عايدة مطرجي إدريس: حين تُنجب الأمُّ ثقافةً
20-03-2018

 

عيدُ الأمّ مناسبةٌ كي أكتبَ عن عايدة مطرجي إدريس. لكنّ عايدة مطرجي، قبل أن تتزوّج سهيل إدريس وتصبح أمّي، كانت طالبةً جامعيّةً واعدةً في مادّة الفلسفة، وشابّةً متوقّدةَ الذكاء كما تقول أخواتُها وإخوتها. ثم تزوّجتْ من سهيل إدريس، فأصبحت الدعامةَ الأولى والمدماكَ الأساسَ لمؤسّسة الآداب ــــ دارًا، ومجلةً، وترجمةً، وتحريرًا، ومراجعةً، وإعدادَ قواميس.

والحقّ أنّ الفصلَ بين "مكوِّنات" عايدة مستحيل، وغيرُ مرغوب أصلًا. ولكنّه فصلٌ إجرائيٌّ فقط لكيْ لا يطغى الجانبُ العائليّ على الجوانب الحيويّة الأُخرى من هذه الإنسانة المناضلة، بكلّ ما في كلمة "نضال" من معانٍ، وعلى رأسها التضحيةُ والمثابرةُ والجهادُ والوفاءُ والتفاني، المستندةُ جميعُها إلى معينٍ ثريٍّ من الثقافة الملتزمة بخيْر الناس.

 يبدأ يومُ عايدة، قبل أن يبدأ يومُ غالبيّةِ الناس: بالثقافة. ويُختتمُ يومُها بالثقافة أيضًا. كذا كان دأبها منذ العام 1956، حين التقت سهيل إدريس وتزوّجتْه، بتشجيعٍ وتوصيةٍ ــــ ويا لَلْمفارقة اللاذعة ــــ ممّن سيصبح ألدَّ أعداءِ سهيل والآداب والقوميّةِ العربيّة، عنيْتُ الشاعر سعيد عقل، ابنَ زحلة حيث كانت عايدة تعيش في كنفِ أمِّها وأبيها (مفتي البقاع).

 

 يبدأ يومُ عايدة، قبل أن يبدأ يومُ غالبيّةِ الناس: بالثقافة. ويُختتمُ يومُها بالثقافة أيضًا

 

في فتراتٍ سابقة، أيْ قبل أن يرحلَ حبيبُها سهيل، كانت تصحِّح معه موادَّ مجلة الآداب الواردةَ من قسم التنضيد قبل الطباعة (كانت الموادّ تُرسل بخطّ اليد عادةً): تستلقي على السرير، و"تتابع" معه ــــ وهو جالسٌ على كرسيٍّ صغير أمام طاولةٍ متواضعة ــــ ما قد يكون وقع من أخطاءٍ أثناء التنضيد. ولطالما استيقظتُ، وأنا طفل، على صوتِ سهيل وهو يتدحرج بكلماتٍ لا أفهمُها، أو على صوتِ عايدة وهي تصوِّبُ ما سقط من قراءته، أو تناشدُه أن يتمهّلَ قليلًا لأنّها لا تستطيعُ اللحاقَ به.

ومنذ ذلك اليوم ارتسمتْ في رأسي الصغير صورةُ "الأمّ والزوجة والمثقّفة،" أو صورةُ "المثقّفة والأمّ والزوجة،" أو ما شئتم من ترتيب الأولويّات.

في فتراتٍ لاحقة، صارت عايدة تستيقظ باكرًا جدًّا لتصحِّحَ موادَّ القاموس العربيّ ــــ الفرنسيّ، الذي بدأه سهيل ورحل قبل أن يُكمِلَه، فتركه أمانةً بين يديْ حبيبتِه وأولادِه.

بعد أن تهيّئ عايدة نفسَها للذهاب إلى مكاتب دار الآداب، لا تنسى أنّها ــــ بالتوازي مع كونها فاعلةً ثقافيّةً عربيّةً نادرةً ــــ أمٌّ لـ"أطفالٍ" ثلاثة، مع أنّها اليومَ تجاوزتِ الثمانين وتجاوزوا الخمسين. تذهب إلى المطبخ، وتفتح البرّادَ والخزائن، فتسحبُ منها ما لذّ وطاب ممّا سيأكلُه أولادُها، وخصوصًا أنا، في المكتب، عمّا قليل: لبنة، جبنة، بندورة، زيتون، خيار، بيْض، زعتر،...

تضع مفاتيحَ دار الآداب في جزدانها الكبير، وتتوجّه مع السائق.

تفتح بوّابةَ دارَ الآداب. وخلال دقائق، تبدأ عايدة مطرجي إدريس في تشغيلِ أحدِ أهمّ مَعامل الثقافة العربيّة المناضلة منذ أوائل خمسينيّات القرن المنصرم.

توزِّع عايدة المهامَّ على الجميع: المنضِّدة، والسائق، وعاملةِ المنزل، وتسأل عمّا سنفعلُه اليوم، أنا ورائدة ورنا. ثم تجلس وتبدأ التدقيقَ، والتصحيحَ، والقراءةَ، وإبداءَ الرأي في المخطوطات، والترجمة. وقبل شهور أضافت إلى مهامِّها مهمّتيْن: تعبئةَ شبكة الكلمات المتقاطعة تنشيطًا لذاكرتها؛ ومتابعةَ الفيسبوك، وخصوصًا ما أكتبُه.

ولمتابعي صفحتي على الفيسبوك لن يفوتَهم أن يلاحظوا أنّ عايدة ما تزال تَجْهل آليّةَ "التعليق،" فيأتي تعليقُها أرقامًا غيرَ مفهومة (9، أو 8، وأحيانًا 876) أو طلاسمَ عجيبةً (xgy)؛ لكنّها أرقامٌ وطلاسمُ تكفي لكي أفهمَ منها ما يأتي: "أنا وراءكَ يا بُنيّ أينما ذهبتَ."

وأتخيّلها، وهي عاكفةٌ على الكلمات المتقاطعة، تنتفض فجأةً لتسألَ نفسَها: "هل أكل الأولادُ هذا الصباح؟"

وفورًا تأتينا إلى غرف كلِّ واحدٍ منّا في الدار، على الرغم من مشيتها التي تزداد بطئًا مع الزمن، حاملةً معها ما جلبتْه من مطبخ بيتها. فتتحوّل مكاتبُنا إلى كشكولٍ من الطعام واللغة والأدب: لبنةٌ بقاعيّةٌ قرب لسان العرب، وبندورةٌ جبليّةٌ إلى جانب محيط المحيط، وزيتونٌ أسود وأخضر مُحاذٍ لشافاك وواسيني وفيرّانتي. وبين الفيْنة والفيْنة تمرّ على طاولاتنا، واحدةً واحدةً، فتُلقي عليها ما تيسّر من فستقٍ وراحةِ حلقومٍ وشوكولاطة... هذا إذا لم تتوفّر لديها البضاعةُ ذاتُ العيار الأثقل: من كاجو، وبندقٍ، ورمّانٍ، وفريز.

بعد أن تَضْمنَ عايدة غذاءَ "أطفالها،" تعودُ إلى الثقافة من جديد. وعايدة، لمن لا يعرفها، واعذروني لاستخدام كلمةٍ بذيئة، هي "ملكةُ البعبصة" كما نسمّيها في دار الآداب. فهي أحيانًا تَعْثر على الأخطاء الطباعيّة واللغويّة التي لا يَعْثر عليها أكبرُ مصحِّحٍ في الكون، وذلك لأنّها تَهجس بالدقّة حدَّ الوسوسة. ولكنّها، لفرطِ ما قرأتْ وسمعتْ من أخطاءٍ في الإعلام والجرائد، باتت تشكِّكُ في صحّةِ كلِّ شيء. ولذا تعود إليّ كلَّ عشر دقائق: "سماح، بتقول حتى إنّ، أو حتى أنّ؟"... "ليك سمّوحة، الهمزة وين بتحطّها بهالكلمة؟"... "ليك بدّي اسألك شغلة: بيقولوا خمس عشرة مقالةً أو خمسة عشر مقالًا؟"

ولا تنسى أن تلومَني بين سؤالٍ لغويّ وآخر: "ليش ما أكلت هالفستقاية؟"... "ولك كفّيها لعروس ها اللبنة. رح تضلّك لآخر الليل بلا آكل."

كثيرون يقولون إنّ عايدة ضحّت بموهبتِها كي تكونَ جهازَ دعمٍ وإسنادٍ لمؤسّسة الآداب، من كبيرها (سهيل) إلى أصغرها (سماح). لكنّ عايدة لا تفكِّر كذلك؛ فهي تَعتبر أنّ الأساسَ هو المشروع: المجلّة، الدار، القاموس، المؤسَّسة، الثقافة العربيّة. بعضُ النسويّات قد يعتقدن أنّها تنازلتْ عن طموحاتِها ومواهبِها وذكائها (الخارق) كي تساعدَ عائلتَها. ولكنّ عايدة لا تَعدُّ ذلك صحيحًا لأنّها ترى ذاتَها وطموحاتِها في كلّ كتابٍ يَصدر عن دار الآداب (بإشرافها المباشر)، وفي كلّ عددٍ يَصدر من مجلة الآداب (بإشرافي شخصيًّا)، وفي كلّ حرفٍ يُنجَز من قاموسنا العتيد (بإشرافنا جميعًا).

غير أنّ عايدة، فوق تنكّبِها همَّ المؤسّسةِ والأولاد (والأحفاد)، دائمةُ الخوف عليّ بشكلٍ خاصّ. تخافُ بعد كلِّ مقالٍ أكتبُه، أو خطابٍ أتلوه، أو بيانٍ أصوغُه. بين الموقف السياسيّ الجذريّ الذي تؤْمن به (كما أؤمن)، وسلامةِ ابنِها من أيّ أذًى معنويٍّ أو جسديّ، تنحاز عايدة إلى الأمّ التي فيها، على حساب المبادئ التي اكتسبتْها. وهذه فرصةٌ لكي أعبِّر لها، أمام الجميع، عن اعتذاري لِما سبّبتُه لها من أرقٍ وقلقٍ وعذابٍ منذ أن دخلتُ معتركَ العمل من أجل فلسطينَ الحبيبة حين بلغتُ السادسة عشرة.

اليوم، في عيد الأمّ، أذْكر كيف خرجتْ عايدة إلى الشرفة تناديني بأعلى صوتها كي أعودَ إلى البيت فورًا؛ كان ذلك فجرَ أحدِ أيّامِ الغزو الصهيونيّ الهمجيّ صيفَ العام 1982.

واليوم، في عيدِ الأمّ، أذْكر كيف اضطربتْ وارتاعتْ هلعًا وهي تبحث عن مكانٍ تخبّئ فيه كتبي السياسيّة والصورَ التي علّقتُها في غرفتي (لوديع وغسّان وحبش...) حين دخل الجنودُ الإسرائيليّون شارعَنا في بيروت وطلبوا، بمكبِّرات الصوت، من كلِّ الذكور الذين تجاوزوا السادسة عشرة أن ينزلوا إلى الشارع فورًا (رفضتْ عايدة أن أنزلَ بالطبع).

واليوم، في عيدِ الأمّ، أذكر كيف كانت تصرخ بسهيل، طالبةً إليه أن "يلجمَني" عن تهوّري السياسيّ (كانت تلك فترةَ تدرّبنا على السلاح، ككثيرٍ من شباب لبنان، دفاعًا عن الثورة الفلسطينيّة). وكان سهيل يقف صامتًا، ممزَّقًا بيني وبينها، بل بين نفسِه ونفسِه: بين سهيل الأب الذي يعشقُ ابنَه، وسهيل الوطنيّ القوميّ الذي يتباهى بأنّه أفلحَ في تربيةِ ابنِه على حبّ فلسطين إلى حدّ الاستعداد للشهادة.

على أنّني لا أكتبُ هذه الكلمات يا أمّي كي أعتذرَ إليكِ في الحقيقة، ولا لكي أشكرَكِ، بل لكي أُخبرَ العالمَ شيئًا قد لا يعرفونه؛ شيئًا قد نسيتِه أنتِ نفسكِ في خضمّ الكفاحِ الثقافيّ والنشريّ اليوميّ: أنّ لكِ فضلًا على مئات الكتب العربيّة والمترجَمة في دار الآداب، وفضلًا على آلافِ المقالات والقصائدِ والقصصِ والمسرحيّاتِ والحواراتِ المنشورةِ في مجلة الآداب، وفضلًا على أحد أهمّ مراجعِنا اللغويّة المعاصرة (قاموس المنهل).

أنتِ لستِ أمّي يا أمّي، فحسبُ، بل أنتِ أيضًا إحدى أبرز أمّهاتِ الثقافةِ العربيّةِ الحديثة.

بيروت

سماح إدريس

رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ...). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. عضوٌ مؤسِّسٌ في "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" (2002 ـ ...). ينتهي خلال أعوام من إنجاز معجم عربيّ  ضخم صادر عن دار الآداب.