في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة
13-02-2018

 

500 عام والكنيسةُ الأرثوذكسيّة تناضل ضدّ القهر، وضدّ إقصاء أبنائها، وضدّ التفرّد والاستئثار بمقدِّراتها وممتلكاتها، من قِبل مجموعةٍ صغيرةٍ من الرهبان اليونان.

500 عام وهي تناضل من أجل استعادة هويّتها الأصل، واستعادةِ حقوقِ أبنائها في وطنهم أوّلًا، وكنيستهم ثانيًا.

500 عام يَصْعب اختزالُها بكلمات، بسبب ما تحمله هذه الأعوامُ الطويلة من تضحيات في وجه التآمر وتقاطُعِ المصالح الإقليميّة والدوليّة التي أحدثتْ تحوّلًا تاريخيًّا في مسار الكنيسة وأنتجتْ أزمتها.

ولذلك فإنّنا سنكتفي بتناول أهمّ المحطّات، محاولين رسمَ لوحةٍ تاريخيّةٍ تقدِّم للقارئ معلوماتٍ قد تخلق لديه حافزًا لكسب مستوًى أعلى من المعرفة.

 

الكنيسة ما قبل الحكم العثمانيّ

تأسّست الكنيسة الأرثوذكسيّة في فلسطين في العام 52 م على يد القدّيس يعقوب ابن يوسف النجّار (قتله اليهودُ بعد عشر سنوات). هي أسقفيّةُ القدس والأراضي المقدّسة، وقد تعاقب على رئاستها العشراتُ من الأساقفة العرب، إلى أن تحوّلتْ إلى بطريركيّة في المجمع المسكونيّ الرابع سنة 451 م. وترأّس الكرسيَّ البطريركيّ بعد ذلك عشراتُ البطاركة العرب، منهم: البطريرك إيليا النجدي (494 م)، والبطريرك صفرونيوس الدمشقي (634 م) الذي استقبل الخليفة عمر بن الخطّاب، والبطريرك يوحنّا (705 م) الذي منع الصلاةَ في الكنائس إلّا بالعربيّة.

في العام 1099 احتلّ الفرنجةُ القدسَ، في ما اصطُلح على تسميته "الحروب الصليبيّة،" والصليبُ منهم براء. فقتلوا العربَ المسيحيين والمسلمين على السواء، واحتلّوا البطريركيّة الأرثوذكسيّة في القدس وطَردوا من فيها، واستولوا على كنيسة القيامة، وعلى العديد من الكنائس والأديرةِ العربيّة الأرثوذكسيّة، ونصبوا كهنةً ورجالَ دين جاؤوا على متن الحملات الاستعماريّة. ولم تستَعِدِ البطريركيّةُ عروبتَها إلّا سنة 1187، حين فتح صلاحُ الدين القدسَ، بالتعاون مع القائد العسكريّ الأرثوذكسيّ عيسى العوّام وجيشه.

منذ تأسيس الكنيسة الأرثوذكسيّة وحتى العام 1516 لم يذكر التاريخُ حالاتِ خلافٍ أو صراعٍ بين الكهنة والرعيّة العرب من جهة، والرهبانِ من الجنسيّات غير العربيّة من جهةٍ أخرى. فقد كانت كنيسةً مستقرّةً تقوم بواجباتها تجاه رعيّتها على المستويين الروحيّ والاجتماعيّ.

 

الانقلاب  على الكنيسة العربيّة الأرثوذكسيّة

لكنْ منذ خضوع البلاد للحكم العثمانيّ سنة 1516، تلاقت المصالحُ والحساباتُ السياسيّة العثمانيّة مع اليونان، فجرى الاستيلاءُ على الكنائس الأرثوذكسيّة في المشرق العربيّ  والبلقان. كما استُقدِم رهبانٌ يونانيون بهدف الهيمنة اليونانيّة على الكنائس. وبضغطٍ وتآمرٍ على آخر البطاركة العرب في القدس، البطريرك عطالله، انتُخب البطريرك جرمانوس عام 1534، فكانت البدايات المنهجيّة للاستيلاء على الكنيسة وتغييرِ هويّتها العربيّة بالهويّة اليونانيّة.

فقد  أقدم جرمانوس على ما يأتي:

ــــ ضمّ "أخويّة القبر المقدّس"(1) إلى البطريركيّة عام 1537. ومنذ ذلك التاريخ أصبحنا أمام كيانٍ واحدٍ تمركزتْ فيه السلطةُ في يد البطريرك.

ــــ اعتماد سياسة الإهمال والتقصير في رعاية أبناء الكنيسة.

ــــ إلغاء الأبرشيّات القائمة، وتقليص صلاحيّات المطارنة العرب.

ــــ حصْر الرئاسة الروحيّة بالعنصر اليونانيّ، وذلك بتنصيبِ يونانيٍّ بدل كلّ أُسقف عربيّ يتوفّى أو يتقدّم في العمر.

ــــ توريث بطريرك يونانيّ آخر، هو ثيوفانس (1579)، الذي أمعن في انتهاج سياسة وقوانين عنصريّة. ففي أوّل قانونٍ يسنّه عام 1608 مُنع أبناءُ الكنيسة المقدسيّة الأرثوذكسيّة الوطنيّة من الوصول إلى أيّة درجةٍ من الدرجات الأكليروسيّة أو الرهبانيّة.

ثم جاء البطريرك ذوسيثيوس من بعده، فوضع سنة 1669 "قانونَ أخويّة القبر المقدّس،" الساري حتى اليوم. هذا القانون، المغرقُ في عنصريّته، يحظِّر قبولَ أيّ عربيّ أرثوذكسيّ من فلسطين وشرق الأردن في عضويّة تلك الأخويّة، وينصّ على انتخاب بطريرك أو مطران من أعضاء تلك الاخويّة فقط . كما أنّه يَعتبر أملاكَ الكنيسة، على اختلاف أنواعها، ملْكًا وإرثًا خالصًا للأمّة اليونانيّة .

 

"أخوية القبر المقدّس": لا خطوط حمر للحفاظ على... عنصريّتها

1 ــــ سنة 1873 تنقلب الأخويّةُ على البطريرك كيرلس وتعزله بحجّة تقرّبه من روسيا ومحاباة العرب.

2 ــــ سنة 1875 تُصدر السلطةُ العثمانيّة قانونًا خاصًّا بالبطريركيّة يُدخِل كلمة "الروم" على اسمها. فيحتجّ العربُ، ويرفضون القانون، فيجري ــــ تحت الضغط الشعبيّ ــــ إدخالُ مادّة جديدة تنصّ على تأليف "النظارة العليا" لإدارة شؤون البطريركيّة، برئاسة البطريرك، نصفُها من الرهبان العرب واليونان، والنصفُ الآخر من العلمانيين العرب. كما ينصّ القانون أيضًا على السماح للعرب الأرثوذكس بدخول سلك الرهبنة والوصول  إلى أعلى الدرجات. لكنّ شيئًا من ذلك لم ينفّذ.

3 ــــ في العام 1882 يُطلق راهبٌ يونانيّ النارَ على البطريرك نيقوديموس (الذي كان قد أنشأ مدرسةَ مار متري بالقدس وأقام المباني والدكاكينَ في باب الخليل والدباغة) بتهمة محاباة العرب.

4 ــــ سنة 1890 يطالب العربُ الأرثوذكسُ البطريركَ جراسموس بالالتزام بتعهّدات البطريركيْن السابقيْن، نيقوديموس واياروثيوس، فيجيبهم أنّ منشور اياروثيوس قد دُفن معه.

وكان اياروثيوس قد أعلن تعهّدَه بتطبيق قانون "النظارة العليا" التي يرأسها البطريركُ، ونصفُ أعضائها من الرهبان اليونان والعرب، فيما النصفُ الآخر من العلمانيين العرب، ومهمّتُها الإدارة المشتركة للبطريركيّة. كما أعلن موافقتَه على السماح لأبناء الرعيّة العرب بدخول سلك الرهبنة وإتاحة الفرصة لهم لبلوغ أعلى درجات الكهنوت؛ وهذا ما التزم به خلَفَه البطريرك نيقوديموس.

5 ــــ  سنة 1908 تنقلب "أخويّةُ القبر المقدّس" على البطريرك دميانوس، وتعزله بتهمة محاباة العرب، وذلك بسبب قبوله تشكيلَ مجلسٍ مختلط يضمّ أعضاءً من الوطنيين العرب. فينتفض العربُ الأرثوذكس باحتجاجاتٍ ومظاهرات، ويستولون على البطريركيّة وجميعِ الأديرة. تتدخّل السلطة العثمانية وتقمع المحتجّين كعادتها، فيسقط 4 شهداء في القدس، ويصاب آخرون، ويُعتقل العشرات، ويُبعَد آخرون إلى مقرّ الولاية في بيروت. وتحت الضغط  الشعبيّ يعود دميانوس بطريركًا، ولكنّه يتنكّر لعهوده.

 

فى زمن الانتداب البريطانيّ

سارعت الأخويّة إلى التحالف مع الاستعمار البريطانيّ لفلسطين عام 1917، فعملتْ بدعمٍ منه على عزل البطريرك دميانوس بعد اتهامه لدى الحكومة اليونانيّة بأنّه يَصبغ البطريركيّة بصبغة أرثوذكسيّة عامّة، ويغيِّر من صبغتها اليونانيّة التي اتّصفت بها منذ القدم ــــ وهو ما يمسّ "حقوقَ أمّتنا" التقيّة القديمة ويعود عليها بالخراب.

في العام 1921 صدر قانونٌ بريطانيّ جديد يكرِّس الوضعَ القائم ويتنكّر لحقوق العرب ومطالبهم. قوبل هذا القانونُ بالرفض والاحتجاج، وعُقد المؤتمرُ الأرثوذكسيّ الأوّل في حيفا سنة 1923، وانتُخبتْ لجنةٌ تنفيذيّة، وصدرتْ جملةٌ من القرارات المتعلّقة بالحقوق. وتفاقم الوضع تأزّمًا:

ــــ فمن جهة، خلافٌ يونانيّ بين الأخويّة ودميانوس الذي أعيد إلى سدّة البطريركيّة رغمًا عن إرادة الأخويّة؛

ــــ ومن جهة اخرى، الاستمرار في التنكّر للحقوق.

في العام 1925 شكّل المندوبُ السامي لجنةً خاصّةً لدراسة الوضع، برئاسة كبير القضاة برترام. اللجنة في تشخيصها وتوصياتها قالت:

1) إنّ العرب الأرثوذكس هم ضحيّةُ تطوّرٍ تاريخيّ، ولذا أوصت بإزالة الآثار السلبيّة التي أحاطت بهم.

2) إنّ أخويّة القبر المقدّس قد صبغت البطريركيّة بصبغة يونانيّة خلال 400 عام. ولذا أوصت اللجنة بتعديل القوانين بما يَمنح العربَ مزيدًا من المشاركة في الإدارة، وبأن يتمتّعوا بأغلبيّة الثلثيْن في المجلس المختلط، والسماح لهم بالالتحاق بالأخويّة. كما أوصت بتعديل قانون انتخاب البطريرك.

3) إنّ اخوية القبر المقدس تعتبر بطريركيّة القدس وديعةً بين أيدي الأمّة اليونانيّة، وتعتبر نفسَها حاميةً يونانيّةً أماميّة، من دون النظر إلى مسؤوليّاتها تجاه الأرثوذكس العرب.

قدّمت اللجنة مسوَّدةَ قانون جديد للبطريركيّة، بديلًا للقانون العثمانيّ. فطالب العرب بتطبيق التوصيات، لكنّ الأخويّة رفضتْ مسوَّدةَ القانون بدعوى أنّ حكومة فلسطين البريطانيّة لا يحقّ لها فرضُ قانون جديد.

تواصل النضالُ العربيّ الأرثوذكسيّ، فانعقد المؤتمرُ العربيّ الأرثوذكسيّ الثاني في يافا سنة 1931، ورفع مذكّرةَ احتجاج إلى المندوب السامي البريطانيّ. كما أقرّ مقاطعةَ انتخاب بطريرك جديد، وعدمَ الاعتراف به في حال انتخابه. لذا لم يُنتخبْ بطريرك جديد حتى سنة 1935، وذلك بإصدار قانون انتدابيّ قاطعه العربُ الارثوذكس كما الكهنة العرب.

استمرّت الاحتجاجات حتى انعقاد المؤتمر العربيّ الأرثوذكسيّ الثالث في القدس عام 1944. وهذا المؤتمر أكّد رفضَ القرارات البريطانيّة، وجدّد تأكيدَ قرارات المؤتمرات السابقة، وفي مقدّمتها انتخابُ بطريرك عربيّ.

 

بعد النكبة واحتلال كامل فلسطين

سنة 1956 انعقد المؤتمرُ العربيّ الأرثوذكسيّ  في القدس، وهو الأوّل الذي يُعقد بعد وحدة الضفتيْن تحت الحكم العربيّ الهاشميّ، وأثمر ــــ للمرّة الأولى ــــ إمكانيّةً واقعيّةً لإنصاف العرب الأرثوذكس عبر قانونٍ متوازن، يعطي الحقَّ مستحقّيه، وهو قانون 1957 في عهد سليمان النابلسي. وقد أقرّه مجلسُ النواب، ثمّ مجلسُ الأعيان، لكنّه سُحب  قبل استكمال المراحل الدستوريّة، واستُبدل بقانون 27/1958 الذي لا يلبّي الحدّ الأدنى من الحقوق في عهد حكومة سمير الرفاعي.

ومع احتلال باقي فلسطين في العام 1967 دخل هذا الاحتلالُ عنصرًا فاعلًا ومؤثّرًا في سياسات البطريركيّة والبطاركة اليونان، خصوصًا في ما يتعلّق بموضوع الأملاك والأراضي وتسريبها لصالح دولة الكيان الصهيونيّ. وهذا التسريب كان قد بدأ منذ عشرينيّات القرن العشرين وثلاثينيّاته ــــ تارةً بالتدخّل البريطانيّ، وتارةً بوساطة القنصل اليونانيّ ــــ من أجل سيطرة العصابات الصهيونيّة على أكبر مساحة أراضٍ ممكنة تهيئةً لإقامة الدولة الصهيونيّة العتيدة. وهنا نجزم القول إنّه لولا تسريبُ الأراضي، وبمساحات شاسعة، وعبر عشرات الصفقات، لما كان هناك قدسٌ غربيّة تقام عليها أهمُّ مؤسّسات دولة الاحتلال السياديّة ورموزِها، ولما كان في مستطاع الكيان الصهيونيّ أن يعتبر القدسَ عاصمةً له.

 

واليوم...

سنة 1992 انعقد المؤتمرُ العربيّ الأرثوذكسيّ الخامس في عمّان تحت شعار "من أجل نهضة أرثوذكسيّة شاملة."

ومع دخول السلطة الفلسطينيّة إلى الضفّة وغزّة لم يتغيّر شيء يُذكر، لا على صعيد وقف تسريب الأملاك والعقارات الوقفيّة إلى الصهاينة، ولا على صعيد إنصاف العرب الأرثوذكس وإعادة الحقوق إلى أصحابها. بل راح الوضعُ يزداد سوءًا. وهذا ما يتجلّى في  ضعف جسم الكنيسة، وغيابِ الدور الرعائيّ والرعويّ المفترض، واستمرارِ إقصاء العرب ، والمزيد من الممارسات العنصريّة ضدّ الكهنة العرب.

إنّ القضيّة العربيّة الأرثوذكسيّة ليست شأنًا كنسيًّا داخليًّا يتعلّق بالمفهوم الكنسيّ وطقوسه ومفاهيمه اللاهوتيّة وتعاليمه الدينيّة ــ ــ فهذه كلُّها ليست موضعَ نقاش أو خلاف بين أبناء الكنيسة ورئاستها الروحية ــ ــ بل هي قضّية وطنيّة، تتعلّق بالهويّة والوجود العربيّ لأبناء الكنيسة العرب وأملاك الكنيسة على السواء، بوصفهما من المكوِّنات الأساسيّة للشعب العربيّ الفلسطينيّ وترابه الوطنيّ. وعليه، فإنّ الحَراك العربيّ الأرثوذكسيّ الاحتجاجيّ جزءٌ أصيل من نضال الشعب الفلسطينيّ من أجل الحريّة والاستقلال.

فعلى امتداد 500 عام مارس أبناءُ الكنيسة الأرثوذكسيّة العرب أشكالَ النضال، المتاحةَ والممكنة، كافّةً: بدءًا بالحوار مع الرئاسة الروحيّة، مرورًا بالتفاوض مع السلطات السياسيّة التي حكمتْ فلسطين، وانتهاءً بالانتفاضات المتعدّدة واحتلال الكنائس والأديرة، وما نجم عنها من شهداء واعتقال وإبعاد إلى مركز الولاية العثمانيّة بيروت. وما الانتفاضة الأخيرة، التي بدأتْ في تمّوز 2017، إلّا حلقة جديدة في اتجاه تحرير البطريركيّة من الهيمنة اليونانيّة، على طريق استعادة الحقوق المسلوبة، وإصلاح النظام الكنسيّ، من أجل بقاء أبناء الكنيسة على أرض الوطن، وتعزيز صمودهم، وصيانة أملاك الكنيسة من عمليات النهب والبيوع التى يقْدم عليها البطريرك الحاليّ، الذي تم عزله شعبيًّا ومؤسّساتيًّا، وصولًا إلى الاعتراض على دخوله كنيسة المهد في 6/1/2018.

بيت ساحور (فلسطين)

(1) أخويّة القبر المقدس: هيئة واسعة تتكوّن من البطريرك وجميع المتروبوليت ورؤساء الأساقفة والأساقفة والأرشمندريتيين والكهنة المتوحّدين والشمامسة المتوحّدين والرهبان المبتدئين المنتمين إلى البطريركيّة. حاليًّا عددُهم 113 في بطريركيّة الروم الأرثوذكس بالقدس، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين عن إدارة القبر المقدّس وجميع الاماكن الدينية في فلسطين والأردن، وحرّاسًا لها باسم العالم الأرثوذكسيّ. غالبيتهم من اليونان، ولا يتجاوز نسبة العرب داخلها 10% .

 

جلال برهم

عضو المجلس المركزيّ الأرثوذكسيّ في الأردن وفلسطين. رئيس النادي الأرثوذكسيّ الثقافيّ العربيّ في بيت ساحور. اعتقله الاحتلالُ الإسرائيليّ طوال تسع سنوات (1985  ــــ 1994) .