صَرخةٌ من أجل الشمس
09-07-2016

 

(إلى الأسير بلال كايد وهو يخوض إضرابَه عن الطعام لليوم الرابع والعشرين)

 

يُحاصرني السجن؛ وكلّما دخلتُ في التفاصيل أكثر، ابتلعني أكثر. وكلّما عرفتُ أسماءَ الأسرى والأسيرات وقصصَهم، وفي أيّ سجنٍ يقبعون، أكبُرُ، ويصير عمري ألفَ عام. يذوب الملحُ في دمي، وأصابُ بنوبة ضغطٍ حادّة. أشرب كوبًا من الماء، وأذوّبُ فيه قطعتيْ سكر. ويهبط قلبي.

يأخذني بلال، الأسيرُ بلال كايد ياسين، إلى مدنٍ وقرًى فلسطينيّةٍ لا أعرفُها، ولم أسمعْ بها من قبلُ. أدخلُ بيوتَها الآن، أتعرّفُ إلى أهلها، إلى أسمائهم، عاداتِهم، لهجاتِهم، تفاصيلِ حياتهم البسيطة. أتذكّرُ أنّ هؤلاء كلّهم أهلي، وأنّ هذه المدنَ والقرى كلّها لي، وأنّ بلال منّي وأنا منه: كلانا، على الأرجح، من جذرٍ واحدٍ، يرويه العطشُ نفسُه. فيصعد قلبي. 

  نُقل اليوم بلال إلى سجن عسقلان. أنا أيضًا أعرفُ عسقلان. أين سمعتُ بهذا الاسم؟ تذكّرتُ اسمَ مدرستي في مخيّم الميّة وميّة [في جنوب لبنان]، حيث كانت وكالةُ الغوث "ترحّب بنا" دائمًا؛ وحيث سياجٌ أزرقُ شائكٌ ومرتفع، حبالُه الحديدية تلفّ الجدرانَ والأبوابَ الموصدة؛ وحيث اللونُ الأزرقُ يجعلكَ ترى الأسوارَ تصل إلى حدود السماء... كأنّه سجن. ويهبط قلبي.

 ستّون طالبًا، ربّما أكثر، كنّا نتكدّس في علبة سردينٍ واحدةٍ تسمّى ــــ مجازًا ــــ "صفًّا مدرسيًّا." هكذا سمعنا المعلمَ الشابّ وهو يتذمّر بقرفٍ أمام مديرٍ عاجزٍ لا حول له ولا قوّة. هناك رأينا أستاذًا متخلّفًا، روحُه محشوّةٌ بالعُقد النفسيّة، وفمُه محشوٌّ بالشتائم، العصا لا تفارقه، ويضربُنا بقوةٍ حتى "نتعلّم" الأدبَ والاحترامَ والسمعَ والطاعة... وكي نتعلّم، قبل كلّ شيء، جدولَ الضرب!

 لم يفكّروا يومًا، لا هو ولا المعلّمُ الشابّ ولا المديرُ العجوز، أن يدلّونا، ولو بإصبعهم، إلى عسقلان على خريطة البلاد. لم يحدّثْنا أحدٌ عن المدينة وتاريخها، ولا عن السجن فيها.

يجوع قلبي، وأسأل نفسي: هل يشبه كشكُ المدرسة، في مخيّم الميّة وميّة، "الكانتين" في سجن عسقلان؟ هل يتجمّع الأسرى مثلنا في أوقات الفرصة لكي يشتروا فلافلَ ومناقيشَ ناشفةً محشوّةً بنُشارة الخشب على أنّها زعتر!؟ كنّا، نحن الأطفالَ الجائعين، ندخل معركةً يوميّةً، وعلينا أن نتحمّلَ معاناتَها التي تصل إلى حدّ التحرّش والتعرّق والتعب والخوف إذا أردنا أن نأكل. وهذا سيكون درسَنا اليوميّ والأوّل في عسقلان ــــ مخيّم الميّة وميّة.

***

لقد أصبح كلُّ ما هو خارج غرفتي سجنًا كبيرًا: المدينة سجن. البلاد التي أسكنُها سجن. أصبحت المدنُ، بشوارعها وأبنيتها الهرمة وقطاراتِها ومواصلاتِها القديمةِ والحديثة، هي سجني الكبير. الغيمة الرماديّة الكبيرة التي تطلّ على الجميع، باتت مهمّتُها الوحيدةُ أن تمنع أشعّةَ الشمس من التسلّل، ولو خلسةً، إلى قلبي أو غرفتي. المساحة الوحيدة التي اعتدتُ الهربَ إليها أصبحتْ سجنًا صغيرًا، يضيق، ولا يتّسعُ لروحي، ولم أعد فيه وحيدًا، بعد أن احتلّه بلال.

ويمشي قلبي.

كم يذكّرنا بلال بالحصار، وشعبِ الحصار. بالمناسبة، ما أخبارُ الناس في غزّة؟

***

لم أعرفْ معتقلَ "أنصار،" لكنّ ذاكرتي تعود إلى الكتيّبات الصغيرة التي قرأتُها، في زمنٍ مضى، عن تجربة الفدائيين الأسرى في هذا المعتقل الذي أنشأه الإسرائيليون في جنوب لبنان، وكيف حفر الأسرى النفقَ بالسكاكين والملاعق كي يطْلقوا سراحَ أجسادهم، وأفكارِهم، ورسائلِ الحب، وملصقاتِ الثورة، وشعاراتِ التضامن مع شعوب العالم المقهورة. لكنْ تظلّ خالتي نبيهة أجملَ ما علق في شعاب الذاكرة.

كانت خالتي نبيهة تحمل الصورَ بين يديها، وتروي حكايةَ تحريرها من المعتقل، والعرسِ الذي أقيم لاستقبالها، والزفّةِ التي بدأتْ في أوّل المخيم وبلغتْ بابَ البيت. كنتُ أتخيّل صوتَ الرصاص والفرح، وأفرح. لكنّني لم أفهم وقتها لماذا تغيّرتْ ملامحُ وجهها عندما قالت لنا: "إنّ أهمّ ما اكتسبتُه من سجّانتي هو أنّني أصبحتُ قادرةً على أن أحكي لغةَ العدوّ بطلاقة."

***

ويقف قلبي.

أشعرُ بالحاجة إلى الكتابة، لكنّني غيرُ قادرٍ في هذه اللحظات على التعبير عن مشاعري بحريّة، لا بالقلم ولا بأيّة وسيلةٍ أخرى، لا لشيءٍ سوى لأنّني وحيدٌ ومحاصَر، هنا، في هذا العزل. أكرهُ الشتاء. أكرهه أكثر في هذه البلاد، وقد طال فصلُه هذا العام. وفي كلّ شتاءٍ أشتهي أن أُزْهِرَ مثلَ كُوز تينٍ جبليّ، ينمو على شجرةٍ تقف على جبلٍ هناك، في أعالي  الجليل: تينٍ شتويٍّ أحمر، رائحتُه خجولة، قليلُ السكّر، لكنّه لا يحتاج إلى الشمس حتى ينضج، وفي وسعه أن يستويَ في عزّ الثلج!

بلال يحرّضني على الكتابة، فأقول:

إيماني يزداد بأنّنا ــــ نحن أولادَ المخيّمات والعشوائيّات وأحزمة البؤس، الفاقدي الأوراق الثبوتية، الهامشيين، البدون، البلاوطن ، البلا صوت ــــ نعيش في سجونٍ كبرى، تحْكمها أنظمةٌ وقوانينُ، مهما تغيّر شكلُها ولونُها، فإنّها تظلّ "تبدع" في عزلنا وخنقنا، تارةً  باسم "الأمن،" وطورًا باسم "الدين،" وتحتمي بالكلاب المدرّبة وبالصواريخ الحارقة وبسلطة المال والتكنولوجيا، وتخترع لنا حياةً وهميّةً تسمّيها "حداثة" و"تقدّمًا" و"تعايشًا،" وتلوّنها بألوان قوس قزح، ثم تطالبنا بأن نكون سعداءَ... وبُلهاء.

وهناك، في العالم القذر نفسه، زنازينُ وأقبيةُ تحقيقٍ وتعذيبٍ، تأكل أعمارَ الأسرى، وتحاصر أحلامَهم وحقَّهم في الوجود، فيواجهون ذلك بالأمل والحبّ، ويخبّئون الخيالَ في أرواحهم سلاحًا من أجل البقاء، من أجل الدفاع عن إنسانيّتهم وعن ملامحنا وعن أحلامنا، وعن ذلك الطفلِ الوحشيّ في داخلنا، ذلك الوطنِ الصغيرِ الذي نحبُّه ونخافُ عليه كلّما عبرتْ حروفُه على ألسنتنا: فلسطين.

كلُّ الحياة تُختصر في الجملة التي كان يردّدُها الرفيقُ الشهيد عمر النايف، ويصرّ عليها قبل اغتياله في سفارة السلطة الفلسطينيّة في بلغاريا: "إنّها ليست قضيّتي وحدي. المسألة ليست فرديّة. إنّها قضيّة الجميع، قضيّةُ الشعب. لن أنسحب، ولن أهرب من هذه المعركة."

***

أين الشمس؟

أعرف أنّ الشمس لا تدخل زنزانةَ رفيقي بلال؛ فلقد قرأتُ شعرًا ونثرًا عن الرطوبة التي تتغلغلُ إلى قلوب المعتقلين وتأكل عظامَهم. هنا أيضًا، في هذا المنفى البارد، خللٌ ما في الطبيعة، في وجودي القسريّ، في المكان الخطأ، لأنّ غيابَ الشمس يكاد يكسرُني، ورائحةَ الرطوبة تفوح من لحمي. مفاصلي تؤلمني، ولم أعد قادرًا على الحركة. كلّما مشيتُ أحسستُ بالعجز عن حمل جسدي وروحي. ولا خيار.

لكنّني لا أريد إلّا الشمس. وأريدها الآن. وأريدها هناك.

بروكسل

محمد الخطيب

منسق "شبكة صامدون" في اوروبا.