عندها فقط سأعانق قبرَكَ! (ملفّ)
26-01-2017

 

لم يكن قريبَ دم، بل قريب روح. لم تربطْني به صلةُ قربى، وإنّما ما هو أعمقُ بكثير: صلةُ النصح، والحنان، والأمان، والفضل. كان لي قدوةً، وما يزال. وهو لم يكن أبا أبي الحقيقيَّ، وإنّما أباه الروحيَّ، وأبًا لكلِّ مَن عرفه.

كيف لي ألّا أذكرَ دخولَه إلى بيت جدّي الكائنِ في حيٍّ فقير، والفرحُ والعفويّةُ في كلّ تصرفاته؟ كيف لي أن أنسى طبخةَ المفتول التي كان يأكلُها معنا؟ كيف سأنسى لهفتَه ووقوفَه مع عائلتي يومَ استشهاد عمّي، ويومَ موت جدّي لأبي الذي كان الحكيمُ يجالسه ويحدّثه وقتًا طويلًا بلغة الإشارة لأنّه لا يسمع أو يتكلّم؟ وكيف أنسى وقوفَه إلى جانبنا عندما مرضتْ جدّتي، أو كلّما تعرّض أحدُنا لمكروه؟

من يَقْدر على نسيان دعوات العائلات التي كان الحكيم يخدمها ويسأل عن حاجاتها؟ أكتب الآن عنه ويدي ترتجف وقلبي ينبض بسرعة، وشريطُ إنسانيّته اللامتناهية يمرّ أمامي. أذْكُره في مواقفَ لا تُحصى، منذ صغري وحتّى اللحظة، يرويها لي أبي، "سيف،" الذي رافقه حتّى ذهبتْ روحُ جدّي الحكيم عند باريها، وخلّفتْ لنا حرقةً لن تنطفئ.

توفّي الحكيمُ وهو يقول لأبي: "سلّمْ على الدكتورة،" وهو بذلك يقصدني لأنّه، منذ صغري، يقول لي "دكتورة،" ويحلم بأن أكونَ مثل طه حسين، دكتورةً في الأدب العربيّ، لأنّي كفيفةٌ مثله. وعلى هذا الأساس أنشأ الحكيمُ في داخلي عشقَ الكتابة. لم يترك كتابًا لطه حسين أو غسّان كنفاني إلّا وأهداني إيّاه، وكان يدعوني إلى لقائه كلّما أتى دمشق فأنتظر لقاءه كي أنهلَ المزيدَ من الحكمة الممزوجة بالإنسانيّة والمرح والطيبة. وعندما أنهيتُ الثانويّة، أوّلُ ما فكّرتُ فيه كان تحقيقَ رغبته، وهو ما فعلتُه، فكانت فرحةُ جدّي الحكيم لا توصف، وقال: "اقترب الحلم يا دكتورة."

لكنْ، في تلك السنة، وبالتحديد في السادس والعشرين من كانون الثاني 2008، عندما كان أبي في عمّان، وكنتُ أدرس لامتحاني، رنّ الهاتف، وكانت المتّصلة امرأةً طيّبةً. وكانت تبكي، وتسأل: "أصحيح ما يُقال؟ هل مات الحكيم؟!" وفي تلك اللحظة، سمعتُ النبأَ ــــ الصاعقة على التلفاز: مات جورج حبش! صرت أصرخ: "العظيم لن يموت." كان موتُه فاجعتي الأولى. ولكنّ غصّتي الكبرى هي أنّني لم أزر قبرًا احتضنه، ولم أقبّلْ حجارةً ترعاه كما رعاني.

عهدًا جدّاه، لن أقف أمام قبرك إلّا وشهادتي في يدي. عندها فقط، سأعانقُ قبرَكَ، وأقول لك إنّ الحلم تحقّق يا جدّي الغالي، يا راعي المحتاجين، يا سنديانةَ فلسطين.

السويد

ليليان العائدي

مواليد 1989 دمشق، مخيم اليرموك. حائزة إجازة في اللغة العربيّة من جامعة دمشق. عملت مدرّسة لغة عربيّة لدى مؤسّسة المكفوفين في دمشق. لها عدّة محاولات في الشعر والكتابات الأدبيّة.أقامت لها جامعة دمشق أمسية شعريّة منفردة على أحد مدرّجاتها. غادرت دمشق بعدما فقدت منزلها فيها.