى سوريا ولبنان، وصولًا إلى تونس. وهي ضالعة في اغتيال قادة جذريّين عرب، بمن فيهم مهدي بن بركة وأبو علي مصطفى. والحركة الصهيونيّة سلّحتْ ودرّبتْ أنظمةً يمينيّةً، فاشيّةً، معاديةً للشيوعيّة، عنصريّةً، ومعاديةً للساميّة: من نظام جنوب أفريقيا زمنَ الفصل العنصريّ، إلى الدكتاتوريّات في أمريكا الوسطى و"المخروطِ الجنوبيّ" في السبعينيّات والثمانينيّات. كما باعت كمّيّاتٍ ضخمةً من الأسلحة إلى الحكومة الهنديّة اليمينيّة المتحالفة مع الولايات المتحدة، وتتقرّب الآن من حكومة بولسونارو الفاشيّة في البرازيل. وشارك الكيانُ الصهيونيّ الطغمةَ العسكريّةَ في غواتيمالا في إبادة أكثر من مئتيْ ألف مواطن، معظمُهم من سكّان الأرض الأصليين، من شعب المايا. وساعد الصهاينةُ ودرّبوا "القوّاتِ اللبنانيّة،" وحزبَ الكتائب اللبنانيّة، وجيشَ لبنان الجنوبيّ [جيش العميل أنطوان لحد]، وتنظيمَ القاعدة (factions) ونسّقوا (coordinated) مباشرةً مع تنظيم داعش [في مواجهة الحكومة السوريّة]. وفي ذلك كلّه، كانت "إسرائيل" تنفِّذ أجندةً بقيتْ أمينةً لها منذ تأسيسها: أن تكون رأسَ حربة الاستعمار على امتداد العالم الثالث وضدّ حركات التحرّر الوطنيّة والديمقراطيّة في دول هذا العالم. ونحن نرى أنّ هذه الحقائق ذاتُ صلة كبيرة بصياغة نهج معادٍ للصهيونيّة معاداةً حقيقيّة: نهجٍ لم يكن - تاريخيًّا - منفصلًا عن موقفٍ أمميّ أوسع، مناهضٍ للاستعمار، ورافضٍ لهيمنة الإمبرياليّة الأوروبيّة والأمريكيّة وفرضِ قراراتها على العالم الثالث.

نحن، بالتأكيد، نرحّب بجهود "صوت يهوديّ للسلام" لالتحاقه مؤخّرًا بصفوف الحركة المعادية للصهيونيّة، وذلك بعد سنوات عدّة من التخبّط؛ وهو تخبّطٌ عزّز المشروعَ الاستعماريَّ الصهيونيّ، المتستِّرَ بقناع "الصهيونيّة الليبراليّة." ولكنّ الوضوحَ التاريخيّ والإيديولوجيّ مهمّ أيضًا. إنّ "معاداةَ الصهيونيّة" نهجٌ أمميٌّ عريق، أسهم  فيه مناضلون عديدون، فلسطينيّون ويهود. ونحن نتمسّك بهذا الإرث، وندعم بقوةٍ هذه الخطوةَ المهمّةَ من منظّمة "صوت يهوديّ للسلام" في تطوير نهجٍ أكثرَ حدّةً في رفض الصهيونيّة؛ نهجٍ يَضمن أن يكون جزءًا لا يتجزّأ من نضالٍ مشترك لتخليص المنطقة من "إسرائيل،" وذلك باقتلاع هذه الدولة والتخلّص من كلّ الترسّبات الرجعيّة للمشروع الصهيونيّ. ونحن نرغب في أن ندفع حليفَنا هذا قُدمًا بحيث يدرك "معاداةَ الصهيونيّة" على حقيقتها: إيديولوجيا تحرّريّةً راسخةً في معاداة الإمبرياليّة والرجعيّة. وهذه النظرة إلى "معاداة الصهيونية" ليس لها إلّا مآلٌ منطقيٌّ أوحد: الرفض الكامل لكلّ أشكال الصهيونيّة، واعتناق التحرّر الحقيقيّ من الاستعمار.

سان فرانسسكو

ايّاد قيشاوي

ناشط فلسطينيّ، وعضو اللجنة التنسيقيّة لمنظّمة العودة (تحالف حقّ العودة الفلسطينيّ).