حلّاقة أرستقراطية
13-04-2020

 

أن تقصَّ شَعرَ أطفالِكَ المتهدّلَ على جبهتهم، فتلك مسؤوليّةٌ أخرى تُضاف إلى قائمة المسؤوليّات التي تقع على كاهلكَ لأوّل مرّةٍ في الحَجْر المنزليّ.

دائمًا هكذا: تباغتني الأحداثُ لإخراج مواهبي (التي قلّما بلغتْ حدَّ المقبول). متوالياتٌ عدّةٌ في الآونة الأخيرة جعلتني أتقمّص أدوارًا لم أتخيّلْ يومًا أنّني جديرةٌ بها.

الاحتلال لم يوفّرْني هو أيضًا. فبعد اختطافه زوجي "أُبَيّ،" أُجْبِرتُ على لعب دور الأب، الذي لا أجيدُه مثلَه. فلا دورَ شبيهًا بما يفعله أُبَيّ مع أطفالنا.[1]

وبعدها بأشهرٍ فقط، عاقبتني "الشرّيرةُ كورونا" - - كما يسمّيها قاصُّ حكاياتٍ لبنانيٌّ أُحبُّه أنا وأطفالي، ولا نكفُّ عن متابعته كُلَّ أحَدٍ على اليوتيوب، بدلًا من القدّاس الإلهيّ، ليُبارِكَ أسبوعَنا بقصصه.

هكذا، بِتُّ، إلى جانب أدواري الأخرى، المربّيةَ التي تفشل غالبًا بعد أوّلِ تنبيهٍ ("حبيبي، لا يجوز أن تفعلَ هذا!"). إذ لا تلبث أن تصرخَ لتفضَّ عراكَ أطفالها على لعبةٍ ما. فلقد أُغلقت الحضاناتُ منذ إعلان حالة الطوارئ، وبتُّ أعملُ من منزلي كغالبيّة الناس، مع أطفالي الثلاثة، خالد وغسّان وباسل، وهم عالقون معي منذ مطلع آذار (مارس)، بلا أبٍ، في عمارةٍ سكنيّةٍ مكتظّةٍ في "كُفًر عَقب،" المليئة بالعَقَبات، من دون شجرةٍ خضراءَ واحدةٍ نريح بها أعينَنا من وحشة الأسمنت، أو تسمح لهم باللّعب في فيئها.

وأرغمتني الشرّيرةُ ذاتها على تقمّص دور "المعلّمة عن بُعد" وهي تدرِّس ابنَها الأكبرَ الأحرفَ العربيّةَ والإنكليزيّة، وتَعُدُّ معه الأرقامَ تصاعديًّا وتنازليًّا، ثمّ تصوِّره في شريط فيديو وهو عاكفٌ على حلّ أوراق العمل التي أرسلتها المدْرسةُ إليه.

وأرغمتني أيضا على ممارسة عددٍ استثنائيٍّ من التجارب المطبخيّة الجديدة، التي تُحْدِثُ انفجارًا عند فتح كيس طحين، أو تتسبّب في تكوّن خليطٍ لزجٍ على الحائط جرّاء تطاير محتوياتٍ لذيذةٍ من الخلّاط.

أعْتَرِفُ بأنّ بالي ليس قصيرًا، ولكنّه ليس طويلًا أيضًا. كما أنّني أكره أن أعيدَ ترتيبَ المكان مرّةً بعد مرّة عقب الكوارث التي قد تحدث على حين غرّة، أو على حين كعكة!

 

أن تقصَّ شعرَ أطفالك، فهذه مُهمّةٌ تعجيزيّة

 

مرّةً أخرى: أن تقصَّ شعرَ أطفالك، فهذه مُهمّةٌ تعجيزيّة. أن تُقْنع طفلًا في الخامسة، وآخرَيْن في الرابعة، باعتلاء كرسيٍّ توهّمتَ أنّه قادرٌ على أن يحلَّ محلَّ "كرسي عمّو عيسى" في صالون الحِنّ، وسط شارع ركب في رام الله المحتلّة، فذلك أمرٌ شبهُ مستحيل. فكرسيُّ عمّو عيسى ضخم، يضع عليه خشبةً، يجلسون عليها بالتناوب، ثمّ يهزّون الكرسيَّ بعنفٍ يُمنةً ويُسرةً، حتى يدوخوا، أو يدوِّخوا عمّو عيسى.

والحقّ أنّ المعضلة ليست في جلوسهم على الكرسيّ فحسب، وإنّما في تثبيت رؤوسهم كذلك، ولو لثوانٍ قليلة. فكيف، بحقّ السماء، سأجمِّد "سعاديني"؟ كيف سأشذِّب خُصَلَهم الذهبيّة، وأنا أدرك أنّ مؤثِّراتي الصوتيّةَ السخيفةَ لن تقْنعَهم، مثلما لن تقْنعَهم وعودي التي أنكثُها كلَّ دقيقة ("هيْنااا قرّبْنا نخلص")؟

سيناريو كامل أرسمُه في مخيّلتي وأنا أحضِّر لهذه المهمّة.

***

في صباح اليوم التالي، وصلتني رسالةٌ نصّيّةٌ من شركة X تحثّني فيها على أن أكونَ "إيجابيّةً" خلال فترة مكوثي في المنزل.

شركةٌ خاصّةٌ تحتكر تقديمَ خدمةٍ عامّةٍ للمواطنين، بعد "حلْبهم" بأسعارٍ باهظة، وعلى مرأًى من الحكومة، ولا تتوقّف عن استعباد عُمّالها؛ هذه الشركة تقوم - لفرط شعورها بـ"مسؤوليّتها الاجتماعيّة" - بحقن المواطنين بإبر الإيجابيّة البلهاء، وبرسم البسمة على وجوه زبائنها مع وصول الشرّيرةِ كورونا البلادَ!

اقتنعتُ بتعليمات شركة X.  فأشعلتُ منصّةَ اليوتيوب الحمراء على موسيقى أوبرا.

 

ما إنْ فتح فمَه، حتى أُخِذْتُ بصوته

 

نوتات موسيقيّة تعلو وتدنو، مع صوت تينور رهيب منبثقٍ من رئتيْ شابٍّ طويل الشعر، عريضِ المنكبيْن، مهندمٍ بقميصٍ أبيضَ، تتوسَّطُه ياقةٌ بيضاءُ مكشكشةُ الصدر، مع صديْريّةٍ (جيليه) مخمليّة، وجواربَ بيضاءَ طويلة، وحذاءٍ فارسيٍّ بنيٍّ ذي كعبٍ عالٍ، موصولٍ عند مشط القدم بإبزيمٍ يصل ضفتيْه واحدتَهما بالأخرى. ما إنْ فتح فمَه بشكلٍ بيضاويّ، حتى أُخِذْتُ بصوته وهو يتسارع تارةً ويهبط تارةً أخرى.

مقابلَه تمامًا، كان يقف قائدُ الأوركسترا، بتوكسيدو سوداء، يشاركه "الجريمةَ" الرائعةَ بيديْن كالمعجزة، تعلوان وتدنوان مع النوتات، وتصنعان قفلاتٍ موسيقيّةً.

لغة أخرى: أرستقراطيّة الطراز والأداء والمشاعر.

شعرتُ بالترف والرُّقيّ والسعادة الأرستقراطيّة. ولمَ لا؟! فزوجي كان يتّهمني، عندما أصف له فستانًا جميلًا بـ"الأُبّهة،" بأنّ لديّ عِرْقًا أرستقراطيًّا ورثتُه من جدّي اللبنانيّ.

أداءٌ فَرِحٌ وباهر. واضعًا يدَه على وركه، راح المغنّي يلعب بالنوتات، وحاجباه يعلوان ويدنوان مع صوته المزمجر الطالع من حنجرته. صمتَ برهةً مع الفرقة الموسيقيّة، ثمّ أكملَ مع صحوة آلات النفخ، مغنّيًا:

في غا رو... فيغارو، فيغارو، فيغارو، في غا رووووو.

***

يا له من يومٍ كورونيٍّ مجنون، تقمّصتُ فيه حلّاقَ إشبيلية، في كفرعقب المُحتلّة (والمُختلّة أيضًا).

فليسامحْني موزارت، وجميعُ الموسيقيين من بعده.

 

يا له من يومٍ كورونيٍّ مجنون، تقمّصتُ فيه حلّاقَ إشبيلية، في كفرعقب المُحتلّة

 

أجلستُ أطفالي الثلاثة، وبدأتُ جنوني بالمقصّ والماكينة، أًصْدح مع المغنّي:

"في غا رو... فيغارو، فيغارو، فيغارو، في غا رووووو..."

ما إن انتهت الأوبرا، حتى أجهزتُ على ما يعتلي رؤوسَهم.

شرّيرةٌ هذه الكورونا فعلًا.

كفرعقب

 


[1]أُبَيّ عابودي: زوجي، ومديرُ مركز بيسان للبحوث والإنماء. وهو معتقل لدى العدوّ الإسرائيليّ للمرة الثالثة منذ منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) 2019.

 

هند شريدة

كاتبة فلسطينيّة من القدس المحتلّة. حاصلة على بكالوريوس صحافة مكتوبة/ فرعي علوم سياسيّة، وماجستير دراسات دوليّة من جامعة بيرزيت.