ضحايا الحرب في اليمن: ميزان اللاإنسانيّة المائل
17-09-2016

 

خلافًا لتوقّعات المنظّمات الحقوقيّة الدوليّة المتابعة لانتهاكات أطراف الصراع في اليمن، قامت الأممُ المتّحدة بشطب المملكة العربيّة السعوديّة ــــ قائدةِ التحالف العسكريّ ــــ والدولِ المشاركةِ معها من القائمة السوداء لمنتهكي الطفولة في اليمن، وهي قائمةٌ تضمّ أيضًا مليشيات الحوثيّ. ولم يكن التراجعُ الأمميّ ناشئًا عن قصورٍ في استقصاء الحقائق الميدانيّة التي تدين التحالف، بل كان نتيجةً لضغوطٍ دبلوماسيّةٍ قادتها السعوديّةُ وحلفاؤها، ملوِّحةً على إثرها بوقف دعمها الماليّ للأمم المتّحدة.

وبقدر ما كشف التراجعُ الأمميُّ المفاجئ الاستقواءَ السعوديّ، فإنّه كشف أيضًا عدمَ انسجام مواقف الأمم المتّحدة مع القيم الإنسانيّة التي أُنشئَتْ بموجبها، وفي مقدّمتها الانتصارُ لضحايا الحروب والنزاعات المسلّحة، ولامبالاتُها بالحرب المنسيّة في اليمن. كما جاء هذا التراجع معبِّرًا عن حالة التضعضع التي وصلتْ اليها الأممُ المتّحدة منذ عقود، وتأكيدًا أنّ تموضعاتها الإنسانيّة لا تنطلق من حرصها على الدفاع عن حقوق المُنتهَكين، بقدْر ما هي استجابةٌ للضغوط التي تمارسها عليها الدولُ الثريّةُ والقويّةُ الممثِّلةُ غالبًا لإرادة المُنتهِكين.

في يونيو 2015، أصدرت الأممُ المتّحدة تقريرًا حول الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، دان إسرائيلَ و"حماس" لارتكابهما جرائمَ حرب. وعلى خلفيّة هذا التقرير، انتقدتْ إسرائيل الأممَ المتّحدة، وكثّفتْ جهودها الدبلوماسيّة التي أسفرت عن استثناء إسرائيل من القائمة السوداء لمنتهكي حقوق الأطفال في النزاعات المسلّحة! وهو ما يشي برضوخ الأمم المتّحدة لضغوطٍ إسرائيليّة، وإنْ لم يفصح الأمينُ العامُّ حينها عن ذلك، على عكس ما رشح من تعرّض الأمم المتّحدة لضغوطٍ سعوديّةٍ بعد إدراج اسم "التحالف" في قائمة منتهكي حقوق الأطفال في اليمن.

إنّ رضوخَ الأمم المتّحدة لإرادة الدول القويّة، وازدواجيّةَ مواقفها وفقًا لجغرافيا النزاع والدولِ المنخرطة فيه، يؤكّدان فشلَها في الانتصار للضحايا، ويجعلان من هذا التناقض أرضيّةً سياسيّةً تنطلق منها بعضُ الدول للإفلات من المساءلة القانونيّة في جرائمها في بلدان المنازعات. ففي سياق معركة الدبلوماسيّة السعوديّة مع الأمم المتّحدة، لم ينفِ المندوبُ الدائمُ للسعوديّة في الأمم المتّحدة، عبدالله المعلمي، مسؤوليّةَ التحالف عن قتل المدنيين في اليمن، مكتفيًا بالاعتراض على تناقض مواقف الأمم المتّحدة، مستشهدًا بعدم إدراج إسرائيل في القائمة السوداء لعام 2015.  

وللخروج من مأزق التذبذب الذي حكم أداءَ الأمم المتّحدة حيال ملفّ انتهاكات التحالف في اليمن، حاول الأمينُ العامّ، في لقائه مع وزير الدفاع السعوديّ محمد بن سلمان، إظهارَ حرصه على المدنيين اليمنيين. إلّا أنّ ذلك الموقف لم يكن سوى محاولةٍ لتحاشي انتقادات المنظّمات الحقوقيّة. ذلك أنّ المعطيات على الأرض تؤكّد لامبالاةَ الأمم المتّحدة باستمرار انتهاكات أطراف الصراع في اليمن، وخروجَ ملفّ اليمن من يد الأمم المتّحدة ليصبح ملفًّا سعوديًّا بامتياز، تتعاطى معه السعوديّةُ بموجبِ ما تراه ملائمًا في إطار إدارتها للحرب في اليمن، وبات خاضعًا للشدّ والجذب وتنازلات الأطراف اليمنيّة وحلفائها، وكذلك الأمم المتّحدة.

استطاعت الدبلوماسيّةُ السعوديّة السيطرةَ على تداعيات الحرب في اليمن، وفي مقدّمتها الاتّهامات الموجّهة إلى "التحالف" بارتكاب انتهاكات في حقّ المدنيين اليمنيين، عبر المضيّ في اتّجاهيْن متزامنين:

ـــــ سياسيّ: ويتركّز على تأكيد المسؤولين السعوديّين، بعد كلّ إدانة أمميّة لمقتل مدنيين يمنيين، تعهُّدَ السعودية بحماية اليمنيين، كما جاء في تصريح وزير الخارجية السعوديّ، عادل الجبير. إلّا أنّ تلك التعهّدات اللبقة لم تؤدِّ في الواقع الميدانيّ إلى وقف الخسائر البشريّة بين اليمنيين، وإلى حماية المدنيين: فقد تسبّبتْ غارةٌ للتحالف على مدرسة تعليم قرآن في مدينة صعدة إلى مقتل عشرة أطفال؛ وأسفرتْ غارةٌ أخرى مؤخّرًا، على مستشفى في مدينة حجة، عن سقوط عشرات من الضحايا. وأجلَت منظّمة أطباء بلا حدود كوادرَها احتجاجًا على استهدافها من قبل طيران التحالف.

ـــــ حقوقيّ: ويتمثّل في امتصاص السعوديّة لانتقادات المنظّمات العاملة في اليمن. فقد شكّلت السعوديّة فريقًا لـ تقويم الحوادث في اليمن. وبحسب التقرير الأخير لهذا لفريق، فإنّه حقّق في دعاوى 8 غارات، واعترف بوقوع خطأ في غارتين نتيجةً لمعلوماتٍ استخباراتيّةٍ مغلوطة، متعهّدًا بجبر الضرر. إلّا أنّ الفريق المذكور لم يعترف بمسؤوليّة "التحالف" عن سقوط مدنيين يمنيين، ولا بعدم اتّخاذه إجراءاتٍ عسكريّةً تعزّز من سلامة المدنيين في الحرب؛ وهذا يُعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون الدوليّ. وقد إشارت إلى ذلك "هيومن رايتس ووتش" في تحقيقاتها المكثّفة في اليمن؛ كما وثّقتْ "منظّمة مواطنة" الاستهدافَ المتكرّرَ للمدنيين من قبل "التحالف،" وذلك في تقريرها الأخير: غارات عمياء.

كما عمدت السعوديّة إلى عرقلة تشكيل لجنة مستقلّة للتحقيق في انتهاكات أطراف الصراع في اليمن، واعتبار "اللجنة الوطنيّة" التي شكلّها الرئيسُ اليمنيُّ عبد ربّه منصور هادي بديلًا يمنيًّا، وبغطاء سعوديّ، من مطالبة المنظّمات الدوليّة بلجنة تحقيق دوليّةٍ محايدة. فعلى الرغم من ادّعاء اللجنة التحقيقَ في مجمل الانتهاكات التي طاولت اليمنيين، فإنّ اللجنة لم تُصدرْ منذ تأسيسها أيَّ بيانِ إدانةٍ لحوادث قصف التحالف للمدنيين، أو بياناتٍ مطالبةٍ بالتحقيق في هذه الجرائم؛ في حين أنّها أصدرت العديدَ من البيانات المندِّدة بمجازر ارتكبتْها ميليشياتُ الحوثي وقوّاتُ صالح، وشكلّتْ في أكثر من مناسبة لجانَ تحقيقٍ في هذه المجازر، كان آخرها زيارة مدينة مأرب للتحقيق في مقتل الأطفال على يد تلك المجموعات.

منذ انطلاق "عاصفة الحزم" في 26 مارس/ آذار 2016، حرصتْ أطرافُ الصراع اليمنيّة وحلفاؤها الإقليميّون في "التحالف العربيّ" على حسم الحرب عسكريًّا، مهما كانت الخسائرُ في صفوف المدنيين. وبالتالي، لم تكن هذه الأطرافُ حريصةً على تجنّب تنفيذ عمليّاتها في المناطق المأهولة بالسكّان المدنيين، ولم تلتزمْ حيالهم موائمةَ قوانين الحرب التي تضْمن بالدرجة الأولى حمايةَ المدنيين، وجعلتْ من الضحايا المدنيين في اليمن ورقةً إضافيّةً للمساومة والضغط على خصومها.

تتمثّل إشكاليّةُ أطراف الصراع اليمنيّة، و"التحالف العربيّ،" في تعاطيها مع ملفّ الضحايا اليمنيين في وصفه قضيّةً سياسيّة. فلا يقف سوءُ السلطة الشرعيّة اليمنيّة عند حدّ التنصّل من مسؤوليّتها حيال الضحايا الذين قتلتْهم غاراتُ التحالف؛ إذ في مقابل التمسّك بملاحقة مليشيات الحوثي وحزب صالح على خلفيّة انتهاكاتهم الجسيمة في حقّ المدنيين اليمنيين، تغاضت السلطةُ الشرعيّة ــــ التي يفُترض بها أن تُعنى بحماية اليمنيين وإنصافهم ــــ عن الضحايا اليمنيين الذين قتلتهم غاراتُ "التحالف،" وتعاطت معهم كأعداء لا كمواطنين.

تتصدّر جماعةُ الحوثي وحزبُ صالح، على الصعيد الإعلاميّ، الاهتمامَ بضحايا التحالف العربيّ في اليمن. غير أنّ اهتمامَها هذا لا ينطلق من إيمانها بحماية المدنيين اليمنيين في الحرب؛ إذ تستمرّ مليشياتُ الحوثي وقوّاتُ صالح بدورها في تسجيل انتهاكاتها في حقّ المدنيين في مدن تعزّ ومأرب والجوف. وقد حقّق تحالفُ الحوثي وصالح نجاحًا في توظيف ضحايا التحالف العربيّ لصالح تخليق إدانة شعبيّة لسلطة "هادي" وللتحالف العربيّ، وتحديدًا السعوديّة. ومن جهة أخرى، سيستفيد تحالفُ الحوثي وصالح من ملفّ الضحايا في سياق أيّ تسوية سياسيّة مستقبليّة مع السلطة الشرعيّة والسعوديّة؛ ففي مقابل عدم تعرض هذا التحالف للملاحقة جرّاء انتهاكاتهم بحقّ المدنيين في اليمن، سيمكنهم إسقاطُ ملفّ ضحايا التحالف الذي تقوده السعوديّة.

في ضوء لاأخلاقيّة أطراف الصراع اليمنيّة وحلفائها، لا يبدو أنّ ثمّة إمكانيّة لإنصاف ضحايا الحرب، أكانوا ضحايا مليشيات الحوثي وقوات صالح أمْ ضحايا غارات التحالف العربيّ، إذ يتمّ التعاملُ مع ملفّ ضحايا الحرب في اليمن باعتباره ملفًّا سياسيًّا خاضعًا لأجندات تلك الأطراف وحلفائها.

حتّى قبل شهر يونيو الماضي، عوّل كثيرٌ من اليمنيين على الأمم المتّحدة جدارًا أخيرًا يحتمي به الأبرياءُ. لكنّهم، بعد مقايضة الأمم المتّحدة لهذا الملفّ الإنسانيّ بمنحٍ ماليّةٍ من الأقوياء، أصيبوا بخيبة أمل، مدركين أنّ الميزان غيرَ العادل الذي يحتكم إليه العالمُ في ما يخصّ حقوق الإنسان لا يقلّ غرابةً عن حربٍ أهدرتْ إنسانيّتهم.

 

بشرى المقطري

كاتبة وروائيّة يمنيّة، من مواليد 1979. صدر لها: خلف الشمس (رواية، 2012)، وجنوب اليمن في حكم اليسار (مشترك مع فوّاز طرابلسي، 2015).