صورٌ كوبيّة وحُبّ سياسيّ*
15-10-2015

 

ترجمة: سماح إدريس

"ماذا بيننا إذن؟" (والت ويتمان)

 

إنّها لصورةٌ غريبة، ممزّقة عند إحدى زواياها، مبقّعة، قد خرّبها الزمن. طوال عقود وأنا أنظرُ إليها. ثمّة شخصان ـ طفلة تَدْرج، ترتدي زيًّا أستوريًّا،(1) وتحمل دميةً بزيٍّ مماثل؛ وشابّةٌ نحيلة، تقبض بشدّةٍ على يد الطفلة. الاثنتان تقفان في كورنيش في هافانا...لا أعلم أين بالضبط. النسيم يهبُّ من جهة البحر، فيطيّر إلى الوراء شعرَ الشابّة الغامق. تنظر ناحية الطريق أو الحائطِ البحريّ، متأمّلةً ومهتمّةً، وربّما مبتسمةً قليلًا ـ فمن الصعب الجزمُ. أمرٌ ما استرعى نظرَها. تبدو مطمئنّةً، لبقة. الطفلة قربها مزروعةٌ بثباتٍ في وسط الصورة؛ وجهُها الصغير يقطعُه عَرْضًا عمودُ إنارةٍ يَقْسم الصورة.

الطفلة لا تنظر ناحيةَ البحر. لا تبتسم، بل تبدو وكأنّها تعبس لآلةِ التصوير. لعلّها لا تريد أن تَظْهرَ في الصورة؛ ولعلّها تَجْهد كي لا تُفلتَ دميتُها من يدها؛ ولعلّ الجوّ عاصفٌ أو صاخب. فوق الطفلة مباشرةً، إعلانٌ تزيّنه أقنعةُ مبتهجين مرِحين، في إشارةٍ إلى أيّام (أو موسم) الكارنفال. الطفلة ولعبتُها، بزيّهما الأستوريّ، هما أيضًا إشارتان، أثران صغيران من المهرجان. لربّما في المساء، في زمنٍ آخر، كان هذا المكانُ مكتظًّا بالمبتهجين المرحين. ولربّما انتهى الكرنفال. في الصورة يبدو الإعلانُ، كالطفلة، خارج السياق، في مشهد الشارع الخالي. في الصورة الفوتوغرافيّة المضمحلّة، المشهدُ المضاء بنور النهار معتّمٌ بعض الشيء. ويبدو الشخصان مكشوفيْن غيرَ محصّنيْن، جزءًا من توازنٍ متقلقل.

خلف الشخصيْن تبدو نوافذُ أحد الأبنية مفتوحةً أو مكسورة. السيّارات تعْبر عند الجهة اليسرى. إذا حدّقنا جيّدًا رأينا شخوصًا يتحلّقون حول سيّارةٍ إلى اليمين. سوادُ الصورة وبياضُها الذاويان يَحْرماننا لوحةَ ألوانِ هافانا ونورَها ـ يحرماننا الأزرقَ، والضوءَ الذهبيّ، والنسائجَ المشبّعة، والبشرةَ السمراءَ المصفرّة. إنّ صور هافانا، بالأسود والأبيض، ومن دون أماراتِ حنينٍ أو معالمِ ثراءٍ أو حسّيّة، تصبح تحدّيًا؛ تمارينَ في الذاكرة التوثيقيّة؛ وتستلزم أن تؤخذَ في الاعتبار إلى جانب حقائقِ السياسة والتاريخِ والفقدان. ربّما كانت هذه الصورة جزءًا من ألبوم، مدسوسةً في الزوايا المخصّصة للصور. أو ربّما أُفردتْ بين صفحاتِ كتاب. أو ربّما بُعثتْ ضمن رسالةٍ ما. ولكنْ أيًّا كان الألبومُ الذي انتمت إليه فقد كان ألبومًا مبعثرًا، وانتهى الأمرُ بها منذ زمنٍ بعيدٍ إلى أن تكون مزْقةً، وعاشت عقودًا في كتبٍ ومغلّفاتٍ، بلا أيّ إطار. ثمّة شحطاتُ قلمٍ في أحد الجوانب. الطباعة مضمحلّةٌ وعرضةٌ للانثناء. الحوافّ تتكسّر.

.

حين نمعن في قراءة الصورة، نعثر على أثرٍ من ذاكرةٍ جمعيّة. فأقنعةُ الكرنفال، في الوسط البعيد من الصورة، تؤشّر على قطيعةٍ لا تقتصر على تركيب الصورة، إذ يبدو أنّها تنتمي إلى كرنفال هافانا سنة 1966 ــ وهو جزءٌ من تقليدٍ عريقٍ من كرنفال هذه المدينة يعود إلى القرن السادس عشر. كانت الثورة قد باشرتْ في العام 1962 تغييرَ طبيعة الكرنفال، وذلك عبر استخدام موضوعاتٍ اشتراكيّة، ثمّ ألغي الكرنفالُ سنة 1967، وتوقّفت المهرجاناتُ ذلك العام وطوال العاميْن التالييْن لأنّ الدولة وَجّهتْ اهتماماتِ الناس نحو  حصاد 10 ملايين طن من السكّر ــ وهو ما بات هدفًا قوميًّا سنة 1970. بيْد أنّ الجهدَ البطوليّ لم يبلغْ مرادَه، إذ لم يتعدَّ الحصادُ 8 ملايين طن  إلّا بقليل. ثمّ عاد الكرنفالُ إلى هافانا سنة 1970، ومنذ ذلك الوقت لم يُقمْ أثناء فترة الصوم الكبير بل انتقل إلى عزّ الصيف، على مقربةٍ من ذكرى الثورة في 26 تمّوز.

في ظنّي أنّ الأقنعة تحوِّم كشعارٍ غريبٍ فوق الشخصيتيْن اللتيْن تنظران في اتجاهيْن مختلفيْن ضمن المشهد المقسوم. كان المشهدُ السياسيّ، هو الآخر، ينمو أكثرَ انقسامًا. فحقبةُ نهاية الستينيّات تؤشّر على موجةٍ ثانيةٍ من هجرة الكوبيين للجزيرة ـــ مهنيين وطبقةً وسطى وطبقةً عاملة، من أعراقٍ ومراتبَ اجتماعيّةٍ كثيرة. ومع أنّ الكوبيين المهاجرين هؤلاء، الذين يبلغون عشراتِ الآلاف، وُسِموا عمدًا بـ "المهنيّين البيض" حالَ وصولهم إلى ميامي (في الولايات المتحدة)، على خلفيّة مواجهات الحرب الباردة والحقوق المدنيّة، فإنّهم تبنّوْا سياساتٍ مركّبة. ومع أنّه سُمح بحقيبةٍ واحدةٍ لكلّ بالغ، وبلعبةٍ واحدةٍ لكلّ طفل، فإنّهم حَملوا إلى المنفى مقتنياتِ هزيلةً ولكنْ إرثًا باهظًا من الخيارات [المؤلمة].

ترجّع النظرتان المفترقتان في الصورة صدى المسارات المنقسمة التي فَصلتْ عائلاتٍ كوبيّةً كثيرةً بعضَها عن بعض. المصوِّر، وهو خوسيه لويس، أخو جدّتي (لأمّي)، غادر إلى ميامي، ومن ثمّ ذهب إلى سان خوان في بورتوريكو. أمّا الطفلة في الزيّ الوطنيّ الصنع فهي أنا، ممسكةً بيد ابنة أخت جدّتي. بحلول العام 1970، حين عاد الكرنفالُ إلى هافانا، كان نصفُ أفراد عائلتي قد غادروا كوبا، وأخذوني معهم. وحين قرّر والداي أن يستقرّا في شمال شرق الولايات المتحدة سافرا إلى ميامي، ولم يغادراها قطّ. أمّا الشابّة في الصورة فبقيتْ في هافانا، وما تزال تعيش هناك، شاهدةً حيّةً على الثورة وما تلاها من أحداث.

الشابّة في الصورة هي لوسيلا جيمينيز كاسترو. وهي  الحبيبة ابنة أختِ جدتي، وسَمِيّتُها... كانت لوسيلا نحيلةً، ذكيّة، مولعةً بالموسيقى، مضحكة، مزاجيّة، رقيقة. وكانت هشّةً وصلبةً، كنزًا رائعًا لذكرياتي الكوبيّة المبكّرة، وشكّلتْ ـــ بأشكالٍ مباشرةٍ وغير مباشرة ـــ كلَّ ما أفهمه عن كوبا. ولأنّها امرأةٌ ذاتُ ضميرٍ يقظٍ، وذاتُ إخلاصٍ عميقٍ لعائلتها ذاتِ الميول اليساريّة، فقد أُغرمتْ بثوريٍّ طويلٍ نحيلٍ رقيق، كان قد أُرسل في منحةٍ من الريف ليدْرس في هافانا. كان اسمُه آلبيو كاسترو، وقد تزوّجتْه لوسيلا في السنوات الأولى من الثورة قبل أن أولد. وإنّني لأذكرُ قامة ألبيو الطويلة، وحنانَه، وزيّه الزيتونيّ (الكاكي). آلبيو ولوسيلا، قصّةُ حبهما، خياراتُهما السياسيّة،  كلُّ ذلك جعل من الثورة قصةً حميمةً، لا مجرّدَ حدثٍ في التاريخ. وشأنَ بقيّة أفراد عائلة أمّي الذين قرّروا البقاءَ في كوبا وآمنوا بوعود الثورة، فإنّ لوسيلا لم تسمحْ لأحدٍ بأن يزدريَ الثورة، أو يستخفّ بأتْباعِها أو يشيطنَهم، أو يسخرَ من الحبّ السياسيّ.

مع توزّع عائلتي بين هافانا وبورتوريكو وميامي، نَسجتْ جدّتي في ميامي مع أختها في هافانا عقودًا من المراسلات الحميمةِ الملحّة من أجل ردم الهوّةِ بينهما. وإذ عمل والداي بشكلٍ محمومٍ على تنشئتنا، فقد كتبنا أنا وأختي الصغرى، وتحت إرشادات جدّتي، أُولى رسائلنا في الحياة، وكانت إلى أخت جدّتي ماميتا، وإلى لوسيلا وآلبيو، وإلى الحبيبة نينا جيمينيز، وهي بمثابة أمّ أخرى للعائلة في هافانا. ولقد بدا أحيانًا وكأنّنا تعلّمنا القراءة والكتابة من أجل كتابة تلك الرسائل إلى هافانا: إذ كان على كلّ كلمةٍ أو علامةٍ نطقيّةٍ إسبانيّةٍ أن تكون صحيحة، برهانًا على أنّنا لم نخسرْ لغتنا. وكان ذلك، بالنسبة إلينا، درسًا مبكّرًا في مسؤوليّة الكلمات، الكلماتِ الصحيحةِ، ودرسًا في التراسل. وكانت جدّتي تحثّنا على أن نكتبَ بشكلٍ أفضل، وبوتيرةٍ أكبر. وإذ كبرتُ رحتُ أؤجّل هذه المهمّة الثقيلة. وحين ماتت ماميتا في هافانا شعرتُ بالرعب من أن تكون قد ماتت لأنّني لم أكتب إليها ما يكفي من الرسائل. كنتُ آنذاك في التاسعة أو العاشرة. وبعدها باتت الكتابةُ إلى كوبا أصعب.

كنّا، أنا وأختي، حتى حين لا نكتب الرسائل، نكتب العناوينَ على المغلّفات: ماريانو 12، رقم 6203، إسكينا 62، آلتوس. وإنّ هذا لمحفورٌ في ذاكرتي بشكلٍ يتعذّرُ محوُه، مثل رقم هاتف لوسيلا، الذي حفظتُه عن ظهرِ قلبٍ بسبب تكراره أمام عاملِي الهاتف الناطقين بالإنكليزيّة التي لا تفهمها جدّتي. ولقد حقّقت الرسائلُ ما عجزتْ عنه تلك المكالماتُ الهاتفيّةُ العاطفيّة: بناءَ حوارٍ ثابتٍ ومشفّرٍ بالحبّ. فمن خلالها تابعنا، طوال ثلاثين عامًا وأكثر، نضالاتِ لوسيلا، والأهمّ: حياتَها وحياةَ آلبيو. من خلال الرسائل تعرّفنا إلى استمرار الحياة في هافانا رغم غيابنا عنها: حصاد قصب السكّر، الوظائف، دفتر الحصص، العمل التطوّعيّ، ولادة الأطفال، الرحلات المدرسيّة، العطل العائليّة باتجاه المقاطعات أو المنتزهاتِ الاشتراكيّة. ومن الرسائل عرفنا عن أقاربنا وعن موهبتهم في مجال العلوم، وعن تجريد آلبيو إلى أنغولا وعودته منها، وعن حالات المرض والموت. وكانوا يرسلون إلينا صورًا لأمّ جدّتي، وصورًا لأولاد العائلة وتبدّلاتِ وجوههم الصبيانيّة، أولادِ جيلي الذين لم أكد أعرفهم. ومع رسائلهم أرسلوا أيضًا بطاقاتٍ بريديّةً ساحرةً: عشراتٍ من هذه البطاقات التي لا كتابة عليها، تُظهر فتياتٍ يسبحن ذهابًا وإيابًا في بركةٍ ضخمةٍ ضمن مدرسةٍ ثانويّة، أو تُظهر ديناصوراتٍ في منتزهٍ تعليميّ، وطائراتٍ ورقيّةً تطير في "منتزه لينين." وكانت البطاقات البريديّة تتراكم في صندوقٍ في خزانة جدّتي. وفي المقابل أرسلنا صورًا عائليّةً للنساء وهنّ يرتدين فساتينَ الفصح ويقفن أمام سيّارة "البونتياك" الذهبيّة المهترئة لكنِ النافعة، وصورًا لأخويّ الأصغريْن، وأخرى لكارنفال هالووين؛ صورًا تثْبت أننا نسير قُدُمًا، وأنّ عليهم ألّا يقلقوا.

في السنوات الأولى، في العقد الأول، كانت رسائلنا إلى هافانا محشوّةً بأوراق الصابون الرقيقة، وشفراتِ الحلاقة، والجواربِ النسائيّة، وبغيرِها من الضروريّات التي يصْعب أن تصل إلى هافانا وسط التقنين آنذاك. وكانت أوراقُ الصابون تبدأ بالذوبان في اليد في أوقات الحرّ إذا حُملتْ طويلًا ("يا ضيعانها" كانت جدّتي تقول). كانوا يصارعون في هافانا، وكنّا نصارع في ميامي. ولقد احتفظتْ جدّتي، شأنَ أختها في هافانا، بكلّ قصاصةِ ورق، وبأكياس البقالة، وبالرقائق المصنوعة من الألومينوم. في تلك الأيّام الأولى كانوا يصطفّون لشراء البيض والحليب في هافانا. وكنّا نذهب إلى "الريفوجيو" لشراء الحليب المكثّف وأكياسِ الحبوب المجفّفة. أختي جيجي، وكانت في الثالثة أو الرابعة من عمرها آنذاك، كانت تخبّئ أكياسَ الحبوب تحت سريرها لكي لا ينفدَ كلُّ ما عندنا.

لم تكن ثمّة ولو همسة عن السياسة في رسائل جدّتي وأختها: كانتا تراوغان الرقابةَ في رسائلهما. فبالنسبة إلى عائلة ثوريّة في كوبا لم تكن الكتابةُ إلى المغتربين أمرًا هيّنًا. كانت الشقيقتان، على كلا الجانبيْن، تعْلمان أنّ كلماتهما قد تقع تحت نظر أجهزة الدولة، وكانتا تعِيان القواعدَ غيرَ المكتوبة وبروتوكولات السرد المرهفة. الأرجح أيضًا أنّ كلًّا منهما كذبتْ على الأخرى من أجل التهوين من معاناتهما. كانتا، شأنَ ملايين الكوبيّات، تتحايلان من أجل عبور حقل الإيديولوجيا والعواطفِ المليء بالألغام، عبر عقودٍ من الافتراق.

لقد خلقت السنون، والانفصالاتُ العاطفيّةُ الناجمةُ عنها، مشاعرَ متضاربةً في عائلتي إزاء الذاكرة السياسيّة؛ إحساسًا بأنّ هذه الذاكرة مهمّة لكنّها خطرة، لا ينبغي ربّما الوثوقُ بها. ذلكم هو إرثُ الحرب الأهليّة الباردةِ المتمادية. والاعتناء بهذه الذاكرة يتطلّب تفانيًا عنيدًا وجهدًا هائلًا: تمحيصَ الأرشيف والمقتنياتِ الماديّة [الدالّة على الثقافة]، والحفرَ في الأنساب العائليّة والنصّيّة والسياسيّة. المنشود هنا تمعّنٌ صعبٌ يَشْمل التذكّرَ وما تشوَّهَ من الذكريات، ويتطلّب الاهتمامَ والاحترامَ لما فُقِدَ من أشغالٍ يدويّة وقطَعٍ أثريّة. وفي تلك الأثناء علينا أن نعمل على استدعاء روابطِ الحب وخساراتِه، وقد هيْكلتْها السياسةُ والقطيعةُ السياسيّة، وعلى استدعاء الفهم الصامتِ لا للمشاعر وحدها بل للالتزامات العميقة أيضًا، وللحبّ الذي ليس فرديًّا فحسبُ ولا هو عائليٌّ ولا وطنيٌّ فقط.

وإذ تتدفّق الذكرياتُ إلى رأسي، أفهمُ ما الذي يربطني إلى لوسيلا وإلى كوبا، بعد كلّ هذه العقود والمسافة. الرابط هو الحبُّ السياسيّ. فلقد كان ثمّة حوارٌ مكتوبٌ في الرسائل، منتظِمٌ في سِلْكٍ واحدٍ بفضل المحادثات والزياراتِ والنقاشات ولحظاتِ الصمت نفسِه أيضًا؛ حوارٌ عن الحبّ فيما يتعدّى الحيّزَ الخاصّ: أشكال من الحبّ يتمّ التعبيرُ عنها تعبيرًا سياسيًّا.

ما يربطني إلى لوسيلا وإلى كوبا، بعد كلّ هذه العقود والمسافة... هو الحبُّ السياسيّ؛ فلقد كان ثمّة حوارٌ مكتوبٌ في الرسائل، منتظِمٌ في سِلْكٍ واحدٍ بفضل المحادثات والزياراتِ والنقاشات ولحظاتِ الصمت أيضًا.

 

في كوبا والشتات حَدّدتْ خياراتُ الحبّ السياسيّ وأسرارُه شكلَ القناعاتِ المتعلّقةِ بالإمكانيّات والمقاومة، وثقّفتنا في معاني التضحية والتضامنَ والخسارة، وتجسّدتْ في ممارساتٍ حميمةٍ وفي وسائل تهدف إلى معرفة العالم. الحبّ السياسيّ ـــ للعدالة وللحريّة، للناس وللمدن وللمجتمعات المحلّيّة، للقادة وللثوريين، للأفكار وللممارسات المتعلّقة بالخير العامّ، هنا وفي المنفى ـــ هذا النوعُ من الحبّ الوطنيّ يشكّل الشخصيّةَ الجمعيّةَ والذاتيّة، ويشكّل أيضًا فهمَنا للمسافة بين "الأمّة" و"الدولة." على امتداد مئتيْ عام والكتّابُ والموسيقيّون والفنّانون الكوبيّون يَستحضرون الحبَّ السياسي؛ كما يتفكّر الفلاسفةُ والباحثون في مفهومَي "الأمّة" و"الحبّ السياسيّ." لكنّني أفكّر في ما يتعدّى الشعورَ القوميَّ والإيديولوجيا، في أمرٍ أكثرَ حميميّةً، يتضمّن الرغبة والاهتمام (العناية). صحيح أنّنا نشعر بالحبّ السياسيّ بشكل فرديٍّ خاصّ، لكنّه يساعدنا على إدراك المشترَك بيننا؛ إنّه يصنع Lo comun.

 

في زمننا الذي تجري فيه إعادةُ تخيّلِ كوبا من منظور الولايات المتحدة موضوعًا للرغبة والتبادل [التجاريّ]، قد تنتقل ذاكرتُنا الجمعيّةُ الكوبيّة إلى تفكيرٍ آخر يتعدّى الحنينَ القوميّ وأحلامَ التنمية، ليُشْهر التواريخَ المدفونةَ للحبّ السياسيّ. إنّه إرثُ نساءٍ كَتبن وهنّ يراوغن الرقباءَ، إرثُ عائلاتٍ يرسلن تحويلاتٍ ماليّةً [إلى أهلهم]، إرثُ ثوريين متفانين أو سجناءَ سياسيّين رَفضوا الكراهية والثأر. هؤلاء كوبيّون عاشوا بما يتعدّى تقديراتِ الحاضر لكي يقْبضوا على الماضي في وصفه أمرًا يتجاوز "الفتش" [المقدّس].

إنّ أخذَ الحبّ السياسيّ في الاعتبار يحوّل الذاكرة، ويتحدّى أساطيرَنا. الكوبيّون في كوبا وفي الشتات يَعرفون بشكلٍ وثيقٍ أسرارَ الحبّ السياسيّ وأكلافَه: إنّه ما لَحَمَ عائلاتِنا ثمّ شتّتها ثمّ شكّلنا شعبًا. غالبًا أكثرَ ممّا ينبغي، تنتهي حكايةُ الحبّ السياسيّ بالنسبة إلى الكوبيين بانقشاع الأوهام، وبالخديعة، وبالقطيعة؛ إنّها حكايةُ انحسار السحْر التي تولّد شعورًا عميقًا بالاضطهاد. ولكنْ حين أنظرُ إلى صورتي مع لوسيلا، وأغرقُ في لحظتها القصيرة، أتصوّرُ الحبَّ السياسيّ وقد استجمَعَ في داخله العناية والاحترامَ والترميم. إنّ الحبّ السياسيّ ينادينا كي نحكيَ قصةً من جديد.

لوسيلا الآن مريضةٌ جدًّا في هافانا. أنا في نيويورك، أجهّزُ أوراقَ السفر من أجل رؤيتها مجدّدًا. أدرسُ وجهَها في صورة، أقرأ الصورة وإعلاناتِها من جديد. في المفعول الارتجاعيّ لإعادة التذكّر، يبدأ شيءٌ ما في التبدّل. في المسافة الفاصلة بيننا، أو في سردنا للحكايات معًا، يقوم عملُ الذاكرة بتوضيح العلاقةِ بين أجيالنا، وبتوضيح البدايات الضائعةِ أيضًا ـ أيْ بتوضيح كلّ أرشيفات حبّنا السياسيّ المبعثرة.

* تُنشر هذه الترجمة بإذن منها.

 

(1) أستوريا: مقاطعة في شمال غرب إسبانيا.

انا دوبيكو

وُلدتْ في هافانا، ونشأتْ في ميامي، وتعيش في نيويورك. تدرّس الأدب المقارن في الأميركتين في جامعة نيويورك.