فدائيون بأسنان لبنيّة
29-06-2018

 

في حرب تشرين 1973 قُصِفَ حيُّنا، وتضرّر بيتُنا، وتهدّمتْ حولنا بعضُ بيوت الجيران؛ ما جعل المكان مَوْقعًا رائعًا لألعابنا ومغامراتنا. كنّا صغارًا، وكان لكلمة "حرب" سحرُها الخاص. أمّا مفرداتُنا السياسيّة فكانت محدودةً: "فلسطين المحتلّة،" و"العدوّ الغاصب،" و"الفدائيون الأبطال،" وما شابه.

ولم تكن الحربُ بالنسبة إلينا سوى لعبة: يكفي أن نُمسكَ بأيدينا الصغيرة قِطَعًا من الخشب كأنّها بنادقُ ومسدّسات ونبدأَ الصراخ "طاااااخ .. طاااخ ..." حتّى يتساقطَ الأعداء.

هذا ما فعلناه أمام البعثة الصحفيّة الفرنسيّة التي جاءت لتصوير حيّنا المنكوب. وفي نهاية المشهد وقفنا فوق الرُكام رافعين شاراتِ النصر، وابتساماتُنا تكشف عمّا فقدناه من أسنانٍ لبنيّة. وأذكر كيف ضحك الصحفيُّ وهو يصوّرنا قبل أن يطلبَ إلينا أن نتظاهر بالحزن ليأخذ لنا صورًا أخرى.

وقد فعلنا حقًّا ما أراد!

***

 

أذكر كيف ضحك الصحفيُّ وهو يصوّرنا قبل أن يطلبَ إلينا أن نتظاهر بالحزن ليأخذ لنا صورًا أخرى

 

في ذلك الزمن كانت الإذاعات العربيّة تتحدّث عن "قضيّة الشرق الأوسط" كأنّها تؤثِّر في دوران الكرة الأرضيّة. هذا ما كنّا نتصوّرُه حين نرى آباءنا البسطاء يتابعون نشراتِ الأخبار من دون أن يفهموا شيئًا منها ــ ــ وأنّى لهم أن يفهموا حينها أنّ الأمرَ لا يعدو كونه جزءًا من "لعبة الأمم" وتوزيعَ أدوارٍ بين اللاعبين الكبار؟

أمّا نحن، فكانت لنا ألعابُنا الخاصّة، الخاليةُ من التآمر والخيانات. وكانت لعبة "الحرب" تستدعي تدريبًا جدّيًّا كي نصبح "فدائيين،" كالذين نسمع عنهم القصصَ البطوليّة ونرى صورَهم في الجرائد والمجلّات. لذا اخترنا موقعًا مناسبًا للتدريب: قطعةَ أرضٍ صغيرةً خاليةً إلّا من الحجارة والأشواك.

في المرحلة الأولى تدرّبنا على الزحف وتسلّقِ الجدران. إلى أن بَليتْ أحذيتُنا وأثوابُنا، ونال معظمُنا عِقابًا شديدًا من أهله، فاعتبرْنا ذلك جزءًا من التدريب (ألن يتعرّض الفدائيّ للتعذيب إنْ وقع أسيرًا في يد الأعداء؟).

ثمّ انتقلنا إلى شيءٍ أخطر يتعلّق بالظروف الصعبة التي يمرّ بها الفدائيّ: كأن يبقى عدة أيّام من دون طعام، فيُضطرَّ أن يأكل أيّ شيء عند الحاجة. وهكذا جعلنا من أُغنية "أنا يا أخي آمنتُ بالشعبِ المضيَّعِ والمكبَّل..." نشيدًا لنا. وعلى أنغامها انطلقنا باحثين عن أشياء غريبة نأكلها.

كنّا خمسة أطفال. أكبرُنا سامر، الذي اصطاد سحليّةً صغيرة، فقَضم رأسَها وهي حيّة، ثم تقيّأ بطريقةٍ مُرعبة. أمّا يوسف فبصق نصفَ صفحة الجريدة التي كادت تقتله وهو يحاول ابتلاعَها. وأمّا أنا فقد أكلتُ ورقة جلّنار كبيرةً مغطّاةً بالغبار. وأفلح فارس في أكل بقيّة تفّاحةٍ عفنةٍ تعافها الكلاب.

أخيرًا جاء دورُ ديبو، ابنِ العائلة الأكثر فقرًا في الحيّ. أخرج ديبو من جيبه جسمًا بنيًّا بطول سبّابة، وقضم نصفَه، ثمّ فتح فمَه على آخره بعد لحظاتٍ ليرينا أنه ابتلع كلَّ شيء. وعندما سألناه: "ما هذا الذي أكلتَه يا ديبو؟" أجاب: "خراءً يابسًا،" وعرض علينا ما تبقّى منه في يده. فاستفرغنا جميعًا، وأعلنّا عن انتهاء هذه المرحلة من التدريبات بنجاح.

***

انتقلتُ مع عائلتي من الحيّ وأنا في المرحلة الثانويّة، فشغلتني الدراسةُ، وغابت عنّي أخبارُ رفاق الطفولة والمراهقة. ثم جاءت الحياةُ العمليّة وهمومُها لتفعل فعلها وتُغيّبَ الذكريات.

بعد أكثر من أربعين عامًا، كنتُ جالسًا في حديقةٍ وسط دمشق، أستمتع بشمسات شباط الدافئة، وفي يدي كتاب. وإذْ بصوتٍ مازحٍ يصدر من خلفي:

ــــ ألم تشبعْ من القراءة بعد؟

التفتُّ إلى الوراء لأجد رجلًا خمسينيًّا اعتلت وجهَه النحيلَ ابتسامةٌ لطيفة. وما كدتُ أقف حتّى وجدتُه يضمُّني بقوّةٍ ويُمْطرني بالقبل، وهو يقول:

ــــ لن تعرفنَي. أنا أديب، صديقُ الطفولة.   

ــــ ديبو؟!

ــــ ديبوووو، قال وهو يهزّ يدي بحماس.

جلسنا أكثر من ساعتين نتحدّث عن أيّام الطفولة والشقاوة، وعن بنات الجيران. وعرفتُ أنّه تزوّج إحداهنّ: تلك النحيلةَ التي كانت تلعب معنا كرةَ القدم، وكان ديبو يضمّها دومًا إلى الفريق متجاهلًا احتجاجاتِنا قائلين:

ــــ الفتيات لا يلعبن كرةَ القدم يا ديبو.

فيصرخ بنا، وهو يُشير إليها كأنّنا بلا عيون:

ــــ لكنّها ليست فتاةً!

أخبرني ديبو أنه يقرأ ما أكتبه في عمودي الصحفيّ الأسبوعي الذي تتصدّره صورتي الشخصيّة، وبسببها تعرّف إليّ. وحين سألتُه عن حياته تنهّد قائلًا بتعب:

ــــ حياتي شقاءٌ بشقاء.

وتابع وأنا أمسك بيده مواسيًا:

ــــ لم أكملْ تعليمي، كما تعْلم، بسبب ظروفنا الصعبة، واضطراري إلى العمل في سنّ مبكّرة كي أُعينَ أمي وإخوتي وأبي المريض. فكبرتُ والمِعوَلُ في يدي، فيما راحت أكياسُ الإسمنت والحصى والرمل تطحن ظهري المقوّسَ...وما تبقى من الأحلام.

كان يتكلّم بأسًى. وكنتُ أحاول الهروب من نظراته التي شعرتُ ــــ لسببٍ ما ــــ  أنّ فيها الكثير من الاتهامات. فسألتُه، مغيِّرًا دفّةَ الحديث، عمّا جاء به إلى دمشق، فقال:

ــــ أتيتُ إلى هنا بعد استشهاد ابني خالد في بداية الثورة.

ثم غصّ بالكلام وسألني بعد برهةٍ من الصمت:

ــــ هل هذه ثورة حقًّا؟

ــــ إنّها كذلك بالنسبة إلى البعض، قلتُ متحاشيًا النظرَ إلى عينيه.

ثم صرتُ أربّتُ على كتفه، إلى أن تمالك نفسَه وتابع:

ــــ حدث هذا في نهاية سنة 2012. طالته رصاصةُ قنّاصٍ أثناء مهمّةٍ كُلّف بها خارج المدينة من قِبل مؤسّسة الكهرباء حيث كان يعمل. فقرّرتُ المجيء إلى هنا هربًا من حزني. لكنّ القدر لم يتركْني في حالي، وخسرتُ ابني الثاني ، الذي تطوّع في الجيش واستُشهد هو الآخر بعد عامٍ من مقتل أخيه.

كان ديبو يرتجف وهو يقصّ عليّ قصّتَه. وكانت الغصّة تسدّ حلقي، ففضّلتُ الصمتَ من جديد. تابع وهو يبكي:

ــــ لا اعتراضَ على حكم الله. ولكنْ، إنْ كان لا بدَّ من الشهادة، فكنتُ أريده أن يُستشهد في فلسطين.

ثمّ سألني، كأنه يحزّ عنقي بكلماته:

ــــ أتذْكر ألعابنا؟ أتذْكر فلسطين؟

لم أتمالكْ نفسي وبدأتُ، أنا الآخر، البكاءَ. في تلك اللحظة، وعلى الرغم من تعاطفي معه، تمنّيتُ لو يختفي كما ظهر فجأةً. كان صدري يضيق ويضيق، وبدا ديبو في منتهى التوتّر وهو يَشغل نفسَه بحفر الأرض بقدمه وإعادةِ ردمها والعودةِ إلى حفرها ثانيةً. بقينا هكذا لعدّة دقائق، قبل أن أسأله محاولًا الهروبَ من الموقف، من غير أن أعلمَ أنني أزيد الطينَ بلّةً:

ــــ والآن، ماذا تعمل هذه الأيّام؟

ردّ بسخرية وهو يشير برأسه إلى باب الحديقة:

ــــ انظرْ هناك، إنّه مكتبي ومصدرُ رزقي. وأنا على أبواب التقاعد الآن.

نظرتُ إلى حيث أشار، فرأيتُ عربةً صغيرةً لجمع القُمامة تستند إليها مكنسةٌ ضخمةٌ ذاتُ عصًا طويلة. ومع تقديري لكلّ الأعمال الشريفة وللعاملين فيها، فقد تلعثمتُ بالكلام عندما حاولتُ مجاملتَه من أجل التعبير عن احترامي لما يقوم به.

حزر ديبو سببَ ارتباكي فتمتم:

ــــ لا ألومك.

ثم أضاف وهو يصافحني مودِّعًا: عليّ متابعة عملي الآن.

فسألته قبل أن أتركَ يده:

ــــ  لم تخبرني شيئًا عن زوجتك وباقي الأولاد؟

ــــ زوجتي توفّيتْ من الحسرة. وبقي عندي شابّ وحيد اسمُه مُؤيّد، ينتظر أن نقبض التعويضَ عن أخيه الشهيد كي يأخذَه ويسافرَ خارج البلاد.

ــــ وأنت، كيف ستعيش؟ سألتُه مُبديًا الكثير من التعاطف. فأجابني وهو يسحب يده من يدي بهدوء:

ــــ كما يعيش الفقراء، قالها ومضى.

جلستُ على مقعدي متهالكًا وأنا أراقبه يبتعد. ومع كلّ خطوةٍ كنتُ أعودُ في الزمن سنواتٍ إلى الوراء. إلى أن وصل عربته، وأمسك بمكنسته، ثم التفت نحوي ولوّح بيده مودّعًا. فرأيته ديبو، "الفدائيّ الصغير،" رافعًا شارةَ النصر فوق ركام حيّنا القديم.

اللاذقيّة       

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).